صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

صبحي حديديكان صوت سركون بولص يصلني، من برلين هذه المرّة وليس من أمريكا، واهناً متقطعاً، شديد الإعياء والضعف، مريضاً، لكنه مع ذلك ظلّ شديد الوفاء لتلك النبرة المركبة المميّزة التي سحرتني على الدوام (أنا، ابن منطقة الجزيرة السورية، المحاذية للعراق)، والتي تمزج لكنة أبناء الحبّانية حيث ولد سركون، باللكنة الكركوكية حيث ترعرع، دون أن تخسر البتة خصوصية اللغة الآشورية في إيقاعاتها الحسّية المشبعة بالنبر.
تجاوز سركون سنّ الستين (ولد سنة 1944)، لكنّه يظلّ من طراز الشعراء الذين يجعلنا منجزهم الشعري المفتوح نخالهم شباباً، سواء في محتوى المنجز وقِيَمه الجمالية والفنّية، أو في مواصلتهم ممارسة تأثيرات فتيّة تماماً في الأجيال الشعرية الراهنة. ويحلو لي اليوم، ليس لأيّ اعتبارات شخصية، بل من باب الاعتزار بهذا الشاعر الكبير، المقلّ على نحو مذهل، أن أستعيد تفصيلاً كنت قد توقفت عنده بتمعّن قبل قرابة عشر سنوات، في مراجعتي لمجموعته الخامسة "إذا كنت نائماً في سفينة نوح"، دار الجمل، 1998: أنّ بولص أحد كبار حاملي همّ تطوير مقترحات إيقاعية نابعة من شعريات النثر ذاته، بوصفه الوسيط الخطابي في الكتابة الشعرية.
وكان هذا الهمّ قد ولد بطيئاً منذ بدء ما نسمّيه الحداثة الشعرية العربية، وتعمّد الشعراء المزيد من البطء في ارتياده، حتى انحصر الاجتهاد حوله في محاولات التنظير فقط: نقاش البُنية «الكمّية» في العروض العربي (بالمقارنة مع البُنية «النبرية» في الشعر الأنغلو ـ ساكسوني، والبُنية «المقطعية» في الشعر الفرنسي)؛ وتوسّل آفاق إيقاعية جديدة بوسيلة مصالحة نظام التفعيلة ونظام النبر (جهود محمد النويهي، التي كانت تستكمل ريادة محمد مندور في هذه المسألة)؛ والحديث عن «موسيقى، لكنها ليست موسيقى الخضوع للإيقاعات القديمة المقننة، بل هي موسيقى الإستجابة لإيقاع تجربتنا المتموجة وحياتنا الجديدة (...) إيقاع الجملة، وعلائق الأصوات والمعاني والصور وطاقة الكلام الإيحائية، والذيول التي تجرّها الإيحاءات وراءها من الأصداء المتكونة» (سارة برنار/أدونيس)؛ والمحاولات اللاحقة للإستعاضة عن مصطلحات تقنية صرفة، مثل السبب والوتد والتفعيلة والبحر، بمصطلحات وصفية إنشائية مثل النواة الإيقاعية والوحدة الإيقاعية والتشكّل الإيقاعي (كمال أبو ديب)...
وأولى عتبات بولص في ردم الهوّة الكاذبة بين مسمّيات "الشعر الحرّ" و"قصيدة التفعيلة" و"الشعر المنثور" و"قصيدة النثر"، أي بين الشعر وأشباهه في عبارة أخرى، كانت دأبه العنيد في البحث عن عشرات الحلول الفنية الكفيلة باستيلاد عمارات إيقاعية رفيعة، متغايرة على نحو مَرِن؛ واستغلال عشرات الديناميات الناجمة عن تطويع العناصر الطباعية والصرفية والصوتية والشعورية، هذه التي ينبغي أن يجترحها الشاعر ـ عن سابق قصد وتصميم وصنعة، كما يتوجب التشديد ـ إذا لم تكن القصيدة نفسها هي التي تستحثّ عليها في المستوى الأبكر من مشروع الكتابة.
ويحلو لي، هنا أيضاً، ان أستعيد قصيدة "إلى امرىء القيس في طريقه إلى الجحيم"، في مجموعة بولص الرابعة «حامل الفانوس في ليل الذئاب»، دار الجمل، 1996، لكي أساجل مجدداً بأنها واحدة من أفضل 50 قصيدة عربية كُتبت على امتداد القرن العشرين بأسره. وما يمنح القصيدة قيمة كبرى مضافة، تعليمية وتربوية صرفة، هو أننا بحاجة إلى هذا النوع بالذات من القصائد، إذا كنّا سنشتغل على تربية ذائقة الأجيال العربية الشابة عن طريق النصوص الشعرية ذاتها، بدل ما فعلناه ونفعله من حروب التنظير وتبادل الإتهامات حول تحميل المسؤولية للشاعر أو الناقد أو القارىء. وبمثل هذه القصيدة نستطيع إقناع التلميذ والطالب والطالب الجامعي، قبل القارىء المتوسط أو المثقف أو النخبوي، بأن يعايش ويعيش ويألف جماليات الشعر الخالص في القصيدة، دونما حاجة إلى السؤال والتساؤل عن الوزن وانعدامه، عن الإيقاع المسموع أو «الإيقاع الداخلي»، عن القصيدة أو «قصيدة النثر»، وأخيراً ـ والأهمّ، على الأرجح ـ عن الشعر والنثر.
وبمثل هذه القصيدة نستطيع تقريب البون بين قراءة للشعر تبدأ من معطيات القصيدة ذاتها وبِوَحي مما تنجزه من جماليات متعددة (فنّية وتربوية ونقدية وروحية وشعورية وذهنية...)، وبين قراءة تبدأ مما ليس في القصيدة، مما هو قبلها أو فوقها أو دونها. يقول بولص: "أصغي/ لكي أسمع الصحراء تغنّي/ وليس صهيل أمريكا المتعالي كألف حصان جريح/ من حولي، إلى عصر آخر سَفّته يدٌ قويةٌ من الرمل/ في ذلك الفم الفاغر للزمن حيث الأطلالُ/ دائماً بانتظار/ المناسبات/ بسقْط اللوى. بين الدَخُول فحَوْمَلِ. إنها دائماً هناك". وندرك أنّ النصّ يحفّز أفضل ما في ذاكرتنا الشعرية، لأنه أساساً يذكّرنا بأنّ هذه اللغة البديعة الثرّة والحارّة هي ذاتها التي أتاحت لامرىء القيس أن يقول ما قاله عن الصحراء والأطلال وسقط اللوى والدخول وحومل، وتتيح لبولص أن يستعيد عناصر جَدّه الشعري.
أقول له، على الهاتف: "شدّ همتك! ألستَ في برلين التي أحببتَ على الدوام؟"، ولا تغيب روح النقد اللاذع عن الصوت الواهن حين يردّ: "الأطباء الألمان عالجوني أفضل، وداعتك!"، فأجيبه ممازحاً بدوري: "تعال إلى باريس، لعلّ أطباءها سيتفوقون على الأمريكان والألمان معاً". وإذْ أغلقُ السماعة، أتذكّر أنني لم أسأله عن العراق، أي: عن الأطلال التي هناك!