صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

رامبوأستعيد، لأنّ المقام يقتضي استعادة كهذه، كما يقتضيها الإنصاف المبدئي، ما اعتقدت وأعتقد أنه مسار غير مألوف انتهجه الصديق الشاعر والناقد والمترجم والأكاديمي العراقي كاظم جهاد، الذي بدأت بتوصيفه شاعراً لأني هكذا أراه أوّلاً، وربما ثانياً أيضاً! ذلك لأنّ أشغاله الثقافية اللامعة، منذ أواسط السبعينيات حين استقرّ نهائياً في فرنسا، لم تكن واسعة النطاق متعدّدة الحقول فحسب، بل كانت سيرورات تأسيس منظّمة، انتظمت خلالها شخصيته الإبداعية والنقدية والفكرية.
إنه أبرز مترجمي الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، ولعلّه أفضل المعلّقين علي الفلسفة التفكيكية، ليس في ميدان تطبيقاتها النقدية والجمالية فحسب، بل أيضاً في مستواها الفلسفي الصرف والأكثر مشقّة وتعقيداً. لكنّ جهاد لم يتوقّف عند دريدا وحده، بالرغم من أنّ انخراطه في التعريف بالتفكيكية كان كفيلاً بصرفه ـ وعلي نحو مشروع تماماً ـ عن متابعات أخري في ميادين الفلسفة والآداب والنظرية الأدبية علي امتداد القارّة الأوروبية. لقد قدّم جيل دولوز وفيليكس غواتاري، وترجم جان جينيه وخوان غويتيسولو، كما نشر في فصلية الكرمل حوارات معمّقة دائمة الأهمية مع كبار المفكّرين الفرنسيين. وهو ناقد ودارس للأدب وللنظرية الأدبية، وقدّم بالفرنسية عملاً فريد المحتوي عن قصص الكرامات، والبناء الفنّي للمعلّقات، وشعر بدر شاكر السياب، والرواية العربية. ولقد سبق لي أن اعتبرت كتابه أدونيس منتحلاً ، خصوصاً في طبعته الثانية المنقّحة والمزيّدة، عملاً نقدياً جادّاً يستهدف إضاءة جملة مسائل نظرية تتّصل بإشكالية التناصّ وتشـــابه النــصوص، والاستحواذ الأدبي، والترجمة، وما إلي ذلك.
لكنّ الشعر، كتابة ونقداً وترجمة، يظلّ هاجس جهاد الأهمّ، وإلي جانب مجموعتين في الشعر، الماء كلّه وافد إليّ ، 1999؛ و معمار البراءة ، 2006؛ ترجم جهاد الكثير من الشعر العالمي، لأمثال البرتغالي فرناندو بيسوا، والمكسيكي أوكتافيو باث، واليوناني أوديسيوس إيليتيس والفرنسي رينيه شار؛ فضلاً عن الإنجازين الكبيرين: الكوميديا الإلهية ، وأشعار ريلكه الفرنسية. كذلك أنجز أطروحة دكتوراه متميّزة حول ترجمة الشعر، صدرت مؤخراً بالفرنسية تحت عنوان حصّة الغريب ، وهي عمل نقدي وأكاديمي متكامل، يجوب الآفاق التاريخية والراهنة لفلسفة الترجمة وشعريّتها، ويتوقّف عند المحطات والتجارب والأفكار والتيارات الأساسية فيها: الكتاب من المقدس وترجمات الرمانطيقيين الألمان، إلي أعمال الشعراء ـ المترجمين من أمثال هولدرلين وغوته وريلكه وباوند وأونغاريتي، وترجمات الشكلانيين الروس، وعلماء الألسنيات من أمثال ياكوبسون ومونان وبنفنست، والفلاسفة ـ المترجمين من أمثال هايدغر ووالتر بنيامين ودريدا، دون إهمال قدامي العلماء والكتّاب والمترجمين العرب من أمثال الجاحظ والتوحيدي والجرجاني والحنين بن إسحق، وسواهم.
غير أنّ المنجز الثالث الكبير، أو الأكبر بالأحري، هو ترجمة الآثار الشعرية الكاملة، أو ما نعرفه منها في الأقلّ، للشاعر الفرنسي أرتور رامبو. وكانت طبعة أولي قد صدرت سنة 1996 عن دار المتنبي بالتعاون مع منظمة اليونسكو، وها هو جهاد يصدر الطبعة الثانية (عن أفاق للنشر والتوزيع و منشورات الجمل )، منقحة ومزيدة تقع في 686 صفحة، وتعيد إدراج مقدّمتَيْ الطبعة الأولي، للشاعر والناقد الفرنسي ألان جوفروا، والناقد الفرنسي ألان بورير. الجديد هو مقدّمة ثالثة كتبها الشاعر اللبناني عباس بيضون، بعنوان استئناف رامبو ، تناولت جوانب نقدية وناقدة ثاقبة حول تقديم رامبو واستقباله في العربية، خصوصاً علي يد شعراء مجلة شعر وجمهرة الرائين العرب حسب تعبير بيضون اللاذع، نسبة إلي إحدي صفات رامبو: الشاعر الرائي.
الجديد أيضاً هو أنّ المقدّمة الرابعة، التي كتبها جهاد في أكثر من 70 صفحة، صارت دراسة نقدية رفيعة متكاملة في شعر رامبو وشعريته والموقع الذي شغله ويشغله علي خارطة الشعر الفرنسي والعالمي طيلة 170 سنة أعقبت نشر قصائده الأولي (رغم أنّ عمره الشعري لا يتجاوز خمس سنوات!). وهذه الدراسة تذكّر، من يحلو له النسيان عن سابق قصد، أنّ رامبو لم يكن البتة شاعراً رؤيوياً بوهيمياً رجيماً صعلوكيّ السلوك فحسب، بل كانت له مواقفه السياسية الصريحة المنحازة (تأييده لكومونة باريس كما نقرأه بوضوح تامّ في رسالتَي الرائي، ونشاطه في صفوفها وخلف المتاريس، كما تؤكد تقارير الشرطة)؛ وقصائده السياسية السابقة للكومونة (مثل الشمس والجسد و الحدّاد )؛ مواقفه الناقدة، والإشكالية حتي اليوم، تجاه المذهب الكاثوليكي وحياة الكنيسة؛ وآرائه في الوثنية، ومسائل الطبقة، والعرق...
غير أنّ الجديد الأهمّ ـ الذي تليق به وقفة مفصلة مطوّلة ليس هنا مقامها ـ هو أنّ هذا الإصدار ليس طبعة ثانية فحسب، بل ترجمة ثانية، حيث عكف جهاد علي إعادة النظر في عشرات القصائد من حيث الإيقاع الشعري واللغوي، وترصين المعجم الرامبوي في الفصحي، والاستئناس الواسع بما طرأ من جديد في الدراسات الرامبوية. ورغم سخائه البالغ في توفير الهوامش والحواشي والشروحات للطبعة الأولي، فإنّ الطبعة الثانية هذه تضيف المزيد من الكرم علي ذلك السخاء، ليس دون أن تقترح علي القاريء ثلاث قراءات: واحدة تهمل الحواشي تماماً، وأخري تستغني عنها إلا حين تستعصي مفردة أو عبارة، وثالثة مزدوجة تجمع بين مزايا القراءتين.
ولأنّ ترجمة آثار رامبو الشعرية كانت علي الدوام حدثاً استثنائياً في حياة الثقافات والأمم، فإنّ من المشروع أن نحتفي بالجهد النوعي الذي بذله كاظم جهاد في هذه الترجمة، بطبعتَيها: هاهنا رامبو الأدقّ، والأرفع، والأفضل، والأجمل.

القدس العربي
24/09/2007