صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

صبحي حديدي“لماذا تركتَ الحصان وحيداً”، مجموعة الراحل محمود درويش، دشّنت طوراً جديداً في مشروعه الحافل بالتطوير والتجديد والتجريب، ليس بسبب استقرارها على موضوعة محددة، هي السيرة الذاتية، فحسب؛ بل كذلك لأنّ الـ”أنا”، بوصفها ضمير المتكلم وذات الشاعر وصوته الفردي في آن، كانت تتقدّم في جميع قصائد المجموعة، على نحو غير مسبوق. هكذا ساجلتُ، شخصياً، في كلمة الغلاف الأخير للطبعة الأولى من المجموعة (دار الريس، بيروت، 1995)، وكذلك في دراسة مطوّلة نُشرت هنا، على صفحات “القدس العربي”، وفي دوريات عربية أخرى بعدئذ. وإذْ أتعمّد العودة إلى هذه المجموعة تحديداً في يوم ميلاد درويش، 13 آذار (مارس)، فلأنّ جدل الـ”أنا” يتكشّف اليوم عن خصائص عديدة لم أفلح في التنبّه إليها قبل 15 سنة، ربما لقصور في عدّتي أوّلاً؛ ولأنّ هذه، ثانياً، هي حال كلّ شعر عظيم: عرفنا منه شيئاً، وغابت عنّا فيه أشياء وأشياء...

السيرة الذاتية في قصائد المجموعة تأخذ هيئة استعارة مديدة مفتوحة، تبدأ من ولادة الشاعر في أرض فلسطين (القصيدة البديعة “في يدي غيمة”)، ثمّ تمرّ بسلسلة من محطات الحياة، والمنفى، والعودة إلى غير المكان الأمّ، والتربية العاطفية والجمالية والشعرية؛ وتنتهي بالزمن الراهن، أو متتاليات الحاضر الفلسطيني المشبع بتوترات ماضيه العتيق والقريب، ومستقبله المنكشف والمستغلق. وهاهنا، ربما للمرّة الأولى في منجزه الشعري، أطلق درويش التنازع الأكبر في أية سيرة، أي صدام النَفْس التي تروي عن النفس، وتعي أنّ الراوي - مثل مادّة روايته - ليس موضوعاً موحّداً متجانساً، ولكنه منشطر وانتثاري في المكان والزمان والتاريخ، وليس ديدن الثلاثة إلا التبدّل والتحوّل. وتلك الرسالة تتضح في عنوان قصيدة الإستهلال، “أرى شبحي قادماً من بعيد”، حين يقسّم الشاعر نفسه في نفوس كثيرة، ويطلّ على عناصر الذات قادمة من بعيد، محاطة بالتاريخ، صادرة عنه وآتية إليه.

والقصائد تتوزّع على ستة “أبواب” مستقلة في عناوينها ومتغايرة في ما تتناوله من موضوعات، وهذا إجراء أسلوبي بارع يسهّل تعايش السيرة (كنوع كتابي يقتضي بعض السرد وبعض التسجيل، ويخضع لتوترات رواية الذات ورواية التاريخ)، مع الشعر كنوع إبداعي جبّار لا يلتقط التفصيل التاريخي في صيغة الوثيقة والسردية، بل في مزج ملحمي أو غنائي ثري المجاز وعالي التخييل. الولادة، على سبيل المثال، تقع في شهر آذار، “طفل الشهور المدلل” و”أرض لليل السنونو”، الذي “يندف قطناً على شجر اللوز”، و”يُولِم خبّيزة لفناء الكنيسة”. هكذا يصفه درويش، وهكذا نكتشف التمثيلات الجديدة لشهر تكرّر مراراً في قصائد الشاعر.

وإذا كان، منذ مجموعاته الأبكر وحتى أواسط التسعينيات، قد واصل وفاءه للعلاقة بين المصيرَيْن الفردي والعام، ودفع بالأوّل إلى الظلّ لصالح الثاني في معظم النقلات الكبرى ضمن مشروعه الشعري؛ فإنّ درويش هنا يبدو كمَنْ تدرّب جيداً على القطيعة المقبلة (التي سيتضح أنها صحيّة تماماً، في يقيني)، حيث يكون هو “الآخَر”. وليس دون استبطان مسبق لهذه البرهة أنه قال، خلال أمسية شعرية إستثنائية مع سميح القاسم أُريد لها أن تسجّل مناسبة “رحيل” الفلسطينيين عن تونس إلى وطنهم: “فينا أكثر من أرض، وعلى الأرض أكثر من منفى، وفينا النازل من صورته التي ما زالت معلّقة على الجدار وعلى التابوت. فكيف نتدرّب على القطيعة المفاجئة؟ كيف نألف الحوار مع الآخر الذي هو أنا، هذه المرّة؟”.

قصيدة “البئر” مثال متكامل على هذا اللقاء العاصف بين التاريخ والأبدية، الذات والجماعة، المكان والأسطورة: “قد كنتُ أمشي حذو نفسي: كنْ قوياً/ يا قريني، وارفع الماضي كقرنَيْ ماعزٍ/ بيديك، واجلسْ قرب بئرك. ربما التفتتْ/ إليك أيائل الوادي ولاح الصوتُ -/ صوتك صورة حجرية للحاضر المكسور(...) كنْ حذراً! هنا وضعَتكَ/ أمّك قرب باب البئر، وانصرفت إلى تعويذة/ فاصنع بنفسك ما تشاء. صنعتُ وحدي ما/ أشاء: كبرتُ ليلاً في الحكاية بين أضلاع/ المثلث: مصر، سوريا، وبابل”.

والحال أنّ “أنا” درويش تخاطب سلسلة متشعبة من الضمائر (أنتَ، أنتِ، أنتم)، مثلما تتقاطع مع سلسلة من النظائر في صيغة الغائب (هو، هي، هم)؛ وفي قصيدة “قال المسافر للمسافر: لن نعود كما ...” يعلن درويش: “أنسى مَنْ أكون لكي أكون/ جماعة في واحد”. ولكننا، بعد سطور قليلة، ندرك أنه لا ينسى - بقدر ما يتذكّر بقوّة! - أنه إنما يكون الفرد لكي يحلّ في المجموع: “أأنا أنا؟/ أأنا هنالك... أم هنا؟/ في كلّ “أنتَ” أنا/ أنا أنت المخاطَب، ليس منفى/ أن أكونك. ليس منفى/ أن تكون أناي أنت”. وفي قصيدة “قافية من أجل المعلقات” تتحوّل الـ”أنا” إلى لغة دالة على الولادة والوجود المادي والحصانة الروحية والمقاومة: “من لغتي ولدتُ/ أنا لغتي أنا/ هذه لغتي، أنا لغتي/ أنا ما قالت الكلمات/ أنا ما قلتُ للكلمات/ فلتنتصر لغتي على الدهر العدو/ على سلالاتي/ عليّ/ على أبي/ وعلى زوال لا يزول”.

وهيهات، بالطبع، أن هذا الحضور للـ”انا”، المركّب والفسيح والكريم، يمكن أن ينقلب إلى أنانية تُعلي الفرد فوق الجماعة، أو تُسقط التاريخ في سياق انشغالها بإضاءة الذات.

القدس العربي
3/15/2010