صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

صبحي حديديقبل عقد من الزمان، في مناسبة صدور مجموعته بضعة أشياء ، دار الجمل، 1997، أتيحت لي فرصة مناقشة سمة كبري في أعمال الشاعر اللبناني بسام حجار: أنّ قصائده، وقلّة قليلة من الشعراء العرب المعاصرين، يمكن أن تسدي خدمة نوعية خاصة للدراسة النقدية التي تسعي إلي إنصاف جماليات قصيدة النثر. وهي تقدّم أمثلة تطبيقية ثرّة لأيّ جهد دراسي رصين، من طراز لا يروم القفز مباشرة إلي بلاغة تنصيب هذه القصيدة كخيار في الكتابة الشعرية اكتسب شرعيته النوعية، كمّاً وزمناً وفي تحصيل الحاصل البسيط، بل قبلئذ عن طريق تناولها كإشكالية ما تزال عالقة في حقل القراءة العريضة والقاريء العريض. وقد يكون هذا الشطر الثاني هو الحيوي والأكثر ضرورة، خصوصاً لأنه يستوجب زجّ قصيدة النثر ـ واتكاء علي نصوصها الأفضل، بطبيعة الحال ـ في منطقة التحدّي المعقدة حيث تستوطن الذائقة، تقليدية كانت أم حداثية، متحركة أم راكدة، أحادية أم تعددية.

ذلك لأنّ حجار يشتغل علي شعريات النثر بوصفها سليلة النثر، والنثر وحده، فلا يهرب بها إلي وراء أو أمام، ولا يرحّلها إلي مناطق أخري سوي تلك الصانعة لشعريّتها النثرية. وقصيدته، بذلك، تقطع خطوة ضرورية لاحقة، وحاسمة، حين تقترح غريزة شكل خاصة بها، تتكوّن أثناء برهة القراءة وبسبب من معطيات القراءة، فيصبح من نافل القول إنها تقطع الطريق علي قدوم القاريء إلي القصيدة متأبطاً غرائز مسبقة الصنع حول الشكل. كذلك تختزل كثيراً فرصة قدومه متشبثاً بأعراف جاهزة، حول شكل واحد وحيد ترسّب طويلاً في قرارته، ولا ينوي اللجوء إلي سواه، إذ يقرأ القصيدة.

وأسجّل، بكثير من الإمتنان الجمالي الذي أحمله لطائفة من القصائد المحبّبة إلي نفسي، أنّ شهراً لا يمرّ دون أن أعيد قراءة قصيدة حجار حين تكون السماء ليلاً، حين يكون الليل سماء ، وهي واحدة من أطول قصائده (تبلغ 189 سطراً)، ولعلها بين أرفع نماذج قصيدة النثر العربية في العقود الأخيرة. وحين يكتب حجار: وما علمتُ قبل الآن أنّ/ يدي البلا ملمس/ هي يد الميت الذي كنتُه/ وقلبي قربة من البكاء/ وجسمي فزّاعة طير/ ُصبت في برّية موحشة/ حيث لا تنضج ثمار... ، فإنه يزجّ قارئه في تلك الشبكة الغامضة، الأليفة في آن معاً، من عمارة شعرية تبدو غاية في حدّ ذاتها. إنها ليست نتاجاً لتعالق المعني والصور والتراكيب والألفاظ والأصوات، وتبدو كمَنْ يجرّ اللغة إلي ما هو أبعد من اللغة، وإلي كثافة رهيفة منتقاة من قاع تجربة إنسانية يتعذّر علي القول الشعري أن يقارب كامل أبعادها بطرائق منكشفة التعبير. إنها، أيضاً، برهة فريدة من ائتلاف عناصر الشكل علي النحو الشعائري الخام الذي يتيح انطلاق العبارة إلي ما هو أبعد بكثير من حدود المعني الموروث في مفردة أو جملة، وكأنّ المزيج نموذج رفيع لذلك المستوي الذي كان ستيفان مالارميه يفتّش عنه في أيّ شعر عظيم: التقاط سديم لا يُثمّن، هو ذاك الذي يسبح في اللجّة السرّية لأيّ فكر إنساني .

في مثل هذا النوع من الشعر، الذي يكتبه حجار ونفر (قليل لسوء الحظ) من شعراء قصيدة النثر، يتعالي صوت الشعر وليس الصرير الحادّ الصاخب لمطاحن ما يُسمّي الإيقاع الداخلي و انفجار اللغة و الإنزياح المجازي ، وسواها من رطانة لا تفلح في غاية أخري أكثر من نجاحها في تغريب القاريء عن روح الشعر في القصيدة. ذلك لأنه يصعب علي قاريء الشعر متوسط الدربة (فكيف بذاك المتمرّس!) أن يخضع إلي مرجعية شكل مسبقة الصنع، كأن ينقّب فيه عن معيار الوزن التفعيلي مثلاً، أو أن يلتمس طرائق الإيقاع الذي عوّدته عليه النماذج الركيكة من النثر الشعري المبتذل (التكرار بصفة خاصة، والتوزيع البهلواني لعشرات الصور والإستعارات). الإيقاعات هنا ليست داخلية كما أنها ليست خارجية بالقدر ذاته. وهي ليست فيزياء الوَقْع وحده، ولا سيمياء اللغة وحدها. إنها كيمياء تعبيرية عالية النشاط، مفتوحة علي فضاء من حوار المعني والصوت، في برهة شكل صافية، وبوساطة لغة رانية أبداً إلي ما هو أبعد من أيّ تصريح لغوي مسبق.

كذلك يصعب علي قاريء هذا النوع من الشعر أن يخسفه إلي قراءة محايدة ، متحللة من معيار اللغة الشعرية الأمّ، كما تكون حاله إذا قرأ قصيدة مترجمة من بودلير أو رامبو أو سان ـ جون بيرس، يصير معها في حلّ من إلتماس خصوصيات نسيجها اللفظي أو أبنيتها الإيقاعية. قصيدة حجار مكتوبة بلغة واحدة وحيدة هي اللغة العربية، أي الفصحي وهي تؤدّي عشرات الوظائف الشعرية الرفيعة، والتي لا تتردد أصداء عجماء في جملها وتراكيبها واشتقاقاتها ومعانيها وظلال دلالاتها. وفي مقابل السؤالين الشهيرين: لماذا لا تقول ما يُفهم ، و لماذا لا تفهم ما يُقال ؛ يقترح حجار سؤالاً ثالثاً: لِمَ لا تفهم ما لا يُقال؟ إذ لعلّ الجدوي، كل الجدوي، في إبراء حدّ الشعر مما يكتنف القول من لغو ورطانة ، كما عبّر ذات يوم.

أو، لكي أقتبس واحدة من سلسلة قصائده التي تحمل عنوان الألم : ما لا يُقال/ إلا/ همساً/ لا الألم/ بل مكانه بعد أن يزول/ مكانه الذي له/ يبقي موجعاً/ لشدّة ما يزول .

القدس العربي
21/07/2008