ادونيساودنيس، واحد من شعراء عرب قلائل ممن ينطبق عليهم القول انه "مالئ الدنيا وشاغل الناس". كثر هم الذين يجدون فيه واحدا من اكبر مثقفي التحديث ليس في الشعر والفكر والتراث فحسب، بل وفى السياسة أيضا. وكثر هم الذين ينتقدوه، تارة لأنه "شاعر ومفكر نخبة"، وتارة لأنه أوقع إيقونات التقليد والإتباع من رفوفها العليا ليحطمها، حاثا الشباب، وهم من أكثر رواده، على الخروج من اسر ثقافة الماضي وقواعدها. ولئن لم ينجح الكثير من التجريبيين في هذا المجال، فكثيرا ما ألقى بفشل تلك التجارب على عاتق اودنيس نفسه، رغم ان الشعر يظل مشروعا فرديا على الدوام وليس مدرسة.

لعله واحد من آخر من بقوا من جيل الكبار. فبعد غياب نزار قباني وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري، وقبلهم بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ويوسف الخال، وآخرون، لم يبق بين أيدينا من التحديثيين الكبار إلا القليل.
الشاعر الفرنسى ميشيل كامو الذي كتب ما أسماه "ما وراء شعر ادونيس" وصفه بأنه "الشاعر الرائي". واعتبره المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد أستاذ الأدب الانجليزي في جامعة كولومبيا في نيونيورك في كتاب "الضوء المشرقي" بأنه "ظاهرة ثقافية من المرتبة الأولي" مشيرا إلى ان امتلك أولى أدواته الإبداعية من استيعابه العميق لأشعار امرئ القيس والمعرى والمتنبي ولكن ليصنع منه تفرده وخصوصيته التي لا تضاهي.
أما المفكر الفرنسى مكسيم رودنسون فقد قرأ ديوان "أغاني مهيار الدمشقي" بعد ان تم نقلها إلى الفرنسية وتحدث عن جرأة أدونيس النادرة التي تصمد أمام العواطف الانفعالية.

وأبدى المفكر وعالم الفيزياء يسراب نيكولسكو إعجابه الشديد بقصيدة "الصلاة والسيف" لأدونيس التي سحرته جدا، وقال انها أخرجته من عزلته الفكرية والثقافية. وقال الشاعر الفرنسى شارل دوبزنسكى بأن ادونيس "يعيد صياغة العالم من جديد عبر الشعر" ولكنه رجل فكر أيضا، قدم من خلال أعماله النقدية ودراساته في تاريخ الأدب العربي، ما يضعه في مصاف اكبر مثقفي العالم العربي ومفكريه، ليس بخصب إنتاجه وحده ولكن بارتباط هذا الإنتاج برؤية للتحرر والتحديث لم يسبق لأديب عربي واحد ان تورط بمشاغلها مثلما تورط بها ادونيس.

هنا، حوار معه:

* لست مجرد شاعر-ثورة في نطاق الثقافة واللغة، ولكنك داعية ثورة في نطاق الفكر والتراث والسياسة. هل ما زالت جذوة ثورة التغيير والتحضر متقدة في قلبك، ما هو مبرر التفاؤل بها، وما هو افقها؟

ــ لا تزالُ الجذوة في أوْج اتّقادها. بل إنني أشعر الآن، في ضوء التجربة، أنّ هذه الجذوة في حاجة إلى مزيد من الاتقاد، ومن التوسع والامتداد في مختلف الميادين. وأعرف أن ذلك لا يتضمن الأمل الاّ مقترناً بشيء من اليأس. ذلك انّ أفق التفاؤل العربي يتعذر انفتاحه إلاّ في أفق اليأس من الراهن العربي، بحيث تحدث قطيعة معرفية وعملية بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.

وأثق أن الأرض العربية التي عرفت الأبجدية، وعلمتها، وأسست للحوار مع الآخر، منذ اكتشافها الأبجدية، واحتضنت أعظم حضارات الإنسانية منذ سومر وبابل ومصر وفينيقيا، مروراً بالرومان والأديان الوحدانية السماوية الثلاثة ــ أقول إنني أثق بأن أرضا كهذه لابد ان تخرج من سباتها ومن ثبوتها، فتنهض وتتحول وتشق طرقاً جديدة أخرى للعلوّ والتقدم.

* الشعر يذوى والشاعر يبدو وكأنه يغادر المسرح مهزوما كما يرى البعض على الأقل. هل نعلن هزيمة الشعر أم الشاعر أم الأمة التي لم تقرأه حراً؟

ــ يمكن بمعنى ما، وقياساً بحالة ماضية، أن نقول إن الشعر العربي اليوم، "يغادر المسرح" وفقاً لتعبيرك. غير أنني أجدُ في هذه المغادرة "نظراً" لا "هزيمة" .

انها أولا مغادرة تعنى خلاص الشعر من كل ما هو غير شعري أي من السياسات والإيديولوجيات التي شوهته خصوصاً في النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم.

وتعنى كذلك خلاصه من الشعبوية التي هي، تحديداً بسمة نقيض لخصائص الشعر، وتعنى أيضاً فقدانه القابلية لكي يستخدم أو لكي يصبح وسيلة.
هكذا نرى أنَّ ما يفقده الشعر أفقياً يربحه عمودياً. لم يعد للشعر "جمهور"، وإنما أصبح له "قارئ" . وقارئ الشعر الحقيقي إنما هو شاعر آخر، أي خلاّق آخر، وذلك هو ما يحتاج إليه الشعر.
يجب ان نفرح للمناسبة، بنمو الفن الروائي، وبانتشاره. وأن نفرح بانحسار "الجمهور" السطحي، المبتذل، الذي كان يبحث عن "أوهامه" السياسية والقومية في شعر لا ينهض بشعريته، وإنما ينهض بلا شعريته: أي، لحزبية، والانتماء السياسي، وبالإيديولوجية.
تنشأ اليوم قراءة جديدة للشعر: قراءة تحب الشعر لذاته، بوصفه فناء وبوصفه التعبير الأرقى عن الإنسان.

* لنقبل بان الحداثة انفتاحٌ على كلٍّ حضاري متنوع. ولكن آلا تلاحظ ان انفتاح الضعيف والمهزوم وغير المحصن "بنظام قيم متماسك" هو دعوة للغزو. والغزو عندما يقع، فانه للأسف لا يقع حضاريا بالضرورة وإنما بالدبابات، ثم انه لا يدع لك، في الحالتين، أي مجال للاختيار. سأضرب مثلا: الغزو التكنولوجي يمكن ان يكون غزو معرفة أو غزو بضاعة. في الأول قد نكسب، ولكننا في الثاني نخسر فقط. ولا أدرى كم كان الغزو الاميركى مفيدا، في ترتيب انتخابات طائفية في العراق، ولكن كانت هناك انتهاكات سجن ابو غريب أيضا. وهكذا، فأمريكا لا تأتي، كما علمتنا التجربة، بثقافتها وحضارتها وحدهما، ولكنها تأتى بجنود أوباش ومؤسسة سياسية متصهينة على الآخر. الآن، ألا يبدو الانغلاق والتحجر أستر لنا؟

ــ "الانغلاق والتحجر أستر لنا": نقول. ربما. ولكن في هذا القول دعوة إلى الموت. والموت أستر، كما تقول الحكمة الشائعة. ذلك ان الحياة "فضيحة": صراع، وإبداع، وتغيير، وحرب، وخيارات، وخطط، ورؤى.. الخ. الحياة، الحياة، باختصار، انفتاح ومجابهة، وهى إذاً للأحياء. أما الانغلاق والتحجر فهما للأموات. هل تفضل أن نحيا أمواتاً، على أن نحيا في مجابهة دائمة للغزو من أي جهة أتى؟ من جهتي، اختار الحياة ــ مهما ترتب على هذا الاختيار. المسألة في التحليل الأخير، ليست في "الخارج" أو في "من الخارج"؟
المسألة فينا نحن: "داخلنا"؟ و"مَنْ نحن"؟ وعلى هذا المستوي، يمكن القول ان العدو الأول للعربي هو العربي نفسه. الحر، الواثق من نفسه، المريد والعارف، يريد لا يمكن ان يغلب، هذا بالنسبة إلى، جوهر القضية.
ونحن العرب نموه هذا الجوهر، بكلامنا الدائم على "الخارج" وعلى "الغزو" الخ.
إذا لم ينهض العرب من داخل أولاً، فلن يستطيعوا مهما "انغلقوا" و"تحجروا" ان يصدوا "الخارج" أو أن يتخلصوا منه.

على العكس: "الانغلاق" و "التحجر" وسيلتان إضافيتان لمزيد من الهيمنة علينا، وتهميشنا، وقتل ما بقى فينا من الرغبة في التقدم والتغير.

* قل لي، بالله عليك، ماذا نابنا من مشروع التحضر الغربي غير الاحتلال والاهانة والفقر ومساندة اعتي الدكتاتوريات؟ لماذا يتوجب ان نقبل احتلالهم لكي يملوا علينا ديمقراطيتهم. وإذا أخذت بعين الاعتبار ما يحصل من انتهاكات للأعراض في العراق، ألا تبدو هذه الديمقراطية شكلا من أشكال الاغتصاب والاعتداء الجنسي؟

ــ وأنت، قل لي، بالله عليك، لماذا نطلب من الأجنبي ان يعاملنا بطرق أفضل مما عاملتنا بها وتعاملنا أنظمتنا نفسها، ونعامل بعضنا بعضا؟ وبأي حق، نطلب من غاز اجنبى ان يكون "ديمقراطيا" في بلد لم يعرف الديموقراطية في تاريخه كله"؟
"الاغتصاب" بمختلف أشكاله، السياسية والاجتماعية أليست خاصية من خصائص حياتنا العربية، منذ القديم وحتى اليوم؟ وأين يُهاب الإنسان، ويحتقر، ويحرم من جميع حقوقه حتى حقه الأولى البسيط، لسفر وجواز السفر أكثر مما نرى هذا كله في البلاد العربية؟
أرجو ألا تظن أنني أدافع عن الغزو، أو عن الاجنبى وإنما أذكر، بأنه لا يجوز ان نواصل نسج الأقنعة "الخارجية" لكي نغطى مخازينا، وانحطاطنا في الداخل.

* تبدو "النهضة" الإسلامية الراهنة تعبيرا مفارقا عن "نومة" أو "قعدة"، ولكن ألا تبدو هذه "القعدة" في الوقت نفسه تعبيرا صارخا عن فشل مشروع التحديث، بل ومشروع الاستقلال بكل تجلياته الفكرية والسياسية والإيديولوجية. لماذا نلوم أسامة بن لادن على ما فشلنا فيه نحن؟ الثوريون الإسلاميون يريدون الانتحار، ربما لأننا لم نقدم لهم حياة حقيقية. أليس من المنطقي ان يدعو المرء إلى العودة إلى الماضي عندما لا يجد طريقا إلى المستقبل؟

ــ صحيح: فشل العرب في "مشروع التحديث وفى مشروع الاستقلال بكل تجلياته الفكرية والسياسية والإيديولوجية" كما تعبر. لكن هذا الفشل جدير بان يدفعنا إلى إعادة النظر في طرق التفكير، التي أدت إليه. والى تجديد فهمنا، ورؤانا، وممارساتنا. وهو في أي حال لا يسوغ ما تقوم به الحركات الأصولية. فما تقوم به ليس إلا فشلاً آخر ــ لكنه هذه المرة، ليست أمام "الأجنبي" وهو حاصل سلفاً وعلى نحو حتمي، وإنما هو فشل أمام التاريخ، وأمام العقل والفكر، وأمام التجربة الإنسانية الطويلة الخلاقة. وهذا هو الفشل الأعظم والذي يتمثل عملياً، في مجابهة الأجنبي العدوّ، بالأسلحة نفسها التي يقتلنا بها، والتي اخترعها هو نفسه. فنحن لا نجابهه بإبداعنا الخاص، ولا بأسلحتنا التي نبتكرها بتقنيتنا التي ابتكرناها نحن أيضا. وإنما "نسرقه" و"نتحايل" و"نتشاطر" ونموت أو ننتحر مجانا، بينما علينا ان نكون أنداداً له، على الأقل في الفكر والتقنية والإبداع. وهذا مما لا نخطط له، بل أننا نفعل كل ما يناقضه، اى كل ما يجعلنا أكثر قابلية، للتبعية، من جهة، وللتخلف داخلياً من جهة ثانية.

* كيف يمكن، إذا، الجمع، واقعيا وعمليا، بين الإسلام والتقدم؟

ــ أولاً: يجب ان نميز، اليوم في الكلام على الإسلام، بين نصه المؤسس، من ناحية، والتأويل السائد لهذا النص من ناحية ثانية، فهذا التأويل السائد يتخذ من النص ملكاً خاصاً، وبذلك يحجبه، فالموجود، الفعال، اليوم، ليس النص بل تأويله السائد.

وأقول إذا، يستحيل الجمع بين التقدم والإسلام في تأويله السائد، وبخاصة في كل ما يتعلق بالفكر والفن والأدب والمرأة، والجنس، والاقتصاد والاجتماع. فالتقدم وهذا "الإسلام" قطبان متناقضان. فهذا "الإسلام" لا "يسجن" الجسد وحده وإنما يسجن الروح كذلك. انه باختصار ضدَّ ما لا قوام للإنسان إلاّ به: حرية العقل، وحرية الرغبة.
هل يمكن تحرير النص المؤسس من هذا التأويل السائد؟ تلك هي المسألة، وتلك هي المشكلة.
قل لي: نعم، اقل لك: بدءاً من هذا التحرير، ينفتح النص المؤسس على العقل، اى على الواقع ونتحرر نحن المسلمين، وندخل إليه برفقة الرازي والمصري وابن رشد والمتصوفة والشعراء الكبار، ونعقد صلحاً بين الإسلام والتقدم. بل أكثر: نخلق بينهما وحدة.

* يسهل النظر إلى الإسلام من فسحة الماضي الفسيح، على الأقل لأنه واضح، أو ربما لأننا نفترض انه واضح، ولكن كيف يمكن النظر إليه من كوة المستقبل. أي مغامرة غموض ستكون هذه المحاولة؟

ــ النظر إلى الإسلام من "كوة المستقبل"؟ لا مستقبل له، إلا إذا تكلم لغة المستقبل. وجوهر هذه اللغة هو ان كل شيء يجب ان يكون لخدمة الإنسان. لا العكس، كما يفعل المسلمون اليوم: التضحية، بالإنسان لخدمة كل شيء. والدين هو نفسه يجب أن يكون من أجل الإنسان. وليس العكس. ولكي يكون الإسلام كذلك يجب أن يصبح مجرد تجربة روحية شخصية، وأن يخرج من السياسة ومصاحباتها جميعا. وهذا الإسلام الروحي شيء، والدولة شيء آخر.
دون ذلك لن يكون الإسلام أكثر من قلعة ضخمة، كونية، يعيش فيها بشر ليسوا إلاّ ركاماً عددياً.
وانظر إلى صورة المسلمين في واقعهم اليوم، وبخاصة العرب، في هذه الصورة "الواقعية" ما قد ينبئ بصوره "الممكنة" إذا لم تحدث ثورة إسلامية للتخلص مما يناقض "سماويته" و"روحانيته" و "شخصيانيته" : الدولة، والسلطة.

* كيف ننجو من هذا الخراب في الثقافة والسياسة؟ ماذا يجب ان نفعل؟ تقول ان "العقل في ثقافتنا السائدة مبنى على عدم الاعتراف إلا ببداية واحدة ونهاية واحدة، في حين ان التقدم ليس إلا سلسلة من البدايات والنهايات المتواصلة"، فمن أين تريدنا ان نبدأ اليوم أو غدا، إذا شئنا ان نشرع باعتراف كهذا؟

ــ تبدأ النجاة من هذا الخراب السياسي الثقافي الاقتصادي، بتحليل الأسس التي أدت إليه، من أجل فهمه وتجاوزها. وهى أسس متنوعة ومتشابكة: دينية، سلطوية، اقتصادية. ويؤسفني أن أقول هنا إن مفكرينا قلما يعنون بتحليل هذه الأسس، في أعماقها وجذورها، وبخاصة الدينية ــ السلطوية. ولابد من أن نعترف أولا، دون خجل أو تردد ان السلطة الإسلامية الأولى، في الأولى نواة الدولة الإسلامية، "بيعة السقيفة"، أُسست على العنف، بانقلاب سياسي عنفي، أقصى طرفا كبيراً من العرب، هم الأنصار، عن المشاركة السياسية وحصر السلطة في الطرف الذي تمثله قريش. فالسلطة العربية الأولي، سلطة عنف لا سلطة مشورية أو "ديموقراطية" باللغة الحديثة.
وإذا استقرأنا التاريخ العربي، سنرى أن هذا الاسلوب العنفي هو الذي ساد السياسة العربية، منذ بيعة السقيفة، اى منذ وفاة النبي، وليس عجيباً إذا أن يموت مثلاً، ثلاثة خلفاء راشدين مؤسسين- وفى رواية ان الخليفة الأول مات، هو كذلك مسموماً. هكذا أنشئت السلطة العربية ولا تزال حتى اليوم، اغتصاباً. والدين كان في أساس هذا الاغتصاب، سلبا أو ايجاباً: يساند هذا أو ذاك أو يناهضه بحسب المرحلة وبحسب المصلحة. ودون القضاء على هذا "العنف" وعلى هذا "الاغتصاب" ستظل السلطة في ديار العرب قائمة على القمع والعنف والظلم وقهر الإنسان، ولا يمكن القضاء عليها إلا بالفصل الكامل بين الدين والدولة، بحيث يصبح الدين، كما أشرت سابقاً تجربة روحية خاصة، ومتميزة، بين التجارب الإنسانية الروحية في العالم. تجربة لا تلزم أحدا إلاّ صاحبها.
تلك هي البداية، لكنها مجرد بداية. غير انها تتيح للعقول ان تتفتح وان تمارس إبداعها بحرية، وتتيح من ثم للإنسان ان يرى بحرية وان يخطط بحرية، وان يتقدم بحرية.

* تعد بأنك ستواصل الحرب ضد "اى إغواء لاستقالة وعيك"، وتعد بان تقتلع فن "التبصير" لكي ترسى فن "الاستبصار". ولكنك تعرف ان ثقافتنا هي برمتها ثقافة نص واحد، وتقتصر وظيفتها على التبصير به. ولن يكون واقعيا ان نُطلّق النص لنُطلّق ثقافته. كيف إذن نجعلها ثقافة نصوص متعددة. هل ننزع القدسية عن كل نص "إيديولوجي، شعري، أو ديني"؟ هل نميز فيما بينها، فنرفع واحدا ونخفض آخر؟

ــ لن أخون هذا الوعد، وسوف أتابع نضالي ضد اى إغواء بالراحة أو استقالة الوعي.
لا قدسية إلاّ قدسية البحث والسؤال والمعرفة، لا قدسية لنص، أياً كان، تحول بينه وبين طرح الأسئلة عليه. على العكس، يأخذ النص قدسيته من هذا الطرح، من الخوض فيه واستنتطاقه ونقده، وتجاوز ما يجب تجاوزه فيه، أو إهماله إذا "أظلم" ولم يعد يضيء أو لم يعد يستجيب للمشكلات المطروحة وللأسئلة القائمة.
ونحن في ثقافتنا العربية نعيش الحاجة الأكثر إلحاحا لإزالة هذه القدسية عن نصوصنا ومعتقداتنا وقيمنا وأفكارنا وأعمالنا. فهي قدسية تكاد ان تحولنا إلى امة من الببغاوات أو إلى أمة من المومياءات، وذلك بحسب الحالة، وبحسب المرحلة، فلقد قتلت فينا حس النقد، وحس السؤال، وحس المعرفة. وقتلت فينا، خصوصاً، حس الإبداع والتغير.

* قبل عشر سنوات بالضبط كتبت نصك الشهير "أتهم"، وكانت مشاعر الإحباط والضياع تبدو كما لو انها تسحقك كما تسحقنا. وكنت تأمل بان تسفر هذه الصرخة عن شيء. ولكن أحدا لم يسمع. والخراب زاد ولم ينقص. ألا يبدو لك الآن ان صراخنا عبث. هل من أمل بمنعطف ما يغير وجهتنا نحو الكارثة؟

ــ الشعب طاقة حية لا تموت، لكنها تتحول، ما يموت يتمثل في "نتاجه" ــ في مؤسساته وأنظمته، وتقاليده. ومن أخطائنا الثقافية ــ السياسية الكبرى إننا نُمَاهي، بتأثير الثقافة الدينية، بين "الأمة" و"القائد ــ الإمام" بين "الشعب" و "الحاكم" . ولذلك يذهب صراخنا عبثاً وسيظل عبثا، مادامت هذه المماهاة قائمة. لكن كيف نفكها ــ كيف نطبق عمليا الفصل الكامل بين الشعب ونظامه؟
لا يمكن ذلك إلاّ بالديمقراطية، وثقافة تداول السلطة، الثقافة التي تعلم ان الحاكم مسؤول أمام الشعب، لا العكس كما يحدث الآن. والثقافة التي تعلم أن الإنسان هو القيمة، وان كل شيء من أجله ــ حتى الدين نفسه ، والدين قبل كل شيء، لا العكس كما نرى اليوم. يتحدث الفكر الأوروبي عن موت الله، وعلينا ان نتحدث عندنا على العكس، عن موت الإنسان. فكل شيء عندنا ميت إلا اثنان: الله، والحاكم.
ولهذا نحن شعب حي، لكننا مجتمع ميت، ولهذا يذهب صراخنا عبثاً. ولهذا لا يخدم الله والحاكم، عندنا إلاّ الموتى.
الله حرية، فكيف يرضى أن تكون مخلوقاته عبيداً؟ كلا، لا يعرف اللهَ حق المعرفة إلاّ الأحرار.
والمسؤولية حرية. العبيد إذا وصلوا إلى السلطة حولوا كل شيء إلى عبودية واستعباد وعبيد.
رجل السلطة الحقيقي هو الرجل الحر، والحر لا يستعبد، بل يحرر.

* تقول ان "المجتمع لم يعد مرجعا" ولا الشعب أو الوطن أو الدين أو الحزب أو اللغة ولا حتى الإنسان نفسه، ربما لأنه يقع ضحية القتل اليومي دون ان يثور أو يتمرد على مرجعياته القاتلة. فإلى أين نذهب؟ والى من يتعين ان ننتمي؟

ــ لا يجوز ان نذهب إلاّ إلى الحرية. ولا يجوز ان ننتمي إلاّ إلى العقل.

* تقول "ان تكتب الفضيحة، يعنى ان تعلن الحرب في تعرية ثقافتنا"، ولو بما تسميه "أسلحة البهاء الغامض"، فبغير هذه الأسلحة لا تكون الكتابة إلا خداعا آخر. الكتابة، إذن، عمل من أعمال الحرب، ولكننا يا سيدي، لم ننتصر، والظلام ما يزال يحاصر فجرنا البعيد.

ــ طبعا، الكتابة حرب ــ لكن بطرقها وأدواتها الخاصة. وهذه الكتابة فنٌ جوهريا لا "سياسية" ولا "تبشيرية". وغير "مدحية" وغير "هجائية" كذلك،
ولماذا نطالب، بالنصر ونحن لم نبدأ الحرب؟ الحرب الحقيقية، الداخلية، هي حرب الخلاص من تخلفنا ومن أسبابه. الحرب من اجل إرساء قيم العدالة، والكرامة البشرية، وحقوق الإنسان وحرياته، قيم القضاء على الأمية، والفقر والبطالة، قيم الحب والمحبة، قيم "الروح" الحرة و"الجسد" الحر.
وهذه حرب لابد من ان تكون طويلة في تاريخنا الذي لم نرث منه فعليا إلا السلاسل والأغلال والسجون، والنصر إذا لا يزال بعيداً.
فلنبدأ الحرب، هذه الحرب.

* معرفة الشعر ما تزال غامضة. والجواب على سؤال "ما الشعر" ما زال يستوحي ردودا كثيرة ومختلفة باختلاف كل عصر وربما باختلاف ما نحن فيه، ولكنك بالعودة إلى قراءة قيس بن الملوح، وجدت سبيلا للقول "الشعر كله قصيدة واحدة، بأصوات كثيرة. والعالم الكثير هو كله شعر واحد". هل عثرت على شعر الشعر كله؟ وما هو؟

ــ أجمل وأعمق ما في الشعر انه لا يحدد، انه لا يقدم أجوبة كمثل الدين، أو كمثل الإيديولوجية.
الشعر كالحب ــ ابتكار متواصل، بداية دائمة. لو أمكن تحديد الحب، لتوقفنا عن ممارسته. ولو أمكن تحديد الشعر، لكان بطل ان يكون هو هو.
حظي أنني كلما قلت هذا هو الشعر. فاجأني عالمٌ شعريٌ آخر يهمس لي:
تريث في أحكامك.
حظي أنني أنظر إلى الشعر بوصفه فضاء كونيا، لا بوصفه "قاعدة" أو "شكلا" محدداً ونهائيا.

* هل يمكن للحداثة في الشعر ان تكون حداثة فعلا في بيئة بعيدة كل البعد عنها، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا؟ ألم يكن بين أيدينا الكثير من الزيف والكثير من "استشراف المستقبل" في بيئة لم تكن تستشرف إلا ماضيها؟ إذا نظرت إلى المسألة من زاوية الزيف والمبالغة، أما كان من الأولى بنا ان نقاتل من اجل شعر التحرر، أملا ببعض تنمية، قبل ان نلج غمار الحداثة وما بعدها؟

ــ لا يمكن ان تتأسس قيم الشعر الحديث في مجتمع يقوم على ثقافة تتناقض مع الحداثة وقيمها، هذا صحيح، وقد قلته مراراً.
لكن عدم تأسسه لا يُلغى وجوده، فعلى الرغم من تناقض ثقافتنا السائدة مع الحداثة، نرى في اللغة العربية اليوم، شعرا حديثا ــ لكنه "غير مؤسس" اى انه لا يدخل في بنية المجتمع الثقافية والفنية، والحسية، وإنما هو شعر هامشي لا تعنى به إلاّ فئة قليلة هي نفسها هامشية، اجتماعياً.
لكن لا خيار للمجتمعات العربية إزاء الحداثة، فهي مفروضة عليها، مجروفة بها شاءت أم أبت. وسوف تتفكك البنى القديمة التقليدية في هذه المجتمعات عاجلا أم أجلا. المشكلة هي أننا لسنا نحن الذين نبتكر هذه الحداثة وان الآخرين هم الذين يفرضونها علينا ــ خصوصا في كل ما يتعلق بالعلم والتقنية.
الحداثة في المجتمع تكون إبداعا أو لا تكون إلاّ زياً.

* من أين يستمد شعرك مادته الأولي؟ أعنى من أي لحظة، من أي قلق أو اضطراب، أو من أي شغف؟

ــ كل شيء في الطبيعة وفى ما وراءها، وفى الحياة والإنسان مادة للشعر، بالنسبة إلي. غير أن المسألة، فنياً، ليست في المادة بحد ذاتها، بل في طرق صياغتها والتعبير عنها. وهذا أمر يطول شرحه، لكنه ضروري، خصوصاً في ثقافتنا الشعرية الموروثة والسائدة. ذلك انها ثقافة تركز على "الموضوع" لا على "الطريقة". وهى مأخوذة بالكم، لا بالكيف. ومن هنا يمكن وصفها، بعامة، انها ثقافة لا يجد الشعر فيها مكانه المركزي، كما يجد في الثقافات الأخرى. واستطراداً يمكن القول، خلافاً لكل ما يقال، ان العرب، اليوم، هم أقل الشعوب احتفاءً بالشعر، وفهماً له. إنهم يحتفون بالكم، وبالمادة، لا بالشعر، أو الجمالية، أو الفنية.

* الكثير من النقاد في نظرك "مدعون عامون" يدلون ببيانات اتهام، ربما لتغطية سوء الفهم. أين تكمن مشكلة النقد الجوهرية في الثقافة العربية؟

ــ تكمن مشكلة النقد الشعري العربي، اليوم، بالنسبة إلى في مشكلة القراءة، وألخصها في الظواهر التالية:

  1. قراءة النتاج الإبداعي الشعري بخاصة ليست في مستوى الإبداع ذاته. هناك فجوة كبيرة بينهما، موضوعياً، بحيث يمكن القول إن أزمة الشعر، اليوم ليست أزمة إبداع وإنما هي أزمة قراءة.
    لكن هذا لا يلغى وجود قراءات شعرية عميقة وخلاقة. غير انها هي كذلك لا تزال قفيلة وهامشية كمثل الإبداع ذاته.
  2. هيمنة النظرة الإيديولوجية، السياسية بخاصة، على نقد الشعر في إشكاله السائدة.
    فهذه النظرة تهمل الأبعاد الفنية في الشعر الذي تدرسه، وتهمل الشعر الذي لا يتطابق مع أصحابها. هذه الهيمنة تجعل النقد اجتزائيا ضيقا وتحول دون إضاءة المشكلات الشعرية. وتحول النقد إلى مجرد شرح للقصيدة للتبشير بها، أو على العكس للتنديد بها.
  3. هيمنة النظرة التي تخرج الشعر العربي من إطار الشعر الكوني، وتعالجه بوصفه "محاليا" أو "معزولاً" عن قضايا الشعر الكبرى، كما تُطرح كونياً في لغات العالم. كما لو ان الشعر العربي يسبح وحيداً في فضاء صغير ضيق، وخاص، حتى ليخيل أن العالم يخلو من الشعر، إلاّ الشعر العربي اللغة.
  4. استمرار النظر إلى الشعر بوصفه "انعكاساً" أو بوصفه "تعبيراً" أي بوصفه "وسيلة" والشعر تأسيس لا تعبير، وهو ليس وسيلة للتبشير بضوء ما، وإنما هو نفسه الضوء، الضوء الأكبر والأجمل.

* كيف تتذكر اليوم أولئك الذين رحلوا. اعني نزار قباني، عبد الوهاب البياتي، خليل حاوي، صلاح عبد الصبور، وأولئك الذين ما يزالون يصارعون، مثل محمود درويش، احمد عبد المعطى حجازي، شوقي عبد الأمير، محمد مهدي شمس الدين، حسب الشيخ جعفر، محمد الماغوط، عبد الرزاق عبد الواحد، وغيرهم؟

ــ أحترمهم جميعاً، تجارب وأشخاصاً. وبيني وبين بعضهم صداقة متينة.

* ومتى نوبل؟

ــ أسأل أهل نوبل.

العرب اون لاين-09/05/2005 03:50:03 م


أقرأ أيضاً: