1895-1952
كتابة وحوار:أسعد الجبوري
ليس مهماً أن تصل إلى مكان إقامته في دار الآخرة،بقدر أهمية التفكير بالأسئلة التي ستطرحها عليه في الحوار الافتراضي هذا.فشاعر الحب والحرية الذي شغل الذهن الفرنسي والعالمي على مدار عقود من الزمن، لابد وأن يحظى بأسئلة فوق العادة.أسئلة تصدمُ،لتخرج الشاعر الفرنسي بول إيلوار من أعماقه،فيتحدث ويكشف ويتأمل ويدحض ويلعن العشق القديم الذي أوقع به في أكثر من حفرة وموقد نار.
كنا ننتظرهُ في بار ((المغنية النائمة)) ونحن نحتسي الشراب بين اللوحات العملاقة التي امتلأت بها الجدران .ولم تمض دقائق على وجودنا بذلك المكان،حتى أطل بول إيلوار علينا محروساً بحيوانين من نوع ((براغولا )) الخاصة بحماية الشخصيات المُطارَدة،أو تلك التي تشعر بقلق على حياتها من المجهول.
صافحنا بول .وجلس إلى الطاولة،بعد أن أخرج من جيب سترته قنينة شراب داكن اللون،وأخذ يحتسي من فم الزجاجة مباشرة.شكل لنا ذلك المشهد صدمةً.لذلك بادَر بالقول :هذه خمرة خاصة شغل بلدي وتصنع من فاكهة ((الباوتا)) الشبيه بالكرز.
آنذاك ،أدركنا بأنها فرصة جيدة للدخول في الحوار.فطرحنا عليه السؤال :
■ من الأول الذي فتح تحت سقف رأس بول ايلوار نافذة الشعر: الحبُ أم الحرب أم الخمرُ؟
ـــ لا الحبُ ولا الحربُ،بل المرضُ الذي كاد يصدّ الهواءَ عن صدري بعد أم ملأهُ السلُ .
■ هذا معناه ،إنك تعتبرُ الألمَ أحد أهم مصادر الشِعر ؟
ـــ بالتأكيد.غيابه عن الجسد،ربما يقطعُ عن الحواسّ الكهرباء،فيبطلُ مفعولنا كشعراء.
■ هل تعتبر مسقط رأسك في ((سانت دينيس)) الفرنسية في الرابع عشر من كانون الأول من عام 1895 مكاناً شعرياً ،أم مسقط لمرض تكرهُ استعادة ذكرياتك المؤلمة معه؟
ـــ عندما تصبح قامةُ الشاعر شجرةً وسط نيران تحيطُ بالغابة التي يسكنُ فيها،فليس بالضرورة أن يفكرَ بمصادر تلك النيران،وما إذا كانت تلتهمُ الأوراق أم الغصون فقط.مصيرُ الشعر،يرتبطُ على الدوام بفكرة إقامة سور الصين حول الجذع ،لدرء مخاطرَ الحرائق عنه.
■كأنك تتذكرُ كيف كانت والدتك تخيطُ الثياب،فتستظهر من وراء تلك المهمة مقاربة ما ، ما بين صورتي الأمس واليوم ؟
ـــ أجل.ولذلك اخترعنا الخلاط السوريالي ،من أجل أن نهرسّ الغدة الدرقية مع الغدة الصنوبرية التي تشبه حبة الصنوبر الموجودة داخل الدماغ، تلك التي تفرز هرموناً مسؤولاً عن تنظيم النوم والاستيقاظ عند الإنسان.عدا الغدة النخاميّة والدرقيّة والكظرية متعددة الوظائف المختلفة في الجسم،والتي ربما تعمل من أجل تكوين غدة الشعر الكبرى.
■ هل تكوّنت تلك الفكرة من خلال رحلاتك إلى بلدان آسيا؟
ـــ كان اكتشاف الشعر في آسيا أمراً ملحاً.أنه بعبارة أدق ،اكتشافٌ لطريق الحرير اللغوي .
■ تعني توسيعاً للمشروع الشعري الروحاني الشرقي، وربطهِ بجسر الماديات الأوروبية ؟
ـــ في البدء ،ربما كانت الفكرة هكذا ،ولكنها سرعان ما تحوّلت إلى حرب صدامية،عندما وجدنا أن الشعر الغربي شبه معادٍ للروحانيات.أو يرفض التعاطي معها كمرجعية سلفية ،خاصة بعد أن أدخلنا الشعر إلى الغابات الحديدية لعصر الصناعات التكنولوجية .
■ هل تثيركَ القصيدةُ وهي بأطراف حديدية ؟
ـــ أفضلُ من رؤيتها قطعة لحم متعفنة على رصيف.
■ كأنكَ تريدُ التحصنَ بأحضان الحرب ،فلا ترغب إلا برؤية شعر مُدرّع بالحديد في ساحات القتال والمقاومة؟
ـــ لقد أدخلتنا الحربُ العالمية الأولى إلى المشرحة،فكانت لنا مسرحاً تنزّ منه الدماءُ والآلامُ والدموعُ والأفكار المتسخة بأدخنة الأسلحة.لذلك كتبتُ أول أعمالي (قصائد أولى) عام 1913وأعقبتها بمجاميع (حوارات عديمة الجدوى) و(قصائد من أجل السلام) وكانت كلها صرخات مضادّة للموت والفناء.
■ هل وجدت حلمكَ بالانضمام الى الحركة الدادائية ،والانخراط مع أراغون وبريتون وتزارا في تأسيس تلك المدرسة الفوضوية عام 1919 ؟
ـــ لم أجد حلمي في الدادائية،لذلك أطلقت على جبهتها رصاصةً،والانتقال إلى السوريالية ،باعتبارها مدرسة المجانين العظمى في تاريخ الشعر الفرنسي .أي إنها كانت العالم الأرحب حركةً والأكثر عبثاً وإفزاعاً للأنفس على كل الصعد،وفي مقدمتها الشعرية .
■ والحب.لماذا لم تأتِ على ذكره يا سيد إيلوار ؟
ـــوماذا به الحبُ؟!!
■ ألمْ يكن النظرية الأولى التي أسستْ للصراع الثنائي ما بين أقطاب الشعر أو الفن عموماً ؟
ـــ لماذا لا تسألني عن حبيبتي ( غالا ) بشكل مباشر ؟!
■ أنتَ فتحت في الحواسّ الأبواب العاطفية.ولذلك نريدُ تتبع رائحة المرأة (غالا) في كلّ من بول إيلوار وسلفادور دالي ؟
ـــ كانت غالا بالنسبة لي لغة مشحونة بالعواصف والعواطف والجنون .فيما هي عند سلفادور دالي ليس غير امرأة عارية تنام على قماش لوحة بإطار خشبي ميت.
■ كأنك استوليت على عقل تلك المرأة ( غالا ) فيما استولى دالي على جسدها .ما نسبة الصحة من الخطأ في هذا السؤال ؟
ـــ هذا كلام في الصميم. ولكنني تمتعتُ بشئ من تراب ذلك الجسد أيضاً.لم يأخذهُ مني سلفادور كلياً .
■ كان دالي يترك لكَ منه الفتافيت تقصدُ ؟
ـــ لم نكن نتنافسُ على كبد بطة،بل على مقاطعة جنسية بأكملها.فقد رفعَ الصراعُ ما بيني وبين دالي تلك المرأة (غالا ) إلى مصافي الأساطير .
■ كنتما تهوّلان الأمر كثيراً. فيما تلك المرأة لعوبٌ ،وبجمالي عادي لا يستحق كلّ ذلك الهوس .هل كنت ودالي تعانيان من كبت أو إحباط جنسي؟
ـــ بالتأكيد. فأنا الآن ،كلما نظرت إليها الآن،لم أر غير امرأةٍ شبيهة بأنثى العنكبوت .
■ وهل تظن بأن سلفادور دالي ينظرُ إليها من المنظار ذاته ؟
ـــ لا. كان دالي يعتني بانتصاب شاربه أكثر من انتصاب أية عضلة أخرى من جسمه .
■ ولكن غالا هجرتك،لتلتصق بحياة دالي على الرغم من مناداتك لها ((ستبقي الوحيدة في حياته والي الأبد)) ومناداة غالا لك ((يا زوجي مدي الدهر )) ؟
ـــ أجل. وأعرف سبب ذلك.
■ ما السببُ برأيك ؟
ـــ المال.فلوحات دالي كانت بمثابة خزينة عائمة في بنك.والشعرُ غير ذلك بالمطلق.
■ أي جسر يربطُ ما بين الشعر والرسم ؟
ـــ الأقدامُ .
■ ماذا تقصدُ بالأقدام ؟
ـــ أقصد أن الشعرَ مخلوقٌ يجلسُ على أريكةٍ عالية،فيما أقدامهُ تتخبطُ بحوض من الألوان الزيتية.وبمجرد أن يأتي الوقتُ،ويتحركُ الشاعرُ،ستكتشفُ ان ثمة جسراً رسمتهُ تلك الأقدامُ ليربط ما بين النفس وبين الأرض.
■ أليست هذه فكرةً سوريالية ؟
ـــ ربما.فالسوريالية هي الطين الذي تصنعُ منه الفنونُ أشكالَها وطقوسها ،قبل أن تطبخ آدابَها في أفران النار،لتأخذ الشكل النهائي في الصلصال أو المعدن.
■ كنتَ رمزاً سوريالياً مُعَظماً.وقد قيلَ أنكَ أردتَ أن يأكل بريتون التفاحة السوريالية، ليتمَ طردهُ من ذلك الفردوس.هل ثمة صحة في ذلك ؟
ـــ لم تكن غير رغبة باردة.ولكن أندريه بريتون فعلها بنفسه،عندما أكل التفاحة وأغلق باب المدرسة ،ليترك السوريالية في العراء ويهربُ مختفياً .
■ كتب أحدهم في مجلة (وعد) لاميراك يقول عنك: ((كان بإمكان إيلوار أن يستغني عن السريالية،ولكن السريالية ،لا يمكنها الاستغناء عن إيلوار.ان الوضع القطعي يرافق الوضوح الطبيعي في هذا الصنيع الأدبي )).لماذا قيل كلاماً مثل ذلك برأيك؟
ـــ ربما لأنني لم أر حاجةً للرعاية من شخص أو مدرسة.بمعنى أدق،كنتُ أكتبُ .وكانت مختلف صنوف المدارس تدور حول كتابات مثل ذئاب تريد سحبي إلى مائدتها لغاية التهامي لحماً وعظماً .
■ هل يمكنُ للشاعر أن يكون ذئباً برأي بول إيلوار ؟
ـــ ممكن جداً.الغاباتُ الكثيفة للغة ،تفرضُ على الشاعر أن يكون شبيهاً بذلك الحيوان المُفتَرِس.فكيف إذا كانت اللغةُ ممتلئةً بالجثث الميتة أدبياً،والأجساد السلفية المتفسخة لغوياً ومنطقياً .
■ والحب .ألمْ يكن له كياناً في تلك الغابات اللغوية ؟
ـــ الحبُ ثابتٌ وقديمٌ وممتلئ بنا.وهو موجودٌ حتى في لوحة ((غرنيكا)) .
■ ألا يبلغهُ ضررٌ ،أو يغطي وجههُ غبارٌ ؟
ـــ لم أفكر يوماً برؤية غبار يغطي وجه الحبّ،لأن الأخير مثل جسد الإوز. لا يصاب بالبلل أو يتضرر بالماء.
■ إلا تعدّ الاضطرابات العاطفية التي عشتها ما بين غالا وناش ودومينيك وأخريات ،هي اضطرابات شعرية بالدرجة الأولى ؟
ـــ الشاعرُ العظيمُ هو المضطرب المثالي بين الكلمات وفي أسرة النساء وحسب.
■ ما مدى الشبه ما بين الحب وبين الفنون البدائية التي كنت تعشقها ؟
ـــ لم أر الحبَ إلا أباً للفنون البدائية.هو الأنتيكا الأولى للوجود. وسيبقى خط الدفاع الأخير لنا في هذه السموات التي نجلس على أعتابها كحراس فارغين من الموت.
■ أنت حاولتَ أن تستخرج من أحشاء الحب الأمل،لتعلّقهُ على أعمدة الكهرباء في شوارع ما بعد الحربين. أيُّ أمل كنتَ تبحثُ عنه ؟
ـــ الأمل في أن تصبح البندقية جثةً بلا حِراك.
■ وحامل البندقية المُسَلح بها ؟
ـــ ذاك كائنٌ يستحقُ العلاج بالفنون قبل العقاقير بالتأكيد.ومثلما فعلتُ بجسدي،عندما وضعت ما بينه وبين الحرب سور الصين،علينا اللجوء لتلك الفلسفة من أجل تدوير مخلوقات الحرب وإعادة تكوين لصالح الأمل الذي نحاول استخراجه من الرحم المظلم.
■ ألا تعتقد أن الكتابة عن الأمل في زمن الحرب،تشبهُ تأليف رواية عن قبر ؟
ـــ يمكنك قول ذلك يا صديقي أسعد.فالأملُ لم يُعَدّ حقنةً مهدئة ،بل أصبح هو التابوت المحمول على الأكتاف وسط حشود من البشر.وكل سائرٍ وراء تلك الجنازة،يظنُ أن له حصةً من تلك الجثة.
■ أهذا رثاءٌ للأمل ، أم حذلقةٌ شعرية عابرة ؟
ـــ لا تفتحُ الحربُ في جبهةِ رأسي إلا سجلات الموتى.لذلك ترى الدماءَ تغطي الأحلامَ والرغباتَ والأشجارَ والكتبَ والثيابَ والأسطوانات.ومع ذلك ،لن أجلس طلقةً في فوهة بندقية .
■ حتى لو كانت بندقية تعمل في صفوف المقامة التي كنت جزءاً منها في فرنسا ؟
ـــ لا. تلك المقاومة لها من البنادقَ ما ليس بالإمكان خدش مشاعرها،لأنها نجمة الحرب العالمية الثانية. وقد كتبت من أجلها قصيدتي (( حرّية)) ضدّ الاحتلال الألماني لفرنسا.
■ تقصدُ تلك القصيدة التي قرأتها في مرسيليا أمام حشود هائلة ،فيما كانت الطائرات الحربية البريطانية بإلقاء آلاف النسخ منها على الأراضي الفرنسية المحتلة، (( لتشكيلها رسالة أملٍ لن تلبث أن تثير حماسة الفرنسيين ورغبتهم في الانعتاق )). ؟
ـــ عندما يغرقُ الشاعرُ في الحوض العسكري،ما عليه إلا استبدال اللون الأحمر بالأزرق ،كي يتقدم بعض الخطوات إلى خارج جنازة التاريخ.الدمُ بنظري ليس سائلاً ،إنما هو جدارٌ حديدي لا يمكن تجاوزه إلا نادراً.
■ هل في ذلك الدم صحارى كما رأيت؟
ـــ أبداً.فعادةً ما لا تسمح الحربُ للرمال بامتصاص القوت الأحمر من تلك الكريات الدموية،كي لا تصبح الشرايين والأوردة أنابيب فارغة تدعو إلى الشفقة. فالقاتل لا يهدّم جسدكَ وحسب،بل ويلتقط معه صورة سيلفي لتُطبع حفراً في الذهن.
■ هل ساعدتك الحربُ على تكوين لغةٍ خاصة بك ؟
ـــ لا .أبداً.الأحلامُ هي التي فعلت ذلك .فعندما تتضخمُ الذاكرةُ ،وتصبح مأوى وحيداً لرغبات المخلوق البشري وطموحاته في العالم،سرعان ما تنضج اللغةُ ،وتستفردُ بالشاعر ،من أجل أن يستكمل بناء النصوص على ورق الفردوس السوريالي أو سواه.
■ كيف استطاع بول إيلوار التوفيق ما بين انضمامه للسوريالية كحركة شعرية خيالية عبثية ، وما بين انتماءه للحزب الشيوعي في 1927 كحزب اشتراكي واقعي وحديدي؟
ـــ كنتُ نقارُ خشبٍ متطرفٍ ،يحاولُ إحداث ثقب واسع في شجرة العالم،ليرى من خلاله مرضى الكون ومعدمي الشعوب،وكل ذلك من اجل أن ينتصر لهم .
■ وهل رأيتَ وانتصرتَ ؟
ـــ أنا لم أرَ وحسبْ،بل أصبحتُ باحثاً عن تلك الغابة في أعماق الفكر الذي كان يسلبني قوتي الشعرية ،لأمتلئ بكل ما هو إيديولوجي في مسأئل ما يُسمى بجعل العالم فراديس طوباوية مثالية خالٍية من المجاعات والآلام والجرحى.
■ هل فقدت الإيمان بآلهة الكلاسيكية الإيديولوجية المُنتجة للكلاسيكيات السياسية ؟
ـــ آنذاك. وما بين حربين عالميتين ، كنت كالرمح أعاني من الصدأ .
■ ولكن ذلك دفع بك للخروج عن النط الكلاسيكي للشعر الفرنسي، والانغماس بالثورة على تقاليد كتابة الشعر القديم.ألا تعد ذلك تطوراً في حياتك الشعرية ؟
ـــ لقد حفرتْ الحربان في أعماقي الخنادقَ من أجل مقاومة الموت .أو دفعتني على الأقل ،لحماية رأسي من القنابل في أسوء تقدير.
■ وعلى صعيد الشعر ؟
ـــ فتحتْ تلك الحربان في رأسي باباً خلفياً للطوارئ.فكل صورة تصعدُ إلى مخي من بوابة العينين، سرعان ما يتم التعامل معها نفسياً،لتخرج للناس قصيدةً مثقلة الأفكار القلقة المشوهة المتفحمة .
■ هل يعتبرُ بول إيلوار نفسه مريضاً بالشعر أم مدمناً به أو عليه؟
ـــ أنا كنت مريضاً به بالضبط .لكن ذلك المرض،سرعان ما انتشر في جميع حواسيّ،ليجعلني مدمناً عليه كما يدمن البعضُ بالأفيون ومشتقاته من المخدرات.
■ ألا تعتقد أن الشعرَ مخدرٌ من نوع خاص؟
ـــ بالتأكيد.مُخدرٌ برادار .
■ كيف .ولماذا الرادارُ بالذات ؟!!
ـــ كنتُ أظن أن المرءَ ،وما أن يُدمنُ الشعرَ،حتى يستنفرَ جميع رادارات اللغة،لتنقل له بكتريا حواسّه المُشتعلة وبلاغته ومشاهده وصوره للآخر.ثمة نشوة يجب أن تقوم ما بين الاثنين،ودون ذلك ثمة خلاف على جوهر التأليف الشعري.
■ أنت تعطي القارئ دوراً في القصيدة ؟
ـــ طبعاً.وهذا شئ بديهيّ بالنسبة لي.
■ من باب الشفقة مثلاً ؟
ـــ حتماً لا. القارئ هو الفضاء الذي يحلقُ فوقه الطائرُ الشعري.
■ الفضاء أم الأرض التي يحلق ذلك الطائرُ فوقها ؟
ـــ في الكثير من الأحايين يندمجُ المفهومان - الأرضي بالفضائي - فيشكلان معزوفةً رومانسية لخلود الشعري في حياة الأقوام التي تحاول الحفاظ على وجودها في الدنيا.
■ ألا تعتقد بأن الرومانسية هي النظام الغذائي في المطبخ الخيالي للشعر ؟
ـــ لم أؤمن حتى الآن إلا بالقصيدة التي تتحول إلى طاولة تجتمعُ حولها الشعوب .
■ ثمة ناقد كتب عنك يقول: «لقد تنحى إيلوار بشعره عن مفهوم المزاوجة بين الأحداث، فجعل لكل فكرة خصوصيتها على صعيد الحدث المؤثر في لحظة الخلق الشعري، أي أنه أقام من دون أن يعلم نظاما رقابيا على مخيلته ووعيه. يكون فيه اللاوعي هو الجهة المنفذة لذلك النظام الرقابي الذي أعطى فيه للوقائع المرئية استحقاقاتها، وللذاتي غير المقترن إلا بحدس الخيال هو الآخر استحقاقاتها التي تتوجب ضمن دائرة مخيفة من متطلبات الحاجة للحب والحياة» .ما الذي يعنيك في رأي كهذا ؟
_ أنا لا أريد الانخراط بمجرى آراء النقاد وأفكارهم .لقد كتبوا كثيراً،ولكنني بالمفهوم العام ، شاعر لم يترك قصائده عرضةً لفئران الأمية السياسية.كنت أبني في شعري للأحداث الكبرى قلاعاً تليق بتلك الجسامة .لم اخضع الشعر للسياسي ،مهما كانت حرارة المآسي.
■ ولكنك أوقع شعركَ في مطبات سياسية مباشرة ،عندما تناولتَ الحرب والحرية؟
_ قد يحدث ذلك ،فيفقدُ الشاعرُ السيطرةَ على شعرهِ تحت تأثيرات الدم والقتل والخنادق الممتلئة بالجثث. في تلك الأثناء، كثيراً ما يفقدُ الشعراءُ السيطرة على أدوات اللغة غير المتحررة من تبعية الوعي السياسي المباشر.
■ هل من وظائف الشعر مسحُ الدم عن جبهة الحرب وحسب؟
_أبداً لا.فالحروبُ لا تسفكُ الدماء فقط،بل تحوّل الظلمات في البشر إلى مادة حجرية غير قابلة للتفتت ،وليس بإمكان المرء رمي مخلفاتها في الهاوية بسهولة.
■ كيف يصبح الشاعر غنائياً برأي إيلوار؟
_ أن يغرقَ بكيمياء الجماليات الحافلة بالعطور والشجن ومصحات الغرام .فما الشاعرُ إلا صندوقاً موسيقياً يضمُ ملايين الأشرطة والأسطوانات .
■هل يصحُ القول أن الشاعر وريثٌ شرعي للمغني؟
_بل هو المغني الذي تحوّل ذات يوم إلى صانع الورق الموسيقي.الورق الذي عادة ما يتحوّل إلى أصوات تشغلُ الأرواحَ بالتناغم ما بين الوجود والعدم.ما بين العزلة والاستغراق بالحنين الاندماجي بالآخرين من ضحايا المنافي والانفصال والطلاق وميلودراماتيكيات الشعوب.
■ أنتَ والمرأة.كيف يمكن كتابة مقطع شعري بهذا الخصوص ؟
_ أنا المرأةُ التي مشتْ بذكورتي ،فاندمجتْ جسدين بواحد ،وصولاً إلى جبال اللذّة اللامتناهية.
■ هل المرأة لذّةٌ فقط ؟
_ حكماً لا.ولكنها ليس دبابة أيضاً .عليك أن تعكسَ السؤالَ ،وتطرحهُ على المرأة:هل الرجلُ هو لذّةٌ فقط؟
■ لا أدري أين أجد تلك المرأة ،لأطرح عليها سؤالك؟ هل تعرف أين تقيم الآن ((غالا )) في مناطق السموات ،لأطرح عليها السؤال؟
_ لن تجد لها أثراً أبداً.فقد أخبرني الشاعر إيف بونفوا ،أن سلفادور دالي قام َ بحرقها وتحويلِ رمادِ جسدها إلى عقار دوائي يمكن الاستفادة منه في دار الآخرة.
■ ولمَ فعلَ بها دالي ذلك.هل بوصية من الشاعر ديك الجن الحمصي أم كان مُقلداً له؟
_ لا هذا ولا ذاك.لقد فعلها دالي من أجل أن يستردَ من جثمانها حبوب الفياغرا التي سبق وان استعملها من أجل استنهاض حياته الجنسية معها. والآن جاء الدور لاستخدام تلك الحبوب المقوّية للجنس مع حوريات السموات .ذلك ما يفكر به سلفادور.
■ كيف متَ أنتَ ؟
_ عندما دخل الصباحُ منزلي في جرافيل بفرنسا ،حاملاً لجسدي النوبةَ القلبيةَ مثل إكليل أحمر ملطخ بالسواد .
■ واستقبلتهُ ؟!!
_ آنذاك.. كان الموتُ مقنعاً بوجه ((جالا)) المحظيّة بكلّ العشاق الذين أوقعتهم بحبائلها ،بدءاً مني ومروراً ببريتون وماكس إرنست والشاعر كريفيل و ((ينتهي الأمر بأن تقع جالا تحت تأثير الفنان المعروف سلفادور دالي. الذي يقول رفيقه لوي بونويل أن دالي كان بِكرًا وقتها، وأن جالا كانت بمثابة الأنموذج الأنثوي المثالي الذي هبَّ فجأةً واستحوذ عليه فاستحوذ عليها فتزوجها وصورها في كثير من أعماله حتى بعدما كبرت في السن.))
■ وما أن أسقط دالي غالا بحضنه،حتى تحوّل بول إيلوار إلى (( عرضحالجي)) .كاتب رسائل .فكتبت لها 272 رسالة تزخر بالغزل والشكوى والفتنة ولوعة الشغف .أليس كذلك يا بول؟
_ ذلك ما حدث تحت تأثير سحر مليكتي القديمة،تلك التي سرعان ما تحوّلتْ إلى الأرملة الروسية السوداء ،موزعةً جسدها على كتيبة من عشاق حمقى ،سرعان ما استغرقوا بسمومها وانتهوا كهوامش على الأرصفة.
■ هل حاولتَ تطهير نفسكَ من الدَّنَس الجنسي القديم الذي مررتَ به في زمن حياتك الأولى،وبالتالي لتمنح نفسك القوة،فتجرؤ على تنقيح تاريخك العاطفي على تلك الأرض؟
_ لا أستطيع فعل ذلك أبداً،لا على الأرض ولا في السموات.
■ ولمَ لا ؟
_ لأن تفريغ الشعر من الدّنس ،بجعلهِ نصاً مقدساً،سيدفع به إلى الهاوية. الكتابةُ في الشعر،لا تتطلبُ أدوات تنظيف ومساحيق غسيل وحبالاً لنشر الضمائر .إنما تحتاج شمساً ساطعةً تقوى على تطهير الجسد اللغوي من البكتريا المعادية للنشاط الخيالي.
■ هل أنت محظوظ في مكانتك السماوية هنا ؟
_ بالطبع أنا محظوظ هنا.ففي عيادة الربّ ،يتطببُ الملايينُ من معاقي الحروب ومرضى النساء والكحول والأميّة.حتى أنني آخذ بين الفينة والأخرى طائر ((الكرزو )) للقيام برحلات خارج الفردوس منعاً للضجر والتكرار والتصحر النفسي.
■ ومن أين لك طائر من ذلك الطراز؟
_ هو من طيور الفردوس .فعند طائر ((الكرزو)) جيب شبيه بجراب الكنغر،ما أن أكون بداخله،حتى يقوم بالتحلق بي، قاطعاً آلاف الأميال ،لتحقيق عما يعتمل بداخلي من رغبات.أحببت هذا المخلوق،ولذلك أصبح بمثابة الصديق المشترك الوحيد مع المطربة أديث بياف.
■ وهل تعرف السيدة بياف شخصياً هنا ؟
_ ذلك صوت غنائي لا يمكن محوه من الذاكرة.هو صوت طالما توغل عميقاً في جيولوجية أرواحنا المبعثرة كأوراق من كتاب محترق .
■ أنت كتبت ذات يوم قائلاً :
رجل مات ولم يكن له ما يدافع به عن نفسه
سوى ذراعيه المفتوحين للحياة.
رجل مات،ولم يكن له من طرق آخر
سوى ذلك الذي تُكره فيه البنادق.
رجل مات،وهو يتابعُ الكفاحَ ضد الموت
ضد النسيان.
أحدهم قال: ((بالمستطاع حفر هذه الكتابة على قبر إيلوار الذي كان يريد أن_ يحرق الموت _ والذي كان يقول : ((ان الفجر يذيبُ المسوخ)). فما الذي حدث بعد ذلك بالضبط؟
_ لم أكن مهتماً بالكتابة على شاهدة قبري،فربما قليلٌ من الكلمات، تستطيعُ تلخص حياتي العائمة كباخرة على مياه بحيرة توشكُ على الجفاف.
■ كيف لشاعر ينتمي للسوريالية مثل بول إيلوار أن يقول : ((يجب أن تكون الحقيقة العملية هي هدف الشعر ))؟ أليست هذه هي خيانة للمبادئ التي صاغها الذئبُ أندريه بريتون ؟
_ إذا كانت السوريالية قد خانتْ المنطقَ يوماً،فالشعرُ بجوهره ،هو خيانةٌ مبطنةٌ للحقيقة على الصعيد العملي أصلاً .
■ كأنك تريد القول ،أن الشاعرَ فيلسوفٌ فاشلٌ ؟
_ بالضبط. وسيكون من العبث أن يحشرَ أنفهُ في تلال من القش.لأن الفلاسفة أضاعوا إبرة الدليل هناك.
