اسكندر حبش

سيلفيا بلاثبالتعاون مع «منشورات الجمل»، تُقدم مؤسسة «كلمة» (الإماراتية) مشروعا كبيرا لترجمة الشعر الأميركي المعاصر إلى العربية، صدر حديثا في 15 جزءا، قام بنقله الشاعر سامر أبو هواش. هنا محاولة لتقديم الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث وكتابها «أكثر من طريقة لائقة للغرق» الذي صدر في هذه السلسلة، معتمدا بالدرجة الأولى على يومياتها التي صدرت بترجمة فرنسية عن منشورات «غاليمار» الفرنسية العام 2000. وبلاث، التي انتحرت خنقاً بالغاز في منزلها، في العام 1963، كانت من أبرز شاعرات عصرها.

ثمة أسطورة نُسجت حول سيلفيا بلاث الشاعرة والروائية الأميركية (1932ـ1963). أسطورة سلبية بدون شك بدت فيها الضحية، المضطهدة. فسيلفيا، هي الفتاة الانتحارية التي عرفت تجارب الصدمات الكهربائية والعيادات النفسية والتي ـ ذات يوم من أيام شهر شباط من العام 1963 ـ وفي أحد المنازل التي سبق للشاعر «ييتس» أن سكنها في لندن، أغلقت باب المطبخ على نفسها (بعد أن وضعت طفليها في غرفة مجاورة، بمأمن) لتضع رأسها داخل الفرن وتُشعل الغاز. ماتت وهي في الواحدة والثلاثين من عمرها. كان أمامها المجد و«عطر هذا الهدوء» وهذه الأعصاب المتوترة التي ساهمت في شيوع أسطورتها. لكن ما كان يقبع تحت الأسطورة هذه؟

كانت «السيدة لعازر» ـ على قولها في وصفها نفسها في قصيدة تحمل العنوان عينه ـ سيّدة عاطفية، عنيفة، صبيانية، حسيّة، افتتانية، شهوانية، هشّة، يائسة: «أتحدث إلى الله، لكن السماء فارغة، وأوريون، يمضي من دون أن يتكلم. أشعر بأنني لعازر. مررت بالقرب من هنا، وخرجت من القبر وعلى وجهي الندوب». (لا يترجم أبو هواش هذه القصيدة، بل يشير إليها في مقدمته للمختارات).

لم تتأخر شهرة بلاث، إذ سرعان ما أصبحت مؤلفة كتاب «جرس الأحزان»، مثال «النسوية» التي أرهقتها التطلعات المتناقضة، نحو الأمومة والإبداع، والتي خانها زوجها، الشاعر تيد هيوز، «الرجل المعدني»، ليغادر المنزل العام 1962، بسبب خيانته هذه: «انه عالم من الكذابين، الغشاشين، من الرجال المجردين من الغرور أو المتحكم بهم». هذا ما كتبته في يومياتها في حين كانت تشعر بالرعب من شفتيّ منافستها الحمراوين اللتين تصفهما حقدا بالساقين السمينتين.

هل كان تيد هيوز مذنبا؟ هل كان قاتل البراءة؟ هل كان الحمل الذي ضُحي به أم «المينوتور»؟ وبعيدا عن الدفاع عن الخيانة الزوجية، قد يتوجب علينا، أن نبقى حذرين تجاه قضية مسؤولية تيد هيوز، بالرغم من انه كما هو شائع أحرق الجزء الأخير من يوميات بلاث التي تغطي الأشهر الأخيرة من حياتها، قبل انتحارها كي «يحافظ على هذه العائلة وعلى الأطفال».
إذ إن نشر كتاب «رسائل عيد الميلاد» في العام 1998 الذي يتضمن 80 قصيدة لتيد هيوز، وهي قصائد تتقاطع مع قصائد زوجته، تظهر لنا كم انه «في الظلام العميق البلا نجوم» لحياتها القصيرة، حصلت سيلفيا على أكثر ما كانت تطمح وتصبو إليه في هذا العالم: الحب. (صدر هذا الكتاب بترجمة عربية لمحمد عيد إبراهيم عن منشورات «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» في الكويت، ضمن سلسلة «إبداعات عالمية»).

فلفترة طويلة شكل انتحار بلاث، الذي يهديها هيوز، هذه «العمارة الكئيبة» التي تتألف منها طبقات هذه الرسائل، مادة لصمت لا يمكن دحضه. من هنا جاء صدوره ليقطع مع 35 سنة من «حبسة عصابية» لم يستطع أي شيء في كسر طوقها الذي لفّ الشاعر، الذي فضل عدم التحدث عن انتحار زوجته، على الرغم من الاتهامات التي وجهت إليه بأنه كان المسؤول عن هذا الانتحار. بيد أن المفاجأة والميل إلى هذا الغموض الذي يتفسخ أمامنا، دفعة واحدة، من خلال قراءة الكتاب، لا يشرحان مطلقا هذه الاندفاعة الجميلة في كتابة الشعر عند تيد هيوز. فإذا كانت القراءة تبدو كأنها في متناول الجميع، إلا أن العالم الذي تحيلنا عليه يبقى عالما من دون تنازلات. تأتي هذه «الرسائل» لتقلب الموت، لتعيد اكتشاف «الميتة» مثلما لم تتوقف يوما من أن تكون عليه في نظر جميع الذين أحبوها: شخصا حيّا. رسائل/ قصائد مليئة بهذا الحب الذي ينفخ ويتأرجح بين السطور، ليشكل «الأوكسيجين» الوحيد، الذي لم تستطع الراحلة أن تتنشقه. انه حب رهيب، انه أكثر من حب يجمع بين جسد وجسد، لنقل انه أشبه بعملية «افتراس» متبادلة. من هنا، هل يستطيع القارئ أمام هذين الطرفين المندفعين إلى أقصى الأشياء، أن «يزم» شفتيه ويمضي بدون أن يتوقف للحظة؟ إننا أمام كتابة تخبرنا كل شيء عن هذه المعشوقة التي رحلت، بدءا من أنفها، مرورا بفمها، وكذلك العينين...

لا أحد سواي

من هنا، لا بد من أن نطرح السؤال حول ما تقدمه يوميات سيلفيا بلاث، قبل أن ندخل إلى شعرها؟ هل كانت الشهيد أم السفاح؟ الحبيبة أم الأنانية؟ وإزاء ذلك، هل كان شعرها، شعراً خاطفاً، أم كان شعر «ثلج العواطف المتمهلة»؟ هل هو سخرية أم شكوى؟ هل كانت ضحية أم موهوبة؟ ومن نصدق؟ أنصدق البتول التي رغبت في أن تُشتهى والتي كتبت «أيها الحب، أيها البتول/ لا أحد، سواي» (من قصيدة «رسالة في نوفمبر» ص 118) أم الشاعرة التي أدخلت رأسها في الفرن، الشاعرة الصافية التي احتجت: «أريد حياة متنازعة، متوازنة بين الأطفال والقصائد والحب والأواني القذرة».

أمام كل هذه الأسئلة، تحمل هذه اليوميات، بعض الألوان، لتضيفها فوق رمادية «البورتريه الأكاديمي»؛ تقول: «هيا بنا، أيتها الشقراء، بالأحرى الكبيرة، المبرنزة، لا بأس بك إطلاقا». تكمن نبرة اليوميات في مثل هذه الأجواء، إذ نحن، بين روزنامة فتاة فاتنة تمت بصلة إلى «العصر الناعم» وبين تقطير شعر عنيد، أليم. أي كانت «تتمدد تحت الشمس» حيث اليود والاستحمام وانخطاف الشواطئ والقبلات المسروقة وحفيف أثواب التافتا في حفلات «نيو انغلند» وعربات «الكاب كود» والشعر المتطاير في الهواء: «أريد أن أقتل نفسي لأهرب من كلّ مسؤولية ولدناءتي أريد أن أدخل، زاحفة إلى رحم أمي».

تتأرجح اليوميات هذه كما يوميات فيرجينيا وولف أو كاترين مانسفيلد أو أليس جيمس بين الداخل (المنزل، المطبخ، الأطفال، الحميمية) والخارج (الجنس، الأصدقاء، اللقاءات، خيبات الأمل) في «أن يتعوّد المرء أن يكون كليا، في الداخل والخارج، كرسيا، فرشاة أسنان، فنجان قهوة: أن يحس كي يعرف».

إزاء ذلك كله، هل نقع على تحديد للفن في يوميات سيلفيا بلاث؟ الجواب: «أن يكف المرء عن أن يكون هو نفسه»، أيّ على قولها، كانت سيلفيا بلاث حرباء مغرورة، تتردد، تتأرجح بين الضحك والنسيان. تأرجح بين الانهيار والفرح، بين القدم والرأس، بين العدم والكل، بين الكلمات «الفاكهة» والصمت الثلجي، الأشبه بالموت، الأشبه بنشرة الأحوال الجوية، حيث تقدم في كل صفحة، زخة مطر، شعاع شمس وترتج مثل خيط حديدي ناعم جدا، إنها تسجل كل شيء، الأصوات، الروائح، الألوان («البنفسجات القاتمة وأراضي سينيا الناعمة حيث يكمن صيّاد برهافة لا تضاهى»).

هل يدفعنا هذا العمل «الورع» إلى قراءته؟ هل نتوحد في «عبادة» بلاث؟ ربما، لكن علينا قراءته، نتفا نتفا، بانسياب، إذ إن الحصيلة تكون متعبة أحيانا من جراء الرتابة، وإن كانت تحرض من جراء الحساسية المفرطة، حساسية هذه الشخصية.

أسيرة الانتحار

تبدو هذه اليوميات، كأنها قناة لتصريف المراهقة، «حائط مبكى»، ريبورتوار للأزمات، تحليل ذاتي، اجتياز عتبة المرآة، وبخاصة إعادة تركيب الذات. إنها الرعب أمام الصورة الخاصة «أتوه، ضائعة، أنتعل حذاءً أحمر، أرتدي قفازين أحمرين ومعطفا أسود، ألملم صورتي من على الواجهات الزجاجية...». حين صدر الكتاب بالإنكليزية، قال عنه تيد هيوز بتحفظ بانه «سيرتها الذاتية». من هنا لو أعطينا هذه الصفحات إلى محلل نفسي، لاستخرج منها بلا شك مادة كبيرة. ومع ذلك فقد كان لبلاث طبيبها النفساني، كان «مُغمّاً» مثل «روماني» وقد أسمته «طبيبي، عدوي».
باختصار، تفجر هذه اليوميات عقوبة «الأنا»، بالرغم من نظام حياتها المنذورة للكتابة، للحب، للطفولة، حتى الخيانة الأخيرة، حتى عودة الشياطين. من هنا جاء الشعر كي «يكثف ويحيي وليصل بلدغة باردة إلى نواة الوجود». كانت القصائد «نُصُب اللحظة». وفي البيت الذي سكنته مع ولديها، فريدا ونيكولا، كانت تنهض كلّ صباح عند الفجر، لتكتب أفضل قصائدها، لتجمع «أنواتها» المتناقضة، تلك «الأنوات» التي تبعثرها اليوميات. كانت تبحث عن الراحة في الموت. كانت تطمح إليه. لنستمع إليها جيدا في قصيدة «محادثة بين الخرائب» ... «ترسم الأنصاب المحطمة كتلا من الصخر/ وبينما تقف منتصرا بمعطفك وياقتك/ أمكث رابطة الجأش/ متدثرة بردائي الإغريقي/ عاقدة شعري كامرأة إغريقية/ عالقة في نظرتك السوداء/ وقد استحالت المسرحية تراجيدية:/ بعد هذا البلاء العظيم/ أيّ طقوس من الكلمات/ يمكن أن ترمّم الخراب؟» (ص: 13).

كلّ شعر سيلفيا بلاث يمكن له أن يظهر كأنه محاولة لترميم هذا الخراب الذي عاشته منذ طفولتها، بدءا بغياب الأب، وصولاً إلى غياب المدينة والزوج والحبيب. ففي المختارات التي يقدمها سامر أبو هواش، يبدو واضحا، هذا الخراب التي عانته الشاعرة الأميركية والتي قادها إلى الانتحار، لكن حسنة المختارات، الأولى، أنها تدخلنا عميقا إلى مناخات بلاث وعوالمها، بمعنى أننا نقرأ الشعر كشعر أولا وأخيرا، بعيدا عن قصة انتحارها التي كانت السبب في شهرتها. إذ وقعت بلاث أسيرة هذا الانتحار ولم تستطع أن تتخلص منه، بالأحرى لم نستطع قراءة شعرها بعيدا عن هذا الشرخ. من هنا، لننسى هذه القصة قليلا، ولندخل إلى الشعر مثلما هو عليه: «سيرة» كائنة أحبت وعاشت وحاولت أن تكتب عن هذه الحياة المنسابة من بين أصابعها مثلما ينثال الرمل.