صباح زوين

حكاية الحكايات«هذه هي حكايتنا كلنا ؛ هل من يخبر عنا ذات يوم ؟». هذا ما اراد ان يقوله باختصار شديد الشاعر اسكندر حبش في كتابه «حكاية الحكايات» الصادر عن دار الآداب مؤخرا ً. اراد ان ينقذ كتاباته الصحفية من النسيان، من هذه الذاكرة البشرية العقوق، او تحديدا، ذاكرة القارئ الصحفي الركيكة. فالكتاب، رواية كان ام ديوان شعر، وخلافا للمقال الصحفي، يبقى ولا شك، بغض النظر عن كونه قيمة ادبية صرفة او مجرد حفنة ورق صالحة مع الزمن للرمي في سلة المهملات او في محرقة ما، فالنقد الحقيقي يأتي في ما بعد. ليس هذا موضوعنا الآن. الموضوع هو ارادة اسكندر حبش وغيره من الكتاب في انقاذ كتابتهم الصحفية من التلاشي.

واسكندر حبش لم يفته الأمر فحرص، وليست هذه المرة الأولى، على الحفاظ على كتاباته الصحافية الغزيرة والغنية، فآثر ان يجمعها في كتاب واحد، منتقاة، مصطفاة، بعد تدقيق وعناية ؛ الم يقل في مقدمة كتابه: «ربما كل ما في الأمر محاولة انقاذ بعض هذه الحياة التي صرفتها على صفحات الجرائد، وكي لا تبقى مدفونة في خزائن الأرشيف، اذ لا يزال للكتاب سحره الخاص الذي يشدنا اليه»؟

فكانت اذا ً هذه الحكاية الحميمة والثقافية العامة بينه وبين القارئ، بينه وبين مقالات كتبها على مدى سنوات؛ لم يرفق حبش المقالات بأي تاريخ، ولم يحدد السنين التي كتبت فيها هذه النصوص؛ وهذا قد يكون افضل بحيث انه يجعلنا نقرأ نصاً ادبياً محضاً ولا يلزمنا بتأرخة صحافية زائلة، فلا يبقى تاليا ً امامنا سوى مضمون النص، المضمون الذي يتناوله الكاتب.

عمل جاد

كما يقول عنوان الكتاب الثانوي، هذه «قراءات في روايات معاصرة»، حيث الإضاءة على اسماء كبيرة ومعروفة جدا، لكن ايضا تسليط الضوء على اسماء مجهولة كليا، وهنا تكمن شجاعة حبش، في انه أصر ّ على ادراج تلك الأسماء غير الرائجة اعلاميا، ايمانا منه بأنها تساوي في الأهمية تلك المشهورة. بل ندين له بهذه الاكتشافات في الأدب الغربي، اذ لو اعتمد فقط على الأسماء المتداولة في كل مكان وكل الصحافة العالمية لما حسبناه خرج عن المألوف وعن الرتيب. ما ندين له هو تعريفنا بكتاب مغمورين بالنسبة الينا، كتاب على الرغم من ضعفهم الإعلامي، هم من اجمل من كتب رواية ومن اهمهم، اذا ما نظرنا الى اعمالهم وقرأنا رواياتهم.

اهمية العمل الصحافي تكمن في شغف البحث والاكتشاف، وليس في الذهاب الى الأهْوَن، اي الى المعروف والمكرس، حيث لا جرأة ولا مواجهة، حيث لا متخيل ولا مبادرة.
وكلامي لا ينطبق سوى على قوله، علما ً بأننا نعرف حبش تمام المعرفة حتى قبل ان يقول هو بنفسه ما ورد في مقدمته: «(...) فوجدتني افتش في احيان كثيرة عن كتّاب مجهولين لدى القارئ العربي، وحتى لدى بعض مثقفيه الذين غالبا ما يتفاجأون بكل اسم لا يعرفونه، اذ يميلون عادة الى الجاهز والمكرس الذي لا يحتاج الى عناء كثير وبحث (...)».
المثقف الجدي هو هذا الذي يركض وراء كل ما ليس مكتشفا بعد، وراء ما لم تعلكه الصحافة بعد، هو هذا الذي يجرؤ على تقديم كاتب لم نسمع به من قبل ولم تكرسه المؤسسات وما شابه. هذا هو العمل الصحافي الجاد والصحّي.

هذا ما يؤكده لنا مرة أخرى صاحب هذا الكتاب، بل يضيئه لنا ويشرحه في بوحه، وهو ان الكتابة الصحافية اذا كانت مضنية فعلا، ومن منا يشك في الموضوع، فهي من جهة أخرى تحفزنا دائما ودائما على المضي في مواصلة الاكتشاف الواحد تلو الآخر، مواصلة الغوص في عوالم مجهولة، لنعود من هذه الرحلات الأدبية وفي جعبتنا مواضيع جديدة تستحق النشر والكلام عنها وقراءتها. هو يقولها في اي حال وبكل وضوح: «وأعترف ان ثمة لذة لا تزال تعتريني كلما اشتغلت على كاتب جديد، اذ يضعني ذلك في كل مرة امام امتحان مجهول، لأعيد اكتشاف ادواتي الخاصة وقدرتي على التحمل، تحمل البحث والغوص في مناخات كاتب وأعماله».
من هنا ايضا قول حبش انه قد يسمّي هذا الكتاب «في خرائطية الرواية»، كونه لم يعتمد في مهنته الصحافية على كاتب واحد او الأحرى على جنس روائي واحد، ولم يعتنق خطا طوباويا واحدا في الصنعة الروائية، ولم يؤمن بروائي واحد دون سواه، انما ابحر في كل الاتجاهات الروائية، الاتجاهات اللغوية والأسلوبية، فلم يتوقف عند جنسية على حساب روائيين من جنسيات اخرى، وما قدمه للقارئ تاليا ً هو باقة واسعة ومتنوعة وغنية من الأسماء والأساليب والمدارس في الرواية العالمية والعربية والشرقية عامة. يقول: «لو صحّت التسمية لقلت انه كتاب في خرائطية الرواية، وأستعمل هذه الكلمة بمعناها الحرفي، اي سفر وتجوال في بلاد مختلفة الأهواء ؛ حتى الكتاب الذين اتناولهم ينتمون الى مدارس وتيارات فكرية وأدبية وأسلوبية متنوعة. لم استطع التعلق مرة بنمط كتابي واحد. وأكثر ما يدهشني قدرة البعض على الانحياز الى اسلوب محدد، لدرجة انه يصبح من محازبيه».

مهنية

ما يقوله حبش ليس سوى التعبير الصادق عن واقع صارخ في وضوحه وصراحته؛ اذا قرأنا الكتاب وجدنا انفسنا حقا امام مروحة شاسعة من اسماء عالمية معروفة وغير معروفة (وهنا تكمن جدارته)، يتناولها الشاعر الصحافي بمهنية صحافية عالية، حيث الهم الأكبر بل الأوحد، البحث عن الأدب الجميل للتعريف به، وليس الركض وراء اسماء براقة للتسلق على سلمها من اجل الشهرة الذاتية.

ونعود مرة اخرى الى السؤال الأول: لماذا هذا الحرص على ضم مقالات صحافية في كتاب، وقد نشرت في الجريدة («السفير» طبعا) وقرأها القارئ، ومر الزمن عليها ولم تعد موضوع الساعة. بكل بساطة وكما أسلفتُ اعلاه، لأن الكتاب يبقى. ولأن الصحافة هي يومية شبه زائلة. ولأن الشاعر اراد ان يحتفظ بما لا يحتفط هو عادة به! الم يقل:
«اشكر الصديق احمد سلمان الذي اعانني في البحث عن هذه المقالات في ارشيف «السفير»، اذ لولاه لما وجدتها، وبخاصة انني لا احتفظ بأي نسخة من مقالاتي». لكن هذا الكتاب ليس فقط للحفاظ على مقالات صحافية كما يريد اسكندر حبش. انه اساسا مرجع مهم وجميل لكل من يريد اعادة اكتشاف كاتب ما او الكتاب جميعهم الذين في هذه المجموعة.

السفير
29 مايو 2009