كائنات لم تعرف سوى الخيبات

اسكندر حبش
(لبنان)

خان زادهلا تبدو «خان زاده» رواية اللبنانية لينة كريدية (الصادرة حديثا عن «دار الآداب» في بيروت) رواية أولى، بمعنى أنها رواية تبحث عن علاقتها الداخلية لتستقيم أو عن سرديتها وطريقة القص، كي تصل إلى القارئ. كلّ ذلك، يبدو حاضرا في كتاب كريدية – التي عرفناها ناشرة (دار النهضة العربية) وبخاصة حين أتاحت للعديد من الشعراء العرب نشر مجموعاتهم، في وقت امتنعت فيه غالبية الدور عن نشر الشعر. في أيّ حال، ليس هدفي، هنا، الحديث عن هذه التجربة في عالم النشر، بل عن هذه الرواية، التي تُقرأ دفعة واحدة، من دون أن تحاول أن تتخلص منها (حتى وإن كانت صغيرة الحجم 126 صفحة من القطع الوسط)، أو لنقل من دون أن تؤجل استمراريتك في القراءة. ربما لهذه اللغة (السردية)، الآتية من دون أيّ مسوغات، الدور الكبير في جعلك تكمل الرحلة إلى نهايتها، على الرغم من أن كلّ واحد منّا يمتلك قراءته الخاصة، التي يجد فيها ما يدفعه إلى الاستمرار.

ما دفعني، بداية إلى الاستمرار، أنه منذ أن كتب الراحل محمد عيتاني (وأعتقد ذلك)، لم نقرأ عن «البيارتة» (بالمعنى الاجتماعي والبيئي ولنقل المذهبي لكن غير الطائفي) روائيا، أي عن صورة معيّنة من صور بيروت التي لا نعرفها كثيرا، حتى البيروتيون أنفسهم المنتمون إلى فئات أخرى. لكننا لنسارع إلى القول، إن كريدية، لا تذهب في كتابها هذا إلى دراسة اجتماعية أو نفسية، بل تبني كتابها وفق أصول القص والسرد، لتقدم لنا رواية تنساب بلطف بدون أيّ إعاقات جوهرية، وإن كنت أجد – وهذا رأي شخصي – أن الحديث السياسي في الكتاب (وهو قليل بجميع الأحوال) يذهب أحيانا إلى إيديولوجية ما أو لنقل إلى نوع من المباشرة، كان يمكن للكاتبة أن ترويه بطريقة أخرى.

مطبّات

في أيّ حال، نحن في رواية «خان زاده» أمام مصائر نسائية، تذهب عميقا إلى هزيمتها الشخصية، بعد أن هُزمت المدينة من جراء الحروب المختلفة التي عرفتها. ثمة ربط خفيّ، بين العام والخاص، من دون أن يقع الحبل الروائي في مطبّات التحليل الجاف أو النقد. من هنا، يمكن اعتبار الرواية وكأنها «حكايات الهزائم العادية» (فيما لو حوّرنا عنوان تشارلز بوكوفسكي قليلا «حكايات الجنون العادي»). هزائم تفرضها الحياة علينا، ليذهب كلّ واحد إلى مصيره الذي لم يخطط له، لنقل إلى مصيره الذي يرتضيه، إذ من دون ذلك ما من حياة تستمر.

للوهلة الأولى نعتقد أننا أمام حكايات نساء ثلاث، هن «جيهان» و«روعة» و«الراوية» نفسها. تأخذنا الكاتبة خلالهن في رحلة عبر الذاكرة بدءا من طفولتهن، ومرورا بصداقتهن الأولى وصولا إلى اللحظة الراهنة. يأتي الكلام على لسان الراوية «البيروتية»، التي تجلس على كرسيّها في بيتها في «سوق الغرب»، بعد أن غادرت السكنى في بيروت (مثلما نفهم لاحقا). ومن مكانها «الريفي» (إذا جازت التسمية) تراقب المدينة التي تطلّ عليها، مثلما تراقب حياتها المنسابة أمامها، تماما مثلما تنساب زجاجات النبيذ التي تشربها ليلا. هل تشرب من أجل النسيان أم من أجل التذكر؟ ربما تشرب أيضا لتجد القوة في الاستمرار بالحياة، بعد أن شارفت على الخمسين، لتأمل بحبّ جديد يعينها على تحمل ما تبقى من تفاصيل جمال وجسد يأبيا أن يشيخا.

جيل نسائي

من هذه الذكريات، تأتي قصة جيهان «الجميلة» التي لم تعرف إلا خيبات الأمل، بدءا من «الثورة» أيام الدراسة الجامعية (والتي تحولت إلى حرب قذرة، داخلية وخارجية)، مرورا بخيبات الحبّ والجسد مع رجال كانوا أدنى منها في كلّ شيء، وصولا إلى «هزيمتها» الحالية، أي اقتناعها بهذا «الحظ» الذي يلاحقها لتستمر في العيش غير منتظرة لأي شيء، في العمق، سوى أن لا تقع في خيبة جديدة، قاسية، مدمرة.

روعة أيضا، هي امرأة مهزومة، إذ تعيش مقتنعة بمصيرها، في ظلّ هذه الأسرة، التي لا همّ لها سوى المحافظة على المظاهر، بالرغم من كلّ خداعها (خداع المظاهر). صورة لامرأة ترتضي بالقليل الممكن، لتنقذ ما تبقى لها من روح أو من حياة، أو حتى من جسد.

الراوية أيضا لا تشذّ عن صديقتيها، إذ عرفت الخيبات والهزائم الشخصية: خيبات الحب والجسد والعلاقات، كي لا تجد أمامها في النهاية سوى الانصراف صباحا إلى العمل، بينما تقع في شرابها ليلا، لتتذكر كل هذه المدينة وكلّ ما كانت تحمله.

بيد أن هاته النسوة الثلاث، لا يشكلن إلا خلفية للسرد، الذي يوصلنا إلى حكاية «خان زاده» وهي عمّة الراوية، التي تبدو شخصية مهزومة أخرى، باقتناعها في أن تبقى عانسا إلى آخر عمرها، لتخدم الجميع، وترعاهم. وبالرغم من هذه المحبّة التي تكنها للجميع، لا يرحمها القدر، إذ يأتي إليها بمرض السرطان الذي يؤدي بها في نهاية حياتها.

بين هذه الشخصيات كلّها، ثمة رجال يعبرون الحكاية: أب الراوية، وعمّها وشقيقها وغيرهم ممن شكلوا الإطار العام للأحياء البيروتية المتعددة التي تدور فيها أحداث رواية «خان زاده»، التي تعتمد على أسئلة الذاكرة وشروطها، على هذا البوح الذي يقودنا – من وجهة نظر من يروي الأحداث – إلى رسم صورة ما عن مدينة، وبعد أن فقدت ماضيها، لم تعد تشبه إلا نفسها في الزمن الحاضر، أي لم تعد تشبه سوى هذه الأثلام التي حفرتها الحروب المتكررة في جسدها.

نحن أيضا أمام رواية تحكي سيرة جيل نسائي وهزيمته عبر هذه الشخصيات الحاضرة في الكتاب. بالتأكيد لسنا أمام «بيان نسوي» (وهذا أيضا من إيجابيات الكتاب)، بل نحن أمام كائنات من لحم ودم، لم تعرف سوى الخيبات التي قادتها إلى غير ما اشتهت، أو إلى غير ما حلمت به في بداية تشكلها: هل من الغريب مثلا أن يحلم أحد بالحب الحقيقي الذي يقوده إلى سماوات مختلفة؟ هل من الغريب أن يحلم أحد بمدينة لا حرب فيها، من دون أن يفكر بالهجرة والمغادرة؟ هي أسئلة يطرحها جميع اللبنانيين. أظن ذلك. ومن هذه الأسئلة، التي لا تعرف الأجوبة، تحاول شخصيات الرواية أن تعيشها يوميا، لتكمل حياة لا أحد يعرف كيف تنتهي. أسئلة تفتح باب السرد الذي ينسينا حرارة هذه الأيام الخانقة.

السفير
25 اغسطس 2010