بعنوان "لا أمل لي بهذا الصمت"

تغيب اللغة عن ذاتها لتحضر في الرؤية الشعرية

جهاد الترك
(لبنان)

إسكندر حبشصور تزحف الى ظاهر النص من خلف الكواليس. تكاد تفعل ذلك على استحياء. والأرجح ان الأمر كذلك. فالخروج من لغة الصمت، من تلك المساحة الواسعة من السكينة المستهدفة، في هذه التجربة الشعرية، لا يتحقق بسهولة في هذه النصوص المتوارية عن الأنظار. يختصر اسكندر حبش المسافة الى المعنى. بدل ان يرتحل اليه، في سياق الفكرة المتحولة، ينطلق منه مباشرة. ثم يعود اليه. يحوم حوله. يغوص فيه مدفوعاً بشغف هادئ للبحث عن مناطق الظلال القريبة والبعيدة. والأغلب انه يستدفئ فيه هرباً من صقيع المتاهة المنتشر بقسوة على بوابات الرؤية الشاهقة. يذهب حبش الى حيث ينبغي ان يتوجه من دون لف او دوران. الى حيث لا تنقطع الرؤية خلف حدود اللغة. الى حيث يشعر بالأمان من توحش اللغة عينها، من احتمال ان تنقلب عليه، أن تخونه او تغدر به. يلوذ الى اللغة باللغة بعد ان يطمئن الى أنها لن تبطش به، لن تصيبه مقتلاً. يتوخى في ذلك سبيلاً هو الأقرب الى حيث يريد أن يعتزل في الذاكرة.
والأغلب انه لا يواجه صعوبة تذكر في هذه المغامرة المرهفة. ينأى بنفسه عن المتاهة الكبرى الى المتاهة الصغرى. ونادراً ما يضل الطريق الى حيث يريد أن يطيل الاقامة في تلك البوتقة الهادئة من الظلال التي لا يبدو أنها نهاية المطاف.
يتقدم نحوها الشاعر بحذر شديد. بخوف مردّه الى الغموض الآتي الى الرؤية. يتفحصها بدقة. يفعل ذلك مراراً وتكراراً قبل ان يستعجل الخطى نحوها. أليست هي المستقر المنشود الذي يسعى الى المكوث فيه طويلاً أو دائماً، قبل أن يغادره الى مستقر آخر.

[ مجموعات أربع

هذه تصورات يوحي بها كتاب اسكندر حبش الصادر حديثاً عن "منشورات الجمل" في بيروت، بعنوان "لا امل لي بهذا الصمت". ويتضمن اربع مجموعات شعرية كانت نشرت في السابق بين 1988 و2003. وهي: "بورتريه لرجل من معدن"، "نصف تفاحة"، "تلك المدن"، "أشكو الخريف"، وفي هذا استعادة لنصوص محددة لا يبدو أن صاحبها بات يعتبرها ارثاً زمنياَ ضائعاً، او انها لا تستحق ان تبصر النور من جديد. أو انها تنتمي الى طراز "قديم" من الرؤية الشعرية هي بأمس الحاجة الى ان تتفلت من لغتها وتتحرّر من مفرداتها. الأغلب، في هذا الإطار، ان هذه النصوص بفضاءاتها المتحولة، لا تزال تنسجم مع مشروعه الشعري، والأهم مع ميله الغريزي الى استكشاف حالات الغياب ودلالاتها في الذاكرة واللغة والمعنى المتجدّد. ثمة ما يبعث على الاعتقاد، في هذه النصوص المنشورة ثانية، بأنها لا تزال تشكل ملاذاً احتياطياً جاهزاً لإعادة التوظيف في محاولة استكمال التجربة الشعرية في صيرورتها المتعاقبة. بدليل ان التوهج الأبرز الذي ينفذ من بين هذه المجموعات الأربع معاً، هو البحث الحقيقي الجاد عن الارتقاء بفكرة الغياب من شكل اعتيادي أو تلقائي الى مفهوم عميق من شأنه أن يخطف الصورة الشعرية من حال المماطلة الى اجواء من التقلّب السريع بين الاشياء والأحداث والوقائع. والأرجح ان المعنى الذي يسعى الشاعر الى بلوغه، في هذه التجربة، هو الذهاب باللغة الى حيث تصبح قادرة على أن تنتحل، هي نفسها، شخصية الغياب لا أن تعبّر عنه بالمفردات فقط. من هنا، تبدو المعادلة المستخدمة في المجموعات الأربع، بشكل أو بآخر، مستوحاة من الفرضية الآتية: الغياب هو اللغة. اللغة هي الغياب. لا يتحقق اي منهما إلاّ بالأخر. وبالتالي، قد يصبح متعذراً بالنسبة اليه ان ينقلب على اللغة بحلتها الرثة ما لم يحملها على أن تغيب عن نفسها الراهنة الى ذاتها المفترضة الكامنة في ظلالها، اي في ما لم تبلغه بعد من قدرات على التعبير عن نفسها وعن العالم بأشيائه المتناثرة. وبالمثل، وفقاً للمعادلة عينها، فإن فكرة الغياب في ما هي منظومة من الصور والمعاني الشعرية في صيغتها الاحتمالية التي لم تتحقق بعد لكونها مستقبلاً لم يطرق باب النص بعد، لن يكون بمقدورها ان تؤتي ثمارها بلغة متشبثة براهنيتها. اي عاجزة عن القيام بأي اختراق يذكر من شأنه ان يمكنها من التغلب على حالة الشلل المتأصلة فيها.

[ الارتعاشة الأولى

يطرح حبش هذه المعادلة المعقدة بصمت ثقيل يخيم على نصوصه جميعاً. والأرجح ان هذه المسألة باتت هاجساً يداهم بقوة الجيل الأحدث من شعراء النثر. دافعهم الى ذلك هو استعادة النثر الى كنف الارتعاشة الأولى قبل ان تتكون الأشياء في اشكالها المتداولة. والأغلب قبل ان تحدث القطيعة "التاريخية" اذا جاز التعبير بين اللغة وغرائزها المتوحشة في الذاكرة الانسانية. في نصوص حبش شيء من هذا القبيل يتجلى بتلقائية مردها، في الاساس، الى انحيازه لفكرة الغياب في اللغة والمفهوم على حد سواء. ولربما شكلت هذه القضية ذريعة مبررة لاعادة نشر هذه المجموعات الاربع في كتاب واحد بدل ان تكون حافزاً، على الأغلب، للاشتباك مع اللغة في نصوص مستجدة. نتساءل، في هذا السياق، عن الجدوى من هذا الميل لدى الشاعر الى تغييب اللغة وصولاً الى فكرة الغياب ومن ثم التقدم خطوة أبعد نحو تغييب الغياب؟
الأغلب ان الشاعر يسلك، في هذا الاتجاه، طريقاً مختصرة غير محفوفة بالمخاطر والمعوقات أو المفاجآت ذات العواقب الوخيمة. يستدعي الى النص كل ما تراه العين المجردة او الرؤية الداخلية وهي تتجول في متاهات الذاكرة. الغياب، بالمعنى الوارد آنفاً، لا يختار شيئاً دون شيء آخر. لا يستثني شكلاً او هيئة او رائحة أو لوناً. بدوره، يفرض الشاعر رقابة صارمة على اللغة التي لا تتقبل، في العادة ان تخلع ثيابها القديمة وتسير عارية تحت الشمس وتحتضن بجسدها البض الريح الآتية من المجهول. يحرص حبش في ما تشير اليه بعض النصوص، على ألاّ يتسّرع في صوغ معانيه على عجل. لا يسلمها تسليم اليد الى لغة قد تهملها او تعبث بها أو تلقيها على قارعة الطريق. وهذه احدى الميزات المبتكرة التي تجمع بين النصوص من دون استثناء. المعنى الذي يستودعه حبش في ذاكرة الغياب يفترض بالضرورة لغة من جنسه، من طبيعته، من تلك الشفافية التي ينطوي عليها هذا المفهوم، الأشياء والمسميات والأشكال الآيلة الى الغياب تتطلب لغة آيلة الى الغياب كذلك، وجهان لعملة واحدة لا يقوم أحدهما من دون الآخر. والأرجح ان لا وجود لأحدهما من دون الآخر. المفردة الخارجة للتو من سجنها المؤبد تصبح هي عينها هذا الشيء أو ذاك النهر، أو ذلك الوجه الخارج لتوه ايضاً من زنزانته التي وضع فيها على نحو من الظلم المتعمد. اللغة لا تذهب وحيدة الى غيابها المحتوم. لا وجود، في الأساس، للغة كهذه على الاطلاق، الأشياء جميعاً لا تسير كذلك نحو غيابها وحيدة. لا وجود لاشياء كهذه على الاطلاق. تحتاج الى من تتلبسه في رحلتها الصعبة هذه.

[ التوحد

يجتهد حبش في نصوصه في أن يجعل من التوحد بين اللغة، من جهة، والأشياء ومسمياتها، من جهة أخرى، توأمين لا ينفصمان فعلاً. يموت أحدهما من دون الآخر. أو يعيش مشوهاً، مختلاً، أو مجنوناً في أحسن الأحوال. والأغلب ان هذه هي التجربة الأهم في المجموعات الأربع. وهي مغامرة مشوقة في اللغة وخلفياتها وتحولاتها وحياتها السرية كذلك. كما أنها مغامرة مشوقة في ما قد تؤول اليه الأشياء جميعاً وهي تتغير من شكل الى آخر، من هيئة إلى أخرى، من رمز إلى آخر.
والأغلب ان معظم نصوص الكتاب تندرج في محاولة تثبيت هذا التوحد بين اللغة وسائر الأشياء. نلحظ أحياناً ان النصوص الواردة في أي من المجموعات الأربع يكاد بعضها يستكمل بعضها الآخر على هذا الصعيد. وكأنها وضعت، في الأساس، طمأنة للشاعر نفسه بأن الغياب، في احتمالاته المتعددة، لم يعد مغامرة مستهجنة أو مستحيلة في أسوأ الأحوال. من نص الى آخر، من مجموعة الى أخرى، في الكتاب عينه، يختبر الشاعر قابليته على النفاذ الى ما وراء اللغة، الى ما وراء الأشياء في مسمياتها المختلفة وكأنه على الأرجح يقترب من لغة لا يعرفها، من مسميات لا يدرك كنهها ليتسنى له، في نهاية المطاف، ان يستمتع في الكشف عما لم يصطدم به من قبل. ثمة مفردات ومسميات وأشياء تتكرر هي عينها في النصوص والمجموعات، على نحو قد يخيل الينا بانغلاق قاموس الألفاظ لدى الشاعر على هذه الكلمات المحددة. والأرجح أن الأمر ليس كذلك الا في ظاهر النص، أما في باطنه، فان هذه المفردات لا تصبح هي اياها في كل من صوره الشعرية. اذ كلما أمعن اسكندر حبش في التوغل داخل متاهة الغياب، انتفضت هذه المفردات على ذاتها، في الشكل والمضمون، لا تعود هي ذاتها. تتحول، على الدوام، وهي تقترب من غيابها، من ظلالها المحتملة، من مستقبلها الذي لم يولد بعد.
فكرة الغياب، في هذا السياق المتسارع، لا تقتصر فقط، على استخدام اللغة على نحو يتباين من نص الى آخر، ومن مجموعة الى أخرى. المسالة أكثر تعقيداً وعمقاً. الأرجح ان الغياب يعيد اكتشاف اللغة في احتمالاتها المتكاثرة، وكأنها قد ولدت للتو. أو ماتت للتو لتبعث من جديد. الغياب يصنع اللغة بالاستناد الى رؤية منفلتة من صنمية الثقافة، من قوالبها الجاهزة، ومن الناطقين زوراً باسمها. والأهم انه يحررها، على الفور، من بطش "المؤسسات" التي تزعم ان في يدها وحدها مقاليد السلطة والحل والربط.

[ حضور وغياب

المغامرة التي يتكبدها حبش في نصوص الكتاب، تستحوذ على أهمية كهذه بمقدار ما تؤكد ان حضور اللغة في الرؤية الشعرية يتوقف، بالدرجة الأولى، على قدرتها على الغياب عن ذاتها، جارفة كل ما تصادفه في طريقها الى غياب مماثل. الحضور هو الغياب، في هذا السياق. والعكس صحيح ايضاً. ومع ذلك، يتحمل حبش مغبة الاضطلاع بهذه المهمة الخطرة عندما يقيم مشروعه الشعري بالكامل في الكتاب، على هذه المعاملة المهلكة اذا جاز التعبير. والأغلب انه لا يحتفظ لنفسه بأي طريق للعودة طلباً للنجاة أو السقوط الى اسفل وهو يسير على حافة الهاوية. فاما الغياب سبيلاً وحيداً ومطلقاً الى الرؤية الشعرية المغايرة، وإما تبديد النصوص جميعاً في متاهة الفراغ والعبث العشوائي الذي لا طائل منه. وفي أي حال، ان اصراره على القيام بهذه المهمة والمضي فيها الى حدودها القصوى بغض النظر عن النتائج المرتقبة، يتطلب شجاعة، وتفاؤلاً، ويقيناً ايضا، بأن اللغة تولد من رحم اللغة، أو تموت في الرحم عينه. تجربة لا تسعى، على الأرجح، الى بعث اللغة من سباتها المضحك، بقدر ما ترمي الى جرها الى حتفها لتموت حيث تموت وحيدة. ولكن لأن اللغة من جنس المخلوقات الخالدة، فان غفوة الموت التي تصيبها لا تدوم. اللغة في هذه النصوص النموذجية تترقب موتها لتحيا ثانية، ثم لتموت، وتحيا بعد ذلك بانتظار ان تموت من جديد.

مختارات

من الكتاب نورد النصوص الآتية:

دمع

دمع،
ليس هو الشتاء
لن أقول عاصفة
فأستسلم للسرير والمدخنة،
لا أحد هذا
لا أحد
في هذا الضوء الشاحب.
أكتمل في النسيان

مقاعد
ماذا يطلع من الصباح
حين يتبعك التلاميذ
الى منتصف الحلم
حين لا أجد على مقاعدي
سوى خطوات
شتاء مقبل.
لو أن جداراً بيننا
لكان نومك
رواية
للجالسين تحت نوافذهم
ربما
لا أحد ينحني
ليلتقط
جريدة الأمس
تعب باب الحديقة

عابرون
لا أحد ليحدثنا
تجمعين حجارة الأطفال
ونطوي
مدننا البيضاء.

لم يقل أحد
ان الهواء كان بارداً
لذلك حدقت طويلاً
بالعابرين
وقلت أشياء كثيرة
عن صمتي

أنا نوافذك
لكن
هذه الكلمات التي تسقط
مني

الصباح
سأحمل الصباح
واقرأ كفك
هل هو الغائب الذي عاد
أم أنه الغريب؟
سأترك روحي تلملم الحكم
سأفقد النطق
وأوقظ اهتمام الماء للصفصاف
سأحمل الصباح
وأمكث هنا
مثل ذاكرة وقعت
على الرخام

وسأحمل الصباح
وأنتظر هذه الثلوج
لعل لدي بعض العزاء.

6- 10-2009