جهاد الترك
(لبنان)

علي حسين الفيلكاويبلغة تنحدر سريعاً الى حيث يعشش القلق وراء جدران المعنى، يحمل الشاعر محمد حسين الفيلكاوي، ادواته وتصوراته متعقباً صوره في متاهة الصمت. ثلاثة وعشرون نصاً صدرت له في كتاب بعنوان "أبعد من السكون قليلاً" عن "دار النهضة العربية" في بيروت، يقترب فيها كثيراً او قليلاً، او يبتعد بالقدر نفسه، عن مناطق السكينة حيث تنقلب الأشياء على نفسها، أو أنها تحن الى اشكال لا تشبهها. أو أنها من ناحية أخرى، تسعى الى ان تتنكر لما قد يحيلها، من جديد، كائناً لغوياً مألوفاً، او مدجناً. على هذا الاساس من الارتياب بالكلمات والمفردات والعبارات التي تملأ الفراغ في الذاكرة، بحكم العادة، يتقدم الفيلكاوي خطوة الى الأمام وقد القى من وراء ظهره مقتنياته القديمة ليستقبل السكون الذي اختاره عنوانا لكتابه، على نحو عميق من الدهشة. والأرجح انه عقد العزم على ان يرهن نصوصه جميعا بهذه المعادلة الصعبة واضعا تجربته برمتها على المحك. ان لم يكن على شفير الهاوية. مع ذلك لا يبدو انه يضع هذا المنهج نصب عينيه وسيلة وحيدة للبحث عن صوره الشعرية، او اعادة تشكيلها او اختبارها في المتاهة التي يتوجه اليها وحيداً. لا شيء من هذا القبيل، على الأغلب، والا لتحولت نصوصه ضربا من التوصل الى اجوبة بلهاء كما هي الحال في المعادلات الرياضية. اللافت في ما يكتبه الفيلكاوي انه لا يوحي بأن هذا الهاجس من شأنه ان يحدث اضطرابا في تكوين الصورة الشعرية وان بدا واضحا انه يتخذه مدخلاً رئيسياً الى حيث ينتشر السكون في الأماكن الغامضة من الذاكرة. والأغلب في هذا السياق، على نحو مماثل، انه لا يستخدم هذا الهاجس ذريعة انتهازية ليزعم انه لم يضل طريقه الى جغرافيا الصمت، او انه على وشك ان يبلغها ان لم يكن قد فعل ذلك. على النقيض من ذلك، يتوخى تجربة حية، يدون من خلالها مشاهداته الداخلية والخارجية من دون زيادة أو نقصان او افتعال لمواقف هشة معرضة في اي لحظة للسقوط الذريع في اودية الابتذال.

السكون كالسراب

ومع ذلك، يخيل الينا احيانا ان الفيلكاوي يصطدم احيانا بما يؤخره قليلا او كثيرا عن الذهاب بالمعنى الى حيث يبدو السكون كالسراب قريبا جداً وبعيداً كل البعد عن متناول اليد والعين. لا يعني ذلك، على الأرجح، ان ثمة فراغا طرأ، على حين غرة، على الصورة المتكونة في الذاكرة، كما لا ينبغي ان يؤدي هذا الاحجام المؤقت عن المضي في الصعود نحو الحلم، الى القول بأن الصورة الشعرية قد تعثرت عند هذا الحد فتوقفت عن التدفق. قد يحصل شيء من هذا في نص بعينه او حتى في النصوص جميعأً. والأغلب ان عرقلة كهذه هي من طبيعة اللعبة الشعرية التي تراوح بين مد وجزر وتلكؤ واقدام وتراجع واحباط واكتئاب ومن ثم استعادة بطيئة للأثر الذي يرشد من جديد الى موقع الصورة وهي تتراقص في أفقها الواسع. الفيلكاوي يتعرض، على الدوام، لهذا التأرجح ولهذا الكر والفر بين الصورة الشعرية ونقيضها القائم في عالم الموت حيث ينعدم الايقاع وتخف الحركة الى حدودها القصوى. ولأن الامر كذلك، على الأرجح، نراه في نصوص الكتاب متوتراً مستفزاً متأهباً للبدء من جديد في شق طريقه القاسية نحو السكون وهو يتراءى من البعيد على التخوم النائية للمتاهة، يخيل الينا، في هذا السياق المضطرب، ان البدء من جديد في مقاربة الصورة الشعرية لاعادة اكتشافها وتشكيلها، هو الاستمتاع الأقصى والأكثر اهمية وخطورة في تلمس ابعاد هذه التجربة. بدليل ان الفيلكاوي ما ان ينتهي من نص بحد ذاته، حتى يشرع بنص آخر ليس استكمالاً لما سبقه بل استعادة للرؤية اللكية التي خيمت على اجوائه ولكن بلهفة مستجدة للبدء برحلة مغايرة الى ظلال مختلفة الى منطقة أخرى من السكينة، الى متاهة اخرى من الصمت.

رؤية تجريبية

كل نص، على هذه الخلفية المفتوحة على المجهول، هو بداية جديدة للنص الذي سبق. ليس لملء فراغ او اكثر كان الشاعر خلفه وراءه في النص السابق. بل استدراج، على الأغلب، لاحساس لم يكن متوافرا فاذا به يلوح من جديد في افق جديد لرؤية جديدة. ويمكن مقاربة النصوص، على نحو معاكس ايضا. من النص الأخير فعودة الى الوراء وصولا الى النص الذي يستهل به الشاعر كتابه. من هنا الاعتقاد، على الأغلب، بأهمية اللعبة التجريبية في النصوص الثلاثة والعشرين. تبدو الصورة الشعرية، في هذا المزاج الحاد المتقلب على شيء كثير من البحث عن الدفق الاول لتكوين الأشياء، هي المستهدفة، اولا وأخيراً بغض النظر عن النصوص من العدم الى الوجود. يصبح النص، في هذه المشهدية المحمومة بأجواء القلق والخوف من المجهول، حمالا فقط للصورة، لا اكثر ولا اقل. لا حدود بارزة له. لا بداية، لا نهاية. لا شيء من هذا وذاك. شكل خارجي باهت المعالم يستخدمه الشاعر، على الأرجح، ليستدعي صوره من حيث لا تكون. من حيث لا تشير انها موجودة بالفعل، من حيث لا تتكون في شكل او هيئة. انها البداية المستمرة التي لا تنطلق من مكان معين. ولا تصل الى مكان في حد ذاته. المهم في هذه النصوص انها جميعاً تنطوي على بداية ما ولا تنطوي على نهاية ابداً، تبدأ ولا تنتهي. تبدأ لتبدأ من جديد. ثم يعيد الكرة ثانية وثالثة ورابعة. وهكذا دواليك.
تقترب من السكون. ثم تبتعد عنه، ثم تحاول من جديد.

يتقدم الفيلكاوي الى جغرافيته المحببة الى نفسه، وهي تلك المنفية في جزر الصمت النائية، على ايقاع الصورة المتحركة، والأغلب تلك التي تتقاذفها الظلال. كلما ادرك ان ظلاً تراءى له او انكشف لناظريه راح يتوسل ظلاً آخر. قد نجد هذه التقنية المرهفة أحياناً في العبارة القصيرة، في جزء من الصورة، في أحد تضاريسها المتشعبة، بمفردة واحدة يكاد الشاعر ان ينسف صورته من الاساس او ينقلب على هيئتها الداخلية أو الخارجية. يفعل ذلك بجرأة، على الأغلب، حتى وان بدا ان هذه المفردة أو المفردات القليلة من شأنها ان تقذف المعنى الى مسارات غير متوقعة. أو ان تعيده الى نقطة الصفر تمهيداً لاطلاقه من جديد الى حيث لا مكان محدداً لاستقباله ولا شيء يشير الى ذلك.

مولع الفيلكاوي بهندسة الصورة الشعرية، لا يشعر بالطمأنينة وهو يقترب من مكوناتها، ولا يتملكه الهدوء وهو ينفض عنها غبار المشاهد الهشة والمألوفة والمبتذلة. يبقى متوتراً عصبي المزاج، محتاراً، قلقاً من امكان التوصل الى صيغة في الشكل والمضمون قد ترضيه او قد لا ترضيه على الاطلاق. وكأنه لا يريد شيئاً من هذا وذاك، ونتساءل" ماذا يبتغي في نهاية المطاف. الأرجح انه لا يرغب في الوصول الى اي من الأمكنة التي قد توحي بها الصورة او تشير اليها بشكل أو بآخر. يستهدف، على نحو رئيسي، ذلك الاحساس الذي يضفي على نصوصه امتلاء بالحاجة الدائمة الى البدء من جديد. والأرجح ان المقصود بذلك المتعة الناتجة عن الولادة المستمرة للصورة الشعرية ولأن البداية ولادة، في طبيعة حركتها الداخلية، باتت نصوص الكتاب تراوح بين بداية وأخرى، بين ولادة وأخرى، الصورة الشعرية، في هذا السياق، تنتهي ما ان تولد، ثم تولد من جديد ما ان تنتهي.

مختارات

أجزاء من نصوص مقتطفة من الكتاب..

طوفان
تقيأ الجحيم
أنا أغلق الأبواب خوف دخول الجثث المهترئة
قطيع دمائهم
يرشح من أحواض الدخان
قدماي صرخة أغوتها طرق جرائمهم اليومية
أندلق في فوهة الدهاليز من غرفة الى سرير
تدفعني حافة نافذة، يتلقفني حلم وحيد
قطع اللحم البشري وندف من الذباب
ورائحة يأس نازفة كحد قاتل

النجاة
كما سوف اكون اكتب الليلة
أنا اقف على أصابع انفاسي
عيناي تبحثان في جدران الملح
عن همسة للنفاذ
لقد اخترقت الاشرعة وأمسى مركبنا البحر
البحارة الأغبياء هربوا الى الشاطئ القريب

اشارة
على ارض الغيبوبة المنتشية.. معبد صغير
وأشجار من الدعوات
لم تستجب الشمس للبزوغ
اكل الخراب الجميل الرعاة السارحين
ولم تنج سوى نبضة وحيدة في كوكب الأموات
"أنا".. ليست سوى دم الحزن العميق

كلما برقت جراء مضي الوقت وانتفاض الروح
نثرت اجزاءهم امام انبهار الشمس
وتطايروا في هواء مضحك مخادع ومسموم
لم تطهرهم اللعنة

المستقبل
18 مايو 2009