اسكندر حبش

فيتسوافا شيمبورسكاتبدو جائزة نوبل، على قول كثيرين، كأنها تشبه عملية «تحنيط» ما، إذ من الصعب على حائزها أن ينجو من خروم «شِباك التكريس» التي تفرضها هذه الجائزة، التي، مهما حاولنا وصفها، تبقى أهم جائزة أدبية في العالم قاطبة. هذا «التحنيط» يتأتى ممّا يرافق الجائزة من احتفالات وتتويج وأنخاب وخطابات ودولارات، كما أنها تبقي الفائز بها بقية عمره حيّاً تحت «شمع المجد» (وفق التعبير الفرنسي الشائع). من هنا، يبدو من الطبيعي جداً، حين تتعلق هذه الجائزة بالأدب، أن يعود كلّ واحد منا إلى كتابات الفائز ليعرف ما إذا كان هذا الإبداع قوياً وحياً، أو بمعنى آخر، ليعرف ما إذا كان صاحبه يستحق هذا التمييز.
في العام 1996، جاء اسم الفائزة بنوبل للآداب من بولندا «أيّ من لا مكان» (إذا استعدنا، مزاحا، تعبير «أوبو الأب»، في مسرحية ألفريد جاري، «أوبو ملكا»). أضف إلى ذلك، انه امرأة وشاعرة، ممّا يضفي بعض الجدال الإضافي حول هويته. فعلى أقل تقدير، نستطيع أن نسمي شاعرين بولنديين آخرين ومعاصرين من الجيل ذاته الذي تنتمي إليه فيتسوافا شيمبورسكا، ذلك الجيل الذي ولد مع بداية عشرينيات القرن العشرين، وهما زبينيو هيربرت وتادوتش روزيفيتش، اللذان كانا يستطيعان الادعاء، بدورهما، أنهما يستحقان هذا التمييز الكبير. لكن، لا يستطيع المرء أن يترشح من تلقاء نفسه إلى جائزة نوبل، إذ انه يحصل عليها، فجأة، وفق معايير يبقى من الصعب تحديد كنهها، بالرغم من أن العوامل المحلية، لا تبدو مطلقا وكأنها تستطيع تعديل اتجاهها.
من هنا، ثمة سؤال لا بد من أن يطرح نفسه: هل كان في اختيار شيمبورسكا لتتربع على «قمة الأدب»، سخرية ما، كما تعجب البعض، معتبرين أن الشاعرة ليست على قدر كبير من الشهرة، مع العلم بأن قسما من شعرها صدر بالعربية قبل سنوات من فوزها؟ نشرت لها مثلا مجلة «الثقافة الأجنبية» العراقية، في العدد الأول، السنة العاشرة، العام 1990، مجموعة من قصائدها مع مقدمة وافية حول شعرها. كذلك نجد الكاتب العراقي ياسين طه حافظ، يفرد لها مساحة واسعة في كتابه «القمم العالية، من الشعر العالمي المعاصر» (دار المأمون بغداد 1992). وأيضا ترجم لها هاتف الجنابي قصيدتين في مجلة «فراديس» (العدد 6-7)، ومع ذلك، حين رنّ اسم فيتسوافا شيمبورسكا في الأذن، فقد رنّ «بقسوة» على الرغم من أن شعرها تُرجم إلى ثلاثين لغة أخرى.

تاريخية الشعر البولندي

في أيّ حال، مضت على ذلك اليوم، سنون عديدة، عرفت خلالها شيمبوريسكا، مجدا مختلفا، وها هي ترحل عنّا، بعد أن كتبت عددا من الدواوين المجيدة. لكن وقبل الدخول إلى عالم الشاعرة، لنعد قليلا إلى «تاريخانية» الشعر البولندي الحديث، لنرى أن العام 1956 كان عاما مفصليا في سياق الحركة الشعرية هناك، لأن جميع النقاد ودارسي الأدب اتفقوا على القول إن الشعر البولندي ازدهر ازدهارا كبيرا مع ذلك العام، إذ ظهرت مواهب كبيرة لمجموعة من الشعراء يطلق عليهم اسم «الشعراء المجددين المتأخرين». صحيح أن تلك الكوكبة من الشعراء كانت بدأت الكتابة والنشر في الصحف والمجلات الأدبية منذ أمد بعيد، كما أنهم كانوا يتسمون بالنضج الفني، ولكنهم لم ينشروا إنتاجهم الشعري في دواوين قبل العام 1956، أيّ بعد انتهاء الحقبة الستالينية المتشددة، التي استمرت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فذلك العام (1956) عرف المجتمع نوعا من الحرية ومن «الديموقراطية» المتساهلة بعض الشيء. ومن أسماء هذا الجيل لا بد من ذكر بياووشفسكي وهربرت وتشافروفسكي.
في تلك المرحلة أيضا كانت هناك فئة أخرى من الشعراء الشبّان المنتمين إلى الجيل الذي يطلق عليه «جيل المعاصرين» وقد انضم إليه بعض الشعراء الذين كانوا ينتمون إلى «التيّار السوريالي»، لكن وانطلاقا من العام 1956، حدثت تغيرات جذرية في كتاباتهم أودت بهم إلى مناطق أخرى في القصيدة والشعر. ومن هؤلاء لا بدّ من ذكر اسمي كاربوفيتش ونوفاك.
وفق هذا التقسيم التاريخي، تبدو فيتسوافا شيمبورسكا، رائدة هذا الجيل الذي عرف تفتحه عامذاك . إذ كانت نشرت ديوانها الأول «ابحث عن كلمة» العام 1952 وهو الذي مهد لقيام تلك الحركة الشعرية الحديثة التي يجدها النقاد بأنها من أهم الحركات الشعرية في العالم وقتها، بالرغم من أن ديوان شيمبورسكا هذا كان يغلب عليه الهمّ السياسي والاجتماعي.
ما ربط بين شعراء تلك المرحلة سمات مشتركة منها التوجه الطليعي في مجال اللغة والتأثر الواضح بفن الباروك داخل بنية الشعر ونسيجه، وما يفرّق بينهم اختلاف التيّار والاتجاه والمدرسة والنظرة الجديدة لمفهوم الخيال والموقف من الكلاسيكية الجديدة وكذلك انتماؤهم إلى مدار وتيارات متنوعة لها خصائصها وتفردها الشعري الخاص. ومع ذلك كلّه، اتسموا جميعا بسعيهم الحثيث نحو «البوليفونية» (تعدد الأصوات) الخالصة، في الوقت الذي كان فيه شعراء الجيل الذي سبقهم يتوقفون عند نزعتين متناقضتين تتمثلان بالاهتمام بالرومنطيقية وإعادة إحيائها أو التمركز الكثيف حول القضايا ذات الطابع السياسي البحت.
من هنا تعد شيمبورسكا واحدة من أفضل ثلاثة شعراء بولنديين بعد فترة الحرب العالمية الثانية، أما الآخران فهما تاديوش روزيفتش وزبينيو هربرت، إلا أن المهتمين بالشعر البولندي الحديث يفضلونها عليهما، لأنها شاعرة تقدم موضوعات «طازجة وتبتدع تكتيكا جديدا»، إذ يتميّز شعرها «بالجدية العالية والإبداع المبهج» وبحيوية الخيال، أي تملك كل المكونات التي تجعل منها «شاعرة من الدرجة الأولى»، بحسب احد النقاد، الذي عاد وأطلق عليها لقب «سيدة الشعر البولندي».

سيرة

ولدت شيمبورسكا في الثاني من تموز العام 1923 في «كورنيك» بالقرب من «بوزنان». وفي العام 1931 غادرت إلى مدينة كراكوفيا حيث درست هناك علم الاجتماع والأدب البولندي في جامعة «باغليون». بدأت النشر سنة 1945 في الملحق الأسبوعي لصحيفة «ذزنيك بولسكي». في العام 1954 ظهرت مجموعتها «أسئلة لنفسي» وهي الثانية لها بعد «أبحث عن كلمة». وكانت القصائد السياسية في ديوانها هذا قليلة جدا، إذ طغت قصائد الحب والموضوعات الغنائية التقليدية. ويشكل عنوان هذه المجموعة، كما الميل الذاتي في قصائدها، انعطافة غير معتادة في زمنها، فقد كان الكتّاب يتوقعون منها الانغمار في مشكلات المجتمع المعاصر. لكن النقاد افردوا هذا الكتاب عن غيره من الكتب الصادرة وأشاروا إلى قوة شخصية الشاعرة و«البراعات» التقنية فيه.
في مجموعتها «نداء إلى يني» 1957، وضعت كلّ الأفكار الرسمية الموحى بها، وبدأت تجد صوتها الخاص في الكتابة عن الإنسان والمجتمع، الإنسان والتاريخ، الإنسان والحب. وقد وسّعت هذه الأفكار وعمّقتها في مجموعتها «الملح» (1962). أما مجموعتها «مليون ضحكة وأمل مشرقط» (1967) فهي ترسم مرحلة النضج، إذ بدأت بالاعتماد على قصيدة النثر أسلوبا والتأكيد على موقع الإنسان في الكون الوسيع مضمونا. ومع هذا الديوان، لم يعد من شك في كبر حجم الشاعرة ومكانتها الشعرية التي أكدتها في «هناك من اجل صلاة الشكر» (1972) و«رقم كبير» العام 1976.
ومعروف عن شيمبورسكا أنها مترجمة مرموقة عن الفرنسية، وتقتصر ترجمتها على الشعر فقط. والكتاب النثري الوحيد الذي أصدرته هو كتاب مراجعات للكتب الذي ضمّ تعقيبات على 130 كتابا في العلوم والرسم والفلسفة وعلم النفس والمذكرات، وهذه المقالات كانت نشرتها في مجلة «الحياة الأدبية» الأسبوعية حيث كانت تكتب النقد في زاوية بعنوان «قراءة غير إلزامية». ويرى النقاد أن تأثير مضامين هذه الكتب موجود في أشعارها. إزاء ذلك، ما الذي يمكن أن نستنتجه من تلك الوقائع؟ إن شيمبورسكا ذات اهتمام ثقافي كبير واهتمام إنساني عام. كذلك، ترفض عزو قصائدها لأيّ من نظريات الأدب وتقسيمات النقاد، فهي ترى وتفهم وتكتب فنّا، فالفنان بالنسبة إليها هو العمل الفني كما أن العمل الفني هو الفنان. هذه هي فكرة قصيدتها «كلاسيكي»، وهي لا تؤمن قطعا بالكلام عن القصيدة من خارجها، لا من النقاد ولا من الشاعر نفسه، وتحاول أن تقنع الآخرين بألا يضغطوا القصيدة داخل القوالب التي يضعونها وألا يجعلوا أبعادهم أبعادها، وألا يقسموا الشعراء إلى مجاميع، لأنه عمل يلذ للنقاد وان كان عملا معيبا.

الشاعر والعالم

من الكتب المتكاملة التي صدرت لشيمبوريسكا بالعربية بعد حيازتها نوبل، نذكر أولا كتاب «الشاعر والعالم» («دار المدى»، وهو مجموعة مختارة من قصائد الشاعرة (والعنوان هو المحاضرة التي ألقتها يوم تسلمها الجائزة في السويد)، قام بنقلها عن البولندية الشاعر العراقي هاتف الجنابي.
اختار الجنابي قصائد تنتمي إلى ثمانية من كتب الشاعرة، وهي قصائد تقدم لوحة بانورامية حول «تحولات» الشاعرة، إذ أنها قصائد تندرج منذ العام 1957 إلى العام 1993، بالإضافة إلى «قصائد جديدة» لم تكن قد نشرت بعد في كتاب (يومها)، عدا عن المقدمة التي تقترب كثيرا في وضع شيمبورسكا، داخل مكانتها، في خارطة الشعر البولندي والعالمي، وهي الحائزة العديد من الجوائز العالمية، والتي تشهد كتبها في بولندا نجاحا كبيرا. ومع ذلك، نعود لنسأل: لماذا هذه النوبل البولندية؟ في العام 1980 تراءت الإجابة أسهل، إذ كافأت ستوكهولم جيسواف ميّوش بعد شهرين من توقيع نقابة التضامن اتفاقيات «غدانسك» مع السلطة. وبالرغم من هذا، من المعيب جدا تفسير عمل ميّوش فقط على هذا النحو، وهو احد الأصوات الكبيرة في الشعر العالمي، وحصته فيه حصة أساسية.
أما من جهة شيمبورسكا، فنجد أنها لا تسهل علينا الإجابة عن هذه التعليقات المندفعة. إذ ما من ثورة كانت تحضر يومها في الأفق البولندي. أضف إلى ذلك، أن إحدى خاصيات شعر شيمبورسكا تتمثل في البقاء بعيدا عن أيّ جانب سياسي، ولم تنشر يوماً في الدور التي كانت تعمل في الخفاء، كما لم توقع يوما عريضة احتجاج. من هنا يتبدى سوء الفهم العام في قرار الأكاديمية السويدية بتفضيلها على شاعرين كبيرين هما هربرت وروزيفيتش، وهذا الأخير هو أبو الشعر البولندي الحديث، وإذا سألت أي جامعي كيف تكتب شيمبورسكا لأجاب مثل هربرت، قليلاً.
بالضبط، هنا، تكمن المسألة برمتها. فالشاعرة نجحت دائماً في البقاء بعيدة عن أيّ تيّار أدبي، وبعيدة عن «صراع الأجيال». صحيح أن أول كتابين لها (صدرا في 1952 و1954) يظهران ما نستطيع أن نطلق عليهما اسم «النشوة الإيديولوجية»، لكن بعد هذه الفترة القصيرة ضمن تيّار الواقعية الاشتراكية، استطاعت أن تخطّ لنفسها درباً مغايراً يتمثل بالحرية المطلقة.
في أيّ حال، قد يكون من المفاجئ، حين يتبيّن المرء كم هي عديدة و«نبيهة» هذه الحسابات السياسية المقلوبة التي انهمكت في محاكمة عذرية الكتاب من زاوية إيديولوجية، ويصبح المعيار الوحيد هو أن يكونوا انحدروا أو لم ينحدروا من نظام توتاليتاري. أيّ أن يكون الشاعر «شيوعيا» أو «غير شيوعي». فهذه التنويعات المحتملة لهذين الموقفين تبقى على الأقل في ما يخص الأدب تصنيفات ضيقة لا تكفي معيارا لتقييم عمل ما.
مهما يكن من أمر هذه النشوة، فمن الواضح أن شعر شيمبورسكا منذ بداية الستينيات يتموضع في مكان بعيد، قدر الإمكان، عمّا يمكن تسميته اصطلاحا بالالتزام. كذلك نجدها بعيدة كلّ البعد عن أيّ نزعة وطنية وعن هذه الرغبة التي تحمل بعض الشعراء على غناء وطنهم «المقتول» أو»المنتصر»، بالرغم من أنها ليست دائما رغبة صائبة أو ضرورية. كذلك يبتعد شعر شيمبورسكا عن كلّ نضال نسوي. فتراتبية الاهتمامات التي يظهرها الشعر ويسميها والتي هي قريبة من أحداث العالم تتمحور حول البغض والحماقة والإرهاب والتعذيب. وهي أمور ليست «مشعرنة» في ضباب لغة تلميحية وإنما موسومة بكلّ وضوح. فعالم ما بعد الحرب العالمية، وعالم نهاية القرن العشرين، موجودان هنا. وهما عالم واحد. عالم يشعرنا بالشفقة. عالم نازف ومضحك، دامي، ساخر، مشبع بالكآبة، كما المعتم بالجهل الطوعي والفقير جدا بالعلم الحقيقي. هذا العالم الموجود هنا، يشاهد من بلد، حيث كان الرعب والألم يشكلان جزءا كبيرا مما كان يتعرض له أبناؤه، المعاقبون دوماً. ونقطة انطلاق الرؤية هذه ليست بالضرورة رؤية غير مبالية، ولكنها لا تتلف في شيء السمة الكونية لأدب يجعل من الوعي القيمة المرجعية.
قصائدها، في الغالب، عن الإنسان في مجتمعه، في طرفه الصعب، في غربته ويأسه، والإنسان يواجه جرحه وجرح غيره و«دمار النفس» كما في قصيدتها «اكتشاف» واللجوء والالتصاق بالآخر نتيجة ذلك كما في «لقاء غير متوقع»، الرعب كما في «الإرهابي يراقبني». تلك هي أفكار شعراء جيلها وبخاصة نديها اللذين ذكرناهما سابقا. أما بالنسبة إليها هي، فتشكل هذه المضامين أفكارها الثانوية وتعدها المعوقات عن رؤية الحب والفن في الحياة والنفاذ إليهما. وترى أن الطبيعة حكيمة وواسعة وسخية وان المسؤولية «الايجابية» تجاهها واجبة على من يرى. ولعل هذا المنطق وراء قصيدتها إلى «توماس مان» التي تشير إلى افتتانه بالأصول وتقديره للمستقبل. وهو الخط أيضا الذي تسير فيه قصائدها «مليون ضحكة وأمل مشرق» و«حديث في دائرة المفقودات والمعثور عليها» و«تعجب». أما قصائدها عن الحيوانات وصغر الإنسان في المواقف التي تناولتها في مجموعتها «أسئلة لنفسي»، فمن اجل إبراز ما تتمناه وترجوه مما وراء الجوانب المعتادة.
إن وعي شيمبورسكا بالشرط الإنساني يجعلها أمام وعي بالخسارة، خسارة تراها تأتي بأشكال شتى: خسارة الصداقة، خسارة الحب، خسارة الطفولة، مثلما انطفأت الحضارات المعقدة منها والجميلة، ومثل ذلك الفشل في رؤية وتسجيل تنوعات الحياة وصورها الأخرى. إننا أمام شاعرة مختلفة عن شعراء جيلها، فهي لا تعي متاعب الحياة ومواجهات الإنسان وحيرته وحسب، لكنها تعي معه شروط الحياة واكتمال الطبيعة. وهي تقر بأساسيات الحياة هذه دون انكسار كبير أو يأس.
ربما من اجل ذلك كله، كافأتها اللجنة الملكية السويدية بمنحها جائزة نوبل، إذ قالت في حيثيات اختيارها، إنه جاء من اجل «شعرها الذي يكشف في سياق تاريخي وبسخرية دقيقة الحقيقة الإنسانية المشتتة». وأضافت الأكاديمية: تتوجه (الشاعرة) إلى القارئ جامعة وبطريقة مدهشة، الروح والفني الإبداعي ومعرفة الغير».
إن القارئ المعتاد على المساحات المنتصبة والمعروفة، في شعر بلدان أخرى، سيجد أن قصائد شيمبورسكا كأنها تنتج تأثيرا ما يشبه فتح باب بعنف لتمرّ الريح منه، أو حتى العاصفة. وربما أيضا سيجد القارئ، الذي سيشعر بالبرد عبر كل صفحة، أن ثمة فظاظة وسخرية تمرّان أمام عينيه. جملة شيمبورسكا جملة قصيرة ومحسوبة بشكل دقيق إلى أقصى درجة ممكنة. والقصيدة لا تحيد أبداً عن الدرب الذي يتراءى إن الشاعرة رسمته، بشكل طوعي، منذ البيت الأول. فالاستعارة عندها تبدو بمثابة تضعيف وإرسال مزدوج للواقع، منزاحة قليلاً، كي تحيل الرؤية أوضح. قصيدتها قصيدة صغيرة في اغلب الوقت. وهذا جزء كبير من عملها الشعري، فالسهولة الصافية ليست سوى خداع. إذ أن ما يتراءى سهولة في اللعب بالكلمات، وفي تشكيل الحكاية المليئة بالدعابة والسخرية والعبث، ليس في النتيجة سوى إشارة إلى ثقل في الطرح، من دون أن يجعل هذا الأمر الفكرة سابقة على القصيدة والكتابة. سخرية شيمبورسكا سخرية حية، بعيدة عن أي كسل وذبول. أنها ثمرة ذكاء للأشياء والكائنات، ذكاء لا يتوانى في منهجيته من اجل أن يتوافق مع تعرجات الذات التي ترفض أن تستخف بقدر الشعر الأبدي.
مَن هو الشاعر الذي عاش في القرن العشرين وعرف الفاشية والشيوعية، ويستطيع أن يتجاهل التاريخ؟ يتراءى هذا الأمر عند شيمبورسكا وكأنه السبب الرئيسي في عذاب الناس. فالرجل البسيط والعادي لا يستطيع شيئا حيال الأفكار الكبيرة والمبادئ الكبيرة، إلا الضحك. في شعرها، مرارة التجربة، ومعرفة تأتي بسرعة كي ترسم بدعابة مآسي الحياة وأهوال الرعب. فالكائن البشري عندها ينتمي إلى سلسلة طويلة من التطور البيولوجي، وقد يكون من العبث أن يأخذ الأمور على محمل الجد.
تبدو شيمبورسكا في شعرها، حذرة من ذلك كله. من هنا، تبدو أكثر «ميتافيزيقية» من كونها «مسيحية»، إذ غالبا ما تكون ارتيابية. وهي لا تكتب شعرا فلسفياً، ولا تضع في البيت الشعري فكرة مبنية بشكل مسبق. لكن، في الوقت عينه، نجد أن الفكر والفلسفة يشكلان العمود الفقري الذي يقود الشاعرة، بشكل أفضل، أكثر من أيّ اندفاع وجداني. ومع ذلك، فهذا البعد الفلسفي يهرب منّا عند قراءة قصائدها بشكل سطحي، إذ أنها في قلب لعبة، هدفها التآخي مع الكون، من خلال ترويضها لجميع الكآبات التي يشعر بها الجميع. وما أن تكتب ذلك كلّه، حتى يبدو هذا الرعب الذي يؤرقها وكأنه يختفي، كأننا اطمأنينا في النهاية إلى أن الخلود الذي يقترحه الأدب سيصيبنا، في حين أن واجب شيمبورسكا تذكيرنا بأن العالم المكتوب لا ينوجد إلا لنفسه وفي داخل نفسه.

أطياف شعرية

ثمة أطياف بعيدة من بعض كافافي في شعر شيمبورسكا. كذلك نجد بعض اميلي ديكنسون، وذلك بحسب الدروب، الأقل نحتا والأكثر نقدا، التي تختارها، على خلفية من الصعب تحديدها، من دون معرفة موقع شيمبورسكا في الشعر البولندي. كان شعرها بمثابة عمل لا نجد فيه أيّ «اكزوتيكية» بولندية، ولا أيّ لون محلي، ولا أيّ خاصية بيئية. إنها تكتب العالم. تتحدث عن عالمنا هذا، عالم نهاية القرن العشرين الذي لم يعرفه بعض المثقفين.
القبض على معنى الحياة
مع آخر كتب شيمبورسكا «اللحظة» (أعتمد هنا الترجمة الفرنسية)، لا بدّ أن يبادرنا سؤال يطرح نفسه بجدية: كيف يستطيع المرء أن يبقى هو نفسه بعد «حيازته» نوبل للآداب؟ إذ أنّ الفكرة الأولى التي تطالعنا، هي أن شيمبورسكا، نجحت في ذلك، أيّ أن تبقى نفسها. فديوانها هذا، يأتي صغيرا كما العادة، ليضم 23 قصيدة فقط، لكنها، قصائد غنيّة، كما هي الحال معها دائما.
تخبرنا قصائد الكتاب وعوالمه، كم أن الشاعرة نجحت في اجتياز أكثر فترات حياتها المليئة بالحشرية الإعلامية، ومن دون عوائق تذكر. فالمناسبات التي نجح فيها البعض بوضعها تحت نيران الأضواء كانت قليلة جدا، إذ استعدت في تجنبها مثلما تجنبت الحشود كما رفضت النجومية.

هناك جزء من قصائد ديوانها هذا، ليست مجهولة من الجمهور، فالبعض منها نشر في كتاب «قصائد مختارة» الذي صدر العام 2002، كما هناك البعض الآخر الذي صدر في الصحف. أما القصائد الباقية فشكّل نوعا من تتمة لقصائد قديمة، أيّ أن «قصيدة 11 أيلول» تندرج في نفس الشريان السلمي التي جاءت عليها قصيدتيّ «لا أعرف أيّ أناس» و«نيغاتيف» ، مثلما نستطيع أن نقارنها كلّها بقصيدة «هرّة في شقة فارغة». كلّ هذا يعني أن عمل شيمبورسكا الشعري قد اغتنى بقصائد جيدة ذات قيمة فنية عالية.

تستدعي قصيدتا «هرّة...» و«نيغاتيف» موت كائن قريب، ومن دون أدنى شك، نستطيع اعتبارها من بين روائع الشاعرة، أضف إلى ذلك أن العبارات السياسة النادرة التي تقولها الشاعرة تشكل شهادة استثنائية عن التزامها الإنساني.
علينا أن نقرأ الكتاب دفعة واحدة، عند ذاك نكتشف تلك المحاولة الطموحة، الساعية للقبض على معنى الحياة، وهي موضوعة تشكل منذ فجر الإنسانية إحدى أهم الموضوعات الفلسفية. الفلسفة الشعرية هي دائما على بينة من الفلسفة الأكاديمية. تستخدم لغة أخرى، عارية من التعابير المختصة والواضحة والمركزة. بالرغم من ذلك كله، نجدها أحيانا أكثر دقة، لأنها محصنة ضد كلّ الاتجاهات والتيّارات، كما أنها تستدعي التجربة المعيوشة عند الكاتبة.
تذهب شيمبورسكا ضد كلّ تيارات «الموضة» الثقافية التي ترغب في فصل الإنسان عن الطبيعة من خلال حاجز يصعب أن نتخطاه. في هذا تقترب أيضا من مواطنها «ميووش» الذي يؤمن بأن الطبيعة تمثل ـ وعلى الرغم من كل شيء ـ قوة غير أخلاقية مهددة. لا ترفض الشاعرة حاجز اللغة. نجدها هنا تراقب سمة الكائن البشري الاستثنائية، بيد أن فخرها هذا لا يمنعها بأن ترى وجودها على أنه حادث عبر عالم الطبيعة. في قصيدة «صمت النبات» ترفع التحدي في أن تتكلم إلى الأعشاب مثلما تحدثت قبل سنوات إلى الأحجار.

تهتم شيمبورسكا بالعالم المادي، وهي بذلك تلاحظ وحدة الطبيعة الكبيرة حيث للإنسان مكانته ككائن من بين باقي الكائنات. من هنا علينا أن لا ننتظر من الشاعرة أن تكتب لنا «رسالة لاهوتية». لقد بثتها منذ زمن طويل، وهي موجودة بشكل متناثر في أعمالها وتندرج ضمن ذات التقليد الذي نجده عند لوكريس في كتابه عن الطبيعة. وعلى قول الشاعرة، إن القدرة على الإدهاش هي إحدى خاصيات الإنسان. الدهشة تثير التساؤل وهي من الأمور التي لا غنى عنها لمعرفة المجهول. من دون التساؤل نبقى غير مؤهلين في تحديد مناطق المعرفة كي نتبين مدى جهلنا.
مع رحيل شيمبوريسكا، يفقد الشعر، لا في بولندا، بل في العالم بأسره، واحدة من ركائزه الأساسية التي عرفت كيف تبني عمارة حقيقية.

السفير