(مراسلات كافكا وماكس برود)

اسكندر حبش
(لبنان)

ماكس برودماكس برودبعد ٨٤ سنة من رحيله، لا يزال الكاتب التشيكي، الألماني اللغة، فرانز كافكا يثير الكثير من الحيرة والأسئلة. آخر الترجمات الفرنسية الصادرة حديثا عن منشورات “ريفاج” تعود لتثير هذه الزوبعة حول حياة الكاتب. إنها مراسلاته مع صديقه الكبير ماكس برود. الكتاب بعنوان “رسائل إلى ماكس برود، ١٩٠٤ ـ ١٩٢٤”، ويقع في ٣٢٩ صفحة من القطع الكبير. وإذا ما كانت هذه الرسائل تتيح لنا اكتشاف الكثير عن حياة وتفاصيل كافكا اليومية، فإنها بالتأكيد تتيح لنا اكتشاف ما قد يكون خبر الموسم. كلا لم يطلب كافكا من صديقه أن يحرق مخطوطاته كلها بعد موته، بخلاف الرواية الشائعة. بل كان برود أول من طلب من كافكا أن يحرق مخطوطاته هو، إذا ما توفي. حدث ذلك قبل فترة طويلة من طلب كافكا نفسه إحراق بعض المخطوطات وترك البقية. في أي حال، وحول هذه القضية، هذه المقالة المعدة من الصحف التي تناولت الكتاب كما من بعض مواقع الانترنت.

كنا نشعر بالراحة معه. عبر غنى أفكاره التي يعبر عنها،
بشكل عام، بنبرة مرحة. كان ـ وكي يستعمل كلمة
كامدة ـ أحد الرجال الأكثر أسرا الذين عرفتهم،
بالرغم من تواضعه وهدوئه”.
ماكس برود

لا بد من أن تشكل مراسلات الروائيين الكبار إشكالية ما في أغلب الأحيان. تماما كما لو قرأنا مراسلات ألبير كامو إلى الشاعر الفرنسي رينيه شار، إذ ـ من حيث المبدأ ـ نظن أن هؤلاء الفنانين لا بد لهم من أن يتناقشوا حول أشياء جدية حين يلتقون ببعضهم البعض لكنهم غالبا ما يتبادلون “التفاهات” حين يتكاتبون.

ولد فرانز كافكا في براغ العام ،١٨٨٣ هو كاتب تشيكي يكتب باللغة الألمانية، وتوفي في مصح في كيرلينغ، بالقرب من فيينا العام .١٩٢٤ وبين هذين التاريخين، ألف عملا أدبيا هائلا وسم ـ بعمق ـ أدب القرن العشرين وفكره. فهذا الرجل المرهف والحساس، المستوحد والجريح ـ وفق جميع الذين كتبوا سيرته ـ كان أحد أكثر الروائيين حداثة وأكثرهم أهمية في تاريخ الأدب الحديث، من دون استثناء، وبعيدا عن كلّ “الدوغمات” الطليعية التي سادت في عصره. لقد نجح كافكا، قبل ماكس فيبر وبقية الفلاسفة، في أن يقبض على هذا العالم التي تنتهشه البيروقراطية والبيروقراطيون كما روحها التي تقنن كل شيء طاردة بذلك فرادة الكائن البشري. كان كافكا يشعر أيضا، بتغير العالم من حوله، كما بتحول علاقتنا بالزمن والوجود حيث يتبدل كل شيء ليصبح فخا نقع فيه من دون خلاص. من هنا نجد أنه وفي كل المجالات التي تتطرق إليها، كان أثر ما أضافه كافكا أثرا رهيبا، كبيرا، وهذا ما أعطاه هذه القيمة الأدبية الكبيرة.

لقد تحدث كافكا عن الحرية في مجتمع نهشته الإدارة ـ (إذ إن هذه الحرية كانت محدودة بقدر ما كانت عديمة القدرة) ـ حيث الحياة الخاصة لم تعد مثلما كانت عليه، (الجميع يراقبون الجميع إذ إننا لم نعد نفرد حيّزا لسرّ الحميمية الذي تناسيناه)، وحيث أيضا تتصادم الأزمنة الإنسانية بأزمنة الإدارة التي لم تعد تعرف لا أزمنة الصبا ولا أزمنة الشيخوخة، لأن الشروط والاتفاقات الإدارية لهذا العالم أصبحت تسوي حيواتنا. ففي عصر المعلوماتية لم يعد أيّ منا في مأمن، والمعركة التي يخوضها الكائن البشري ليهرب من هذا العالم المماثل أصبحت معركة مستحيلة. تماما مثل K في كتاب “المحكمة” إذ كان يعتقد نفسه مذنبا لكنه لم يكن يعرف بماذا هو متهم: فالعقاب يبحث دائما عن خطأ ما... وكافكا الذي استخدم ذات يوم في مكتب للتأمين ضد حوادث العمل في مملكة بوهيميا، لم يكن بالتأكيد نبيا، بل كان يشهد ويحس فعلا بقدوم هذا العالم الذي أصبح عالمنا اليوم.

الأفكار المتجذرة
من الأقاويل الشائعة التي غالبا ما نرددها بأن فرانز كافكا كان قد طلب ـ عمدا وبشكل قاطع ـ من صديقه ماكس برود، (الذي كان منفذ وصيته)، أن لا ينشر ـ في حال وفاته ـ بعض نصوصه إلا أن هذا الأخير لم يتقيد بالوصية فخالف إرادة المؤلف وقام بنشر ما نشره، ليتكشف لنا وجه هذا الكاتب الكبير. اعتقاد يسقط اليوم مع قراءتنا هذه المراسلات. إذ لم يحدث الأمر على هذه الناحية. فكل ما قيل لم يكن سوى اختلاق. ففي مقدمته لهذه المراسلات يكتب المترجم بيار ديشوسيس التالي: “هذه الفكرة التي طالما كانت متجذرة في أرواح القراء وعقولهم، تظهر لنا أن تاريخ الأدب غالبا ما يعشق القصص والخبريات. فلو كان ذلك صحيحا ما جاء في رسالة عائدة إلى شتاء ،١٩٢١ من أن كافكا طلب من صديقه برود أن يحرق كل شيء بعد موته، لتوجب علينا أن نعرف أن برود هو من بدأ بهذا الطلب من صديقه. ففي رسالة مؤرخة في ٢١ كانون الأول من العام ،١٩١٨ يطلب منه أن يحرق الملفات (المتضمنة كتاباته) الموجودة في مكتبه، من دون أن يفتحها، في حال وافته المنية. فيجيبه كافكا بمرح: “لن يحدث هذا الأمر لكنه سيفكر به” (...). علاوة على ذلك، وبينما كانت تشتد عليه وطأة المرض، نجده يكتب بعد عام في رسالة مؤرخة بـ ٢٩ تشرين الثاني ١٩٢٢ بأن يحرق كل شيء ما عدا مخطوطات “الحكم”، “الأنباري”، “الانمساخ”، “مستعمرة الإصلاح”، “طبيب في الريف”، كما قصة “فنان الصيام”. هذا الكلام الذي نكتشفه في هذه المراسلات يجيء على قدر كبير من الاختلاف عما عرفناه سابقا. فهذه الرسالة التي كتبها، لم يرسلها كافكا مطلقا إلى صديقه، بل إن ماكس برود اكتشفها بين أوراق كافكا بعد رحيله. فلو كان كافكا يرغب فعلا في أن تختفي مخطوطاته وكتاباته لكان تصرف بالتأكيد بشكل مخالف أي من دون أن يترك هذه المهمة “الشاقة” إلى أفضل أصدقائه الذي كان يعتبره، وفق ما كتب له في رسالة عائدة إلى العام ١٩١٧ بأنه “أكبر كاتب ألماني”. من هنا لم يخن برود صديقه حين نشر على العالم بأسره كتابات كافكا.

بعد توضيح هذه النقطة، يمكننا أن نلاحظ التالي: حتى لو أن كافكا طلب من صديقه أمرا مماثلا ولم يتقيد به هذا الصديق، فإن هذا الأخير لم يكن مضطرا لنشر كل شيء. ربما كان مفهوما فيما لو أنه نشر الأعمال الرئيسية من مثل “المحاكمة” أو “القصر”، لكن أن يضع في السلة ذاتها الرسائل أيضا والوثائق الشخصية الحميمة والمراسلات وما شابه، فلا بد من أن نلاحظ أن ثمة فرقا واضحا في القصة الرسمية. إذ ثمة خطأ من جهة ماكس برود تجاه صديقه في ما يتعلق باحترام الحياة الخاصة التي كان يقدرها بشكل أساسي.

تقارب الصداقة
التقى كافكا بماكس برود في العام .١٩٠٢ لم يكن أساس هذه الصداقة التقارب الروحي فقط أو الطموح الأدبي. كانا يشكلان جزءا من حلقة فلسفية تجتمع في مقهى “اللوفر” مثلما كانا يترددان على الصالونات الأدبية في مدينة براغ. كانا يلتقيان أيضا باستمرار ليشاهدا معا استعراضات المنوعات. لم يكونا يتجنبان “الأماكن المخيفة”، الحانات المعتمة، المنازل المغلقة (المواخير). وبدءا من العام ١٩٠٩ قام الصديقان برحلات طويلة معا. مع ماكس برود ذهب كافكا إلى باريس في تشرين الأول من العام ،١٩١٠ وإلى شمال إيطاليا وباريس مجددا في العام ،١٩١١ وإلى فايمار العام .١٩١٢ لقد كتب برود العديد من الروايات من بينها ثلاثيته المؤلفة من “طريق تيكو براهيه نحو الله” (١٩١٦) و”روبيني، أمير اليهود” (١٩٢٥) و”الجليل في الأسر” (١٩٤٨)، لكنه لم يستطع أن يفرض نفسه ككاتب كبير. لكنه في هذه الأثناء لم يتردد في كشف بعض العباقرة الجدد مثل المؤلف الموسيقي ليوس جاناشيك والكاتب ياروسلاف هاسيك صاحب رائعة “الجندي الشجاع شفايك”.

في جميع هذه الرسائل يبرهن لنا كافكا عن طيبة كبيرة وعن لطف غير متناه تجاه صديقه، إذ يعتم بأمره ويقلق عليه ويطلب منه النصح ويساعده في كتاباته. كان صديقا مخلصا ووفيا. كتب له: “لأنه، أتعرف يا ماكس، حبي لك أكبر مني ويسكنني أكثر مما يسكن نفسي، ويبدو غير مؤكد نظرا لطبيعتي الهشة، لكن في الحصاة الصغيرة يوجد منزل حجري... باختصار لقد أحضرت لك أجمل الهدايا لعيد ميلادك وسأعطيها لك مع قبلة قد تعبر عن الشكر المستحيل بأنك هنا”.

يستدعي كافكا في رسائله أيضا رغبته في الانتحار (ص ٩٥) أو كما في أغلب الأحيان، هذه الطرافة وهذا المرح اللذين كان يتمتع بهما. يتحدث أيضا عن مرضه، عن السل الذي اكتشفه في العام ،١٩١٧ عن أرقه المستمر وعدم قدرته على النوم. يخبرنا أيضا عن علاقاته الصعبة والفاشلة مع النساء، وبخاصة مع فيليس باور التي التقاها العام ١٩١٢ كما مع جولي ووريتشــيك وميلــينا يسينــسكا (١٩٢٠) وأخيرا مع دورا ديمان التي كانت صديقته الأخيرة.

إذا ما كانت المراسلات تبدو حكائية في أغلب الأحيان، فإننا مع مراسلات كافكا وماكس برود أمام كتاب سيثير بالتأكيد اهتمام كل الذين يرغبون في الدخول إلى عالم فرانز كافكا وشخصيته. رسائل مثيرة كادت تبقى أسيرة الأدراج، لو...

السفير
يوليو 2008