اسكندر حبش

الطاهرلا بدّ أن تتعدد الآراء في تجربة الكاتب الجزائري الطاهر وطار – (الذي غيّبه الموت نهار أمس، بعد معاناة طويلة مع المرض، عن عمر يناهز 74 عاما) – بين مؤيد ومعارض، أيّ بين من يجدها تجربة روائية كبيرة، وبين من يجدها تجربة عادية. لكن في هذا الاختلاف، يقف سؤال الأدب بأسره، إذ متى كان الأدب الحقيقي يعرف الإجماع الكامل.

هذه إحدى البديهيات التي لا بدّ أن تطالعنا في كلّ تجربة حقة، نابعة من الأعماق. وفي هذا الاختلاف أيضا، ثمة «إجماع» مفاجئ: لم يكن أحد يختلف على أن «عمّي» الطاهر (مثلما كان يُلقب ومثلما كان يحب أن ينادوه) كان «أب» الرواية الجزائرية الحديثة المكتوبة بالعربية. من هنا، كان دوره رائدا، بحيث فتح آفاقا في وقت كانت لا تزال اللغة الفرنسية هي اللغة «المكتوب» بها في الجزائر والتي أعطت أسماء لامعة لا يمكن إنكارها مثل كاتب ياسين ومولود فرعون وفي ما بعد رشيد بوجدرة، على سبيل المثال لا الحصر، مهما اختلفت التقييمات.

فتح الطاهر وطار بأعماله المتعددة ـ بدءا من «اللاز» و«الزلزال»
ومرورا بـ «الحوات والقصر» و«عرس بغل» وصولا إلى «الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي» و«الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء» من دون أن ننسى مجموعته القصصية الموسومة «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» – فتح بابا حقيقيا في الرواية العربية الجزائرية، إذ نجد اليوم أن كثيرين استلموا منه هذه الراية، لتصبح الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية، حاضرة عند العديد من الكتاب، الذين اختاروها، والذين نرى من بينهم من استطاع تخطي حاجز الطاهر وطار، مع العلم أن لا أحد ينكر على المؤسس دوره في هذا المجال.

هذا الخيار «العربي»، جاء من الطاهر الذي ينتمي إلى أسرة بربرية، وكأن قبل اللغة المختارة، ثمة موقف سياسي كبير، هو موقف الثورة التي ناضل من أجلها والتي كتب لها، والتي أصابته بالعناد الكبير، والعصبية الكبيرة. قد تكون هي خاصية جزائرية، إذ هكذا تبدى لي الطاهر وطار بعصبيته وحدّته، في المرات الثلاث التي قابلته فيها، لدرجة أنه لم يكن «يمضغ كلماته»، بل يقولها هكذا بكل فجاجتها وبكل صراحتها، حتى لو أزعجت الجميع. ألم تزعج كلماته التي اقترب منها – في أحداث الجزائر – من الحركات الإسلامية أصدقاءه العلمانيين؟ ألم يخوّن هو نفسه الكتّاب الفرنكوفونيين مطالبا «باستئصالهم»؟ صعبة هي كلماته هذه، ولكنه قالها بدون مواربة، ليحدث زلزالا في المشهد الثقافي الجزائري، في بداية التسعينيات وهو المشهد الذي كان يهوي فيه ليل القتل والمذابح على الجميع.
في أيّ حال، ليس هذا المشهد الذي سيبقى من الطاهر وطار، بل ستبقى رواياته، ودوره المؤسس، وهذه الكتابة التي جاءت في كثير من الأحيان، من دون مواربة أيضا، لتذهب مباشرة إلى موضوعها، من دون تزيينات لتأخذنا في رحلة حقيقية إلى قلب الجزائر التي نجهلها، أو على الأقل التي لم نعرفها عبر الخطاب السياسي الذي كان سائدا في ذلك العهد. هذا الخطاب الذي أعاد صوغه بطريقته الجميلة في روايته الأخيرة «قصيدة في التذلل» التي بدا فيها الطاهر وطار أنيقا ولامعا، بالرغم من المرض الذي كان يفتك به بصمت.

يرحل الطاهر وطار بصمت. يرحل في بداية رمضان، وهو الشهر الذي تفتح به أبواب الجنة، ألم يتمنى طيلة عمره أن يموت ناصعا كالشهداء؟ يرحل الطاهر وخلفه تركة أدبية كبيرة، يكفي أن نعيد قراءتها لنعود ونكتشف قامته المميزة، الأكيدة. لكن من المؤكد أن «عمّي الطاهر» لن يعود هذا الأسبوع، لعلنا ننتظر.

السفير
13 اغسطس 2010