وكاترين بارو وكوسي إيفوي وليونيل ترويو

إنه سر العلاقات أو إيقاع الجملة أما السياسة
فنقولها موروبة إذ ليس من رواية غير سياسية

اسكندر حبش

اسكندر حبش

ليست عودة إلى معرض «بيروت للكتاب الفرنكوفوني» الذي عرفته العاصمة اللبنانية ما بين 23 تشرين الأول الماضي، والأول من الشهر الحالي، لكن المعرض أتاح للمتابع التعرف على بعض الوجوه الجديدة التي تحضر اليوم في الكتابة باللغة الفرنسية. كتابة تتوزع على فرنسيين كما على العديد من الفرنكوفونيين بطبيعة الحال، وهي بدأت تعرف حضوراً ما، على الرغم من أن بعض هؤلاء لا ينشرون في الدور الكبيرة، التي «تُسوق» نتاجهم، بل ثمة كثيرون اختاروا النشر بعيدا عن «الآلة الاجتماعية» التي يعرفها الوسط الأدبي في العاصمة الفرنسية، وكأنهم بذلك يؤكدون انحيازهم إلى الكتابة، لأنه هو الانحياز الأصل، بعيداً عن أيّ دعاية أو البحث عن شهرة.

بمعنى آخر تأتي الكتابة أولا، لكن ذلك لا يعني أن حضورهم، المادي، غير موجود، بل على العكس من ذلك، إذ أفردت لهم أعمالهم مساحة حقيقية للتحاور ولكي يكونوا حقاً أصواتاً جديدة في الكتابة الفرنسية المعاصرة. هذه الكتابة الموزعة على العديد من الرؤى والأساليب والمناخات، التي تعرف كيف ترسم عوالمها الخاصة. هذه العوالم الكتابية التي حاولنا أن نطل عليها عبر سؤال وجهناه إلى بعض الكتاب الذين كانوا حاضرين في معرض بيروت للكتاب الفرنكوفوني الأخير، ويمكن في معنى الكتابة عند كل واحد منهم.

البداية كانت مع الروائية الفرنسية ماري كوسني المولودة في مدينة بايون عام 1965، وبعد أن عاشت لفترة في باريس، عادت إلى منطقتها في «بلاد الباسك»، حيث تعيش وتعمل كمُدّرسة. لها عدد من الروايات التي لفتت النظر إليها، وعن الكتابة تقول: «ربما كانت هناك علاقة ما، أرغب في إدراجها – في عملي الأدبي – وهي علاقة ما بين الكتابة وما يدعى «السرّ». بالتأكيد لست واثقة من أن الكتابة قد تساعد على القيام بذلك، بشكل نهائي، إلا أنها، برأيي، تستطيع أن تجعله أكثر حضورا، وذلك عبر طرق عدّة ومختلفة، كما أنها تستطيع أن تفرد أمامه – أمامنا، مساحات واسعة وفضاءات متعددة وصوراً مختلفة. لم أنحُ مرّة، في كتبي، إلى رسم بيان عمّا يمكن لنا أن نسميه «المتعذر وصفه» أيّ استرجاع ذلك الذي مضى إلى غير رجعة، بل إن هدفي – إذا جاز التعبير – هو تبيان التالي: ما يكمن خلف هذا الشيء الأساسي، يمكننا أن نجده في هذا التلاحق العائد للذكريات التي أريد أن أذهب إليها. مثلا في روايتي «أندريه الظلال» كان «السرّ الأول» الذي بحثت عنه هو ذلك السرّ الذي كان يجمع بين جنديين في حرب 14، حين اعترف الأول للثاني بأنه يحبّ رجلا آخر، وحول هذا السرّ بنيت القصة. كلّ أعمالي، بمعنى من المعاني، تحاول أن تتابع هذه الملاحقة بين شخصين، بين رجل وامرأة، بين رجل ورجل بين امرأة وامرأة أخرى، ما أريد قوله إن هذه المواجهة بين الكائنات البشرية هي بالنسبة إلي بمثابة سرّ أنحو إلى اكتشافه، بمعنى أن الكتابة تحاول أن تبحث عن هذه الاستمرارية في العلائق المختلفة».

اجتياز المدن

قد تكون الكاتبة كاترين بارو – (مواليد عام 1957 في منطقة «الفانديه»، تعيش وتعمل حاليا في مدينة «نانت»، وحيث تدير أيضا العديد من محترفات الكتابة) – تتقاطع بمعنى من المعاني مع زميلتها، إذ تجد أن «الخط الذي يدعم رواياتي، ويشدها فيما بينها، يرتبط باجتياز رحلة ما، في لحظة من لحظات الحياة، اجتياز تجربة حياتية وشخصية لكل هذه الشخصيات التي أعمل عليها، عبر الكتابة. أعمل على هذه الفكرة، بثبات، ما إن أبدأ بتكوين الخيوط الأولى من أي كتاب أو رواية، حيث أسبر أغوار كلّ الإمكانيات الممكنة لأكتب «الأنا» ولكيّ أبدع بذلك، شخصية تجتاز الطبيعة والمدينة والزمن واللقاءات البشرية التي تلتقي بها. إن هذا الطريق الداخلي الذي أحاول ارتياده ليس في النتيجة إلا طريق العالم، هذا العالم الذي يصدم ويُتعب ذاك الذي يتحامل عليه أوينسحر أمامه. بهذا المعنى، أكتب لقاء الشخص الراشد مع طفولته، مع حياته الماضية، حاضره المتجذر في الحداثة التي تهرب منه». وتضيف بارو أن شغلها «الشاغل هو إيقاع الجملة. كل كتاب ليس إلا بحثا آخر عن بنيّة الجمل، عن ترتيبها إلا أني لا أميز في ذلك ما بين الشكل والمضمون. انه إحساس جسدي، رؤيتي، ذكرى رائحة، كلّ ذلك الذي يفرض إيقاعه. ليس الكتاب إلا نفحة، أبحث عن عجن هذه النفحة من البداية إلى النهاية. أحب الصور التي تنجب كتباً، أحب القصص المرويّة بصوت خفيض في الأنفاق، أحب القراءة بصوت عال في الأماكن غير المحتملة».

سؤال الهوية

يأتي الكاتب التوغولي، كوسي إيفوي - (مواليد عام 1962، والحائز جائزة القارات الخمس لهذا العام) – من جانب آخر للكتابة. ربما كان لمشاركته في تظاهرات الحركة الطلابية في بداية الثمانينيات، وما نتج عن ذلك، في مغادرة بلاده والعيش في فرنسا، سبب في أن يعيد طرح مفهوم الكتابة. يقول إيفوي: «أعتقد أن الذين سبقونا، لا زالوا يعيشون في الحلم كثيرا، حلم كتابة أدب فعّال. أما نحن، أبناء الراهن، فأعتقد إننا لم نعد نقيم في المُساءلة والتساؤلات المماثلة. نحن جيل تعرض إلى ثلاثين سنة من الفكر المتواطئ والمشترك، من هنا أظن أننا لسنا بحاجة إلى كتابة شعارات كي نردّ ونواجه الشعارات الأخرى التي كُتبت، سابقا. فأنا حين أكتب «تحيا الحرية»، أجدني مضطرا كي أتأكد من أن جوابي يقف في مواجهة الصيغة التي أجدها أمامي». ويضيف إيفوي: «لا نستطيع أن نقترب من السؤال السياسي إلا عبر التفاتة واستدارة، لا كما لو انه ارض معركة إيديولوجية. إن الأدوات التصورية «للزنوجة» تطرح سؤال الهوية، وهذا ما لا يمكنني استعماله اليوم. التحدي الذي أمامي يكمن في النهوض بالتحديات التي قام بها من سبقوني. ذات يوم، قال سنغور، إنه «كان يكتب شعبه». لكن ما جعل من سنغور شخصاً عظيماً يكمن في انه خرج من هذا الإطار الإيديولوجي».

ليونيل ترويو (مواليد بور – او – فرانس، هاييتي، عام 1956)، يخالف زميله الأفريقي، فبرأيه «هناك بعض الصور، التي ينتهي بها الأمر، في أن تتطور وتنمو وكأنها إشكالية ما، وفيما بعد تبدأ الشخصيات في أن تتموضع في مكانها. من ثم يأتي العنوان والجملة الأولى. لا استطيع أن أكتب إلا وأنا قد حددت سلفاً الجملة الأولى والأخيرة من الكتاب. اذهب من نقطة إلى أخرى، إذ بهذه الطريقة لا أضيع أبداً. ليست لدي أي فانتازيا من فانتازيات الكتاب. استطيع أن اكتب وأنا اشرب، وأنا أشاهد التلفزيون، وأنا أتحدث مع زوجتي».

ما يشير إليه ترويو، هو الأسلوب، أما من حيث «المضمون»، فيقول: «ما من كتابة غير سياسية. أكتب روايات، هذا صحيح، ولكني في العمق اقترب من الموضوعات السياسية. ذات يوم، قال لي أحد علماء الاجتماع، إني أكتب روايات «نذيرة». أنا بعيد جدا عن كل وثنيات الرواية الموجودة في الغرب. اكتب من أجلي في البداية، ومن ثم لشخصين أو ثلاثة. الأدب هو علاقة بين شخص وآخر. اكتب من أجل الكتابة، الجوائز غير مهمة، الأهم أن نستطيع إهداء الكتاب إلى شخص ما».

أجوبة مختلفة، يقدمها إلينا كل من كوسني وبارو وإيفوي وترويو، لكن هل نستطيع القول إنها أجوبة نهائية؟ ربما من إحدى فضائل الأدب، إن ليس هنــاك أجـوبة نهائية، بل لا يزيد الأمر عن رأي شخصي. وإلا ما معنى الأدب في النتيجة النهائية.

السفير- 18 11-2009