اسكندر حبش
(لبنان)

رامبو«ليس نقاشاً ثقافياً بل هو نقاش عاطفي»، هكذا وصف بعض الخبراء الجدل الذي استمر لشهور في العاصمة الفرنسية حول الصورة التي تظهر الشاعر الفرنسي ارتور رامبو على درج فندق لونيفر في عدن، وهي صورة تظهر الشاعر بعمر راشد، بعيداً عن الكليشيهات التي عرفناها عنه والتي تظهره في عمر المراهقة. مؤخراً، قطع الخبراء النقاش بإعلانهم إنها فعلا صورة رامبو. حول ذلك، هذه المقالة التي تستعيد القصة وهي تعتمد على الصحف التالية «لو فيغارو»، «لوموند»، «غالا» التي تناولت هذه القضية.

بعد ستة أشهر من النقاش والجدل ما بين العديد من المختصين والمختصين بأدب وسيرة حياة الشاعر الفرنسي الراحل أرتور رامبو، حُسم الأمر في العاصمة الفرنسية، بعد الإعلان، منذ أيام، أن الصورة المكتشفة منذ أشهر، والذي قيل إن رامبو موجود فيها، هي فعلا صورة رامبو في عدن، وقد التقطت في شهر آب من العام 1880، وأن لا مجال للشك البتة في صحتها، على الرغم من كلّ ما أثير من لغط حولها، حيث اعتبر البعض أنه لا يمكن للشاعر الفرنسي أن يكون موجوداً فيها، إذ لم يلتق، في تلك الفترة، ببعض الأشخاص الذي جلسوا أمام المصور.

نتيجة الحكم بالإيجاب على صحة الصورة، جاء نتيجة تحقيق واسع قام به العديد من الأشخاص، بالتعاون مع جان - جاك لوفرير (كاتب سيرة رامبو الرسمية)، كما بالتعاون مع العديد من الباحثين والمؤسسات، وفق ما صرح به جاك ديس، أحد صاحبي المكتبة اللذين اكتشفا الصورة في شهر نيسان (أبريل) الماضي.

ملف التحقيق الكامل، موجود اليوم على موقع مجلة ( La revue des deux mondes ) الالكتروني، وهو ملف يتألف من 100 صفحة، يقدم عشرات الوثائق، غير المنشورة سابقاً، مثلما يتضمن أيضاً الكثير من الصور التي تسمح لنا بالغوص في ذاك العالم المختلف والمدهش - عالم المغامرين والمكتشفين والتجار - الذي أصبح عالم الشاعر الفرنسي، إثر تخليه عن الكتابة، أي أنه «عالم حياته الثانية». وإذ كان ملف المجلة الفرنسية يتيح لنا الإطلالة على هذه القضية، إلا أنه يتيح لنا أيضاً معرفة جميع الأشخاص الذين يظهرون في هذه الصورة التي شغلت بال الجميع منذ شهر نيسان الماضي.
تظهر الصورة المعنية صاحب قصيدة «المركب السكران» وهو محاط بمجموعة من سبعة أشخاص، بينهم المستكشف هنري لوسيرو، وهي التقطت - وفق المختصين - في شهر آب من العام 1880، على درج مدخل «فندق لونيفر» في عدن (اليمن)، وقد التقطها مستكشف آخر هو جورج ريفوال.

الصورة التاسعة

كان «الرجل ذو نعال من ريح» (وهو اللقب الذي أطلق على رامبو) يبلغ يومها السادسة والعشرين من عمره، وقد وصل لتوه إلى عدن. وقد أجمع كل من شارك في هذا التحقيق، لتأكيد صحة الصورة، إنها تمثل وثيقة على درجة كبيرة من الأهمية، «أهمية أكبر مما نعتقد» لأنها توضح اللحظة الذي بدأ فيها الشاعر الفرنسي «عيش حياته الثانية». فعبر معرفة هؤلاء الأشخاص الذين «عاشرهم في تلك الحقبة في ذلك المكان» لم «يعد هناك أي مجال للشك بهوية هذا الشاب» مثلما يؤكد جاك ديس. فملامح الوجه - التي تم تفنيدها نقطة وراء نقطة بأبرز الآلات التكنولوجية - أثبتت أنها ملامح رامبو، حتى في أدق التفاصيل المميزة، والتي كانت معروفة عنه، كما يقول ديس. كذلك يتضمن الملف «بورتريه» لصديقة رامبو (المزعومة) في عدن.

تشكل الصورة هذه، الصورة التاسعة (فقط) التي تمثل الشاعر الفرنسي، وهي الوحيدة التي نميز فيها ملامحه كشاب راشد، بعد أن تخلى طوعاً عن الأدب.

بعد هذا التأكيد، ربما من المفيد أن نعود قليلاً إلى الوراء لمعرفة سيرة هذه القصة التي انهمك عليها الجميع. بدأ الأمر منذ سنتين، في أحد الأسواق التي تبيع الأشياء القديمة والمستعملة (Brocante)، وهي أسواق تعرفها فرنسا بكثرة. ففي أحد الصناديق التي كانت تضم كتباً مختلفة، كانت هناك العديد من البطاقات البريدية التي يمكن أن نرى فيها صوراً تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهي صور تمثل أشخاصاً «بورجوازيين» بشورابهم وثيابهم الأنيقة، كما هناك العديد من صور النساء «المتكلفات» اللواتي يقفن أمام عدسات الكاميرا. ما من شيء خارق بعد في هذه القصة. بيد أن جملة واحدة لفتت نظر شخصين كانا يبحثان في هذه الصناديق المعروضة للبيع. تقول الجملة إن هذه الصور التقطت في «فندق لونيفير».

تشاء الصدف أن يقع كل من ألبان كوسيه وجاك ديس، وهما صاحبا مكتبة تبيع الكتب القديمة والمستعملة، على هذا الصندوق، وقد لفتت الجملة نظرهما، ولسبب وحيد هو أن ثمة شخصاً «كان يدعى رامبو» أقام، ذات مرة، في عدن، في فندق لونيفير، من هنا قررا أن يشتريا الصندوق لينظرا إلى البطاقات البريدية (الصور) من قرب.

وحين أعلنا يومها عن اكتشافهما - ربما - صورة لرامبو، كانت الأسئلة التي طرحت عليهما، أسئلة بعيدة عن معنى الصورة، إذ سألهما الجميع «أين كان هذا السوق الذي اشتريا منه الصندوق، وكم دفعا ثمنه؟ أما الجواب، فلم يكن أقل غموضا»، إذ أجابا فقط إنه سوق جرى في مكان ما في فرنسا، أما السعر فكان معقولاً. لا شيء آخر قاله «صائدا الكنوز» (كما يصفان نفسيهما).

وأمام هذه الصورة، قرر الرجلان استشارة بعض المختصين «العلميين»، لمعرفة هذه العلاقة ما بين «الكليشيه» ورامبو (الذي عاش في عدن خلال سنوات حياته الأخيرة). أرادا أن يعرفا من هو هذا الشخص الذي كان ينظر إلى عدسة الكاميرا؟ ووفق رأيهما وجدا أن ثمة اشارات تقودهما إلى الكنز الحقيقي: إذ إن الصورة تعود إلى تلك الحقبة فعلا، كما الإطار العام والتفاصيل والشخصيات الموجودة في الصورة.
أمام ذلك كله، استشارا أحد كبار المختصين بأدب رامبو، فاتصلا بجان - جاك لوفيفر (كاتب سيرة رامبو وأحد المختصين الضالعين برامبو الذين لا غبار عليهم)، وكان يومها يعمل على كتاب ضخم هو عبارة عن مراسلات تجمع الرسائل والوثائق والمقالات التي ورد فيها اسم ارتور رامبو، من تاريخ موته العام 1891 ولغاية العام 1900.

الاشراقات

بدوره درس لوفرير الوثيقة، وأعلن عن اقتناعه السريع بأن الصورة تمثل فعلاً شاعر «الاشراقات». قارنها بالصور الماضية التي تمثله في مراهقته، فوجد الملامح عينها، كما النظرة نفسها والتعبير ذاته. لكن الثلاثة أحبوا التأكد أكثر من النتيجة، إذ وجدوا أنه لا يمكن الاعتماد على هذا الحدس من دون اللجوء إلى وسيلة علمية. فقاموا بعملية تدقيق مع صور أخرى تعود إلى تلك الحقبة، ووجدوا أن هذه الصورة تتيح للجميع، عن طريق التكبير، الحصول على بورتريه لرامبو وهو في سن الرشد. إذ إن الصور القليلة التي اكتشفت سابقا للشاعر الفرنسي - أكانت في هرار أو عدن - لا تظهر سوى جسد الشاعر من بعيد، وهي صور لا تظهر وجهه. وانتهى بهم الأمر إلى التأكد من أنها صورة الشاعر الفرنسي، ليعلنوا عنها في نيسان الماضي.

بيد أن القضية لم تتوقف عند هذا الحد، إذ ما أن تمّ الإعلان، حتى بدأت معركة من نوع آخر، إذ أعلن بعض الخبراء عن اعتقادهم أن الشخص ليس هو رامبو، وذلك عائد إلى التسلسل الكرونولوجي للأحداث. أمام ذلك، أعلن لوفرير أن «هذا النقاش يدور نظراً إلى المنافسة بين الباحثين إذ هناك من لا يقبل بهذا الأثر الحاسم على أسطورة رامبو، من هنا لسنا أمام نقاش ثقافي بل أمام نقاش عاطفي». وأضاف لوفرير يومها أن الصورة تعود إلى أولى أيام وصول رامبو إلى عدن في بداية آب 1880. وهي تظهره وسط مجموعة من 7 أشخاص من بينهم المستكشف هنري لوسيرو.

إزاء أقوال لوفرير، أعلن كلود جانكولاس (مختص برامبو والمفوض الذي أدار معرض رامبو مانيا) أنه «لا يمكن بتاتاً أن يكون رامبو ولوسيرو قد التقيا في عدن، إذ إن هذه الصورة تعود إلى ما قبل 6 تموز 1880. من هنا لا يمكن لهذا الشخص الذي يظهر في الصورة أن يكون أرتور رامبو». وقد اعتمد جانكولاس في كلامه على الرسالتين اللتين كان لوسيرو أرسلهما إلى رئيس جمعية الجغرافيا في باريس.

الرسالة الأولى مؤرخة في «زيلا» (الصومال) بتاريخ 6 تموز 1880، والأخرى في هرار (أثيوبيا) بتاريخ 12 آب. وفيها يقول إنه وصل إلى هناك «بعد 25 يوماً من السير على الأقدام»، وهذا ما يثبت، وفق جان كولاس، بأنه لم يكن بإمكان لوسيرو أن يكون في بداية شهر آب في عدن» وسرعان ما جاء الجواب من جاك ديس (أحد صاحبي المكتبة)، إذ قال «يعرف الجميع أن رسالة آب من هرار كانت رسالة ذات تاريخ مسبق كما يقول ألفريد باردي في مذكراته (باردي كان أول مسؤول عمل لرامبو في إفريقيا).

وتستمر المناقشات، ليعلن جاك ديس بعد ذاك النقاش، أن ثمة وثيقة جديدة تناقض كلياً فرضية جان كولاس، وهي رسالة من لوسيرو كان أرسلها إلى القنصل الفرنسي، ألبير دولاجونيار، وهي مؤرخة من عدن في 13 آب 1880. ويقول ديس «من الصعب جداً التشكيك بصحة هذه الرسالة، إذ إنها تأتي من أرشيف وزارة الخارجية». وعلى صعيد آخر، نجد أن شخصاً فرنسياً آخر، وهو المستكشف جورج ريفوال، كان كتب بأنه شاهد لوسيرو في عدن خلال أقامته هناك ما بين 7 آب و12 أيلول، وهو الذي التقط هذه الصورة وفق ديس.

من هنا اعتبر ديس أن ما أزعج مهاجميه ليس «رامبو الشاعر والثوري» بل فقط لأنهم ليسوا هم من اكتشف هذه الصورة»، أي ثمة غيرة دعتهم إلى التشكيك بهذه الوثيقة.

في أي حال وبعد ستة أشهر من التعليقات والأبحاث، جاء الجواب قاطعا: إنه رامبو، وهي أول صورة له تظهر في عمر غادر فيه الطفولة.

السفير
10-10-2010