هيكل الزهر" لفاطمة ناعوت

زينب عساف
(لبنان)

فاطمة ناعوتبدهشة طفلة تمشي الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت داخل نصها، تكتشفه يداً بيد مع قارئها، معيدةً الى العالم حولها طزاجة اللحظات الأولى، من خلال طرح أكثر الأسئلة بديهية (من قبيل لماذا يكرر المؤذن الكلام نفسه كل فجر) التي هي في النهاية الأسئلة الوجودية الكبرى. في كتابها "هيكل الزهر" الصادر لدى "دار النهضة العربية"، تواصل الشاعرة والناقدة التي أصدرت حتى الآن نحو عشرة كتب بين شعر وترجمة ونقد، تجسيد رؤيتها للكتابة والعيش ببراعة الهندسة وصرامتها وفوضى الفن وتطرّفه. هيكل فاتن هو ما تدعونا ناعوت إلى زيارته، متقن ومحسوب بدقّة، متفلّت ومصاب بلوثة العبث والجنون، كأننا في هيكل كاهنات قديمات يحرقن الشموع والبخور لإلهة لسن متأكّدات من وجودها.

يعتبر البعض أن فاطمة ناعوت غير منشغلة بالأنا قدر انشغالها بهموم الآخرين وخصوصاً المهمّشين منهم. شخصياً، لا أميّز في نصّها بين الأنا والآخر، لأنها تنغمس في قصيدتها مع الآخر في هموم مشتركة من دون أن تطمس فرديتها التي هي الحجر الأساس في كل تجربة شعرية. في هذا المعنى، تشترك الشاعرة مع الآخرين في أخوّة وجودية ومصيرية ما يؤشّر الى تصالحها مع ذاتها. أو لعلها تتقمّص شخصيات كثيرة ليتاح لها معاينة نفسها وفهمها بشكل أعمق، وتالياً توسيع زاوية الرؤية لديها. على أي حال، ثمة دائماً تماسات وتقاطعات كثيرة في النص الذي بين أيدينا. ثمة خلفية ثقافية منوّعة وواضحة، تمرّر رموزها بين سطر وآخر، فتحضر فيرجينيا وولف ويحضر كفافيس، وتتخفّى شهرزاد خلف لياليها الألف، وفيفالدي داخل كهفه. ثمة أيضاً أدب رحلات نلتقط ملامحه في خلفية القصيدة التي تتجوّل بين القاهرة والمغرب واليمن، وتحمل شبهة دمشقية بين حين وآخر.

ناطورة الوقت

في بحثنا عن الأنثى في نصّ ناعوت، نعثر عليها بوجوهها المتعددة، فهي الموضوع تارةً والفاعل طوراً، الثائرة أو الطيّعة، الطفلة أوالمرأة، لكنها في كل الأحوال ناطورة الوقت والشاهدة على أن الماضي يلتهم كل شيء، لا سيما في صورة شهرزاد أو صورة الأم التي يحوّم ظلّها فوق القصائد وتخصص لها الشاعرة القصيدة الأولى من الديوان المهدى إليها. الأم في شعر ناعوت، هي نقطة البداية والنهاية، فالحياة توهب من خلالها وتُسترجَع من خلالها أيضاً: "تقف على عتبة الدار/ عكّاز في يدها/ تنتظر التابوت الذي أنا فيه". لذا، تخالف الشاعرة ناموساً طبيعياً يفترض وفاة الوالدين قبل ابنائهم، مستعجلة رحيلها الشخصي، وتاركة لأمها أن تتعرّف إليها وتعاين مرورها القصير ووجودها العابر: "هي ابنتي/ أعرفها من ثقب في الرئة".

إلا أن الشاعرة لا تتبنّى وجهة نظر "نسوية" في قصيدتها، بل ترسم للنساء، ومن بينهن هي، بورتريهات إنسانية متنوّعة ضمن محيطهن وبيئتهن، فلا تنتصر لهن ولا تتبنّى وجهة النظر الذكورية. بكلمات أخرى، يمكن القول إن فاطمة ناعوت أنثوية بالمعنى الواسع للأنوثة، بما هي انتصار للجمال ونظرة أكثر تسامحاً إلى العالم وبحث حثيث عن الكمال، لا بالمعنى الضيّق الذي تحتجز بعضهن قضية المرأة داخله. هذا ما نلمسه في مقاطع مثل: "لا بدّ أن تجرّب المرأة عادة أخرى/ غير التحديق في الماء".
رغم هذه الرؤية الشاملة، تستخدم الشاعرة غالباً صيغة التأنيث لدى توجيه خطابها، لا سيما في قصيدة "ألف لام ميم" حيث تقول: "أن تغلّفي حيطان بيتك بالفلّين/ كي تهربي من صوت موتاك ينادون عليكِ،/ فذاك يعني/ أنكِ/ زائدة عن الحاجة". كما أنها تفيد من كونها امرأة لتعاين الاختلافات بين الجنسين: "النساء يعرفن الزهر،/ والرجال/ لا يفطنون إليه/ إلا بعد أن يذوب بين أصابعهم"، ولغرس بعض الدبابيس ولفت النظر إلى الظلم التاريخي الذي تتعرّض له النساء، لا سيما في قصيدة "العفريت" التي تتميّز بحركتها المسرحية الجميلة والبارعة في تجسيد العلاقة بين رجل (تقليدي في الواقع وليس عفريتاً) وامرأته، حيث تقول: "تك تك،/ يصفّق،/ فتنبسط له أرضاً/ تنبت القمح والشعير والنارنج" أو "تسوّك أسنانه من بقايا الفطور والنساء". وتواصل الشاعرة توجيه صفعاتها في قصائد أخرى، متحدّثة عن نساء تدرّبن على ابتلاع الزرنيخ ومصاحبة كافكا، وأخريات ينسجن عباءات مما يضعنه كي لا تراهن المرآة عاريات، منتقدة تفكير بعض الذكور الكارهين للسان المرأة: "ظلّ على صمته/ بينما عقله يحاول رسم امرأة بلا رأس/ كي يضاجعها في هدوء".

أطرق الباب على الله

تجرّنا قصائد فاطمة ناعوت إلى اختبارات جديدة، إلى الإحساس بعقدة ذنب لجريمة لم ننتبه إلى كوننا نشارك في اقترافها والاستمرار فيها. نحن مذنبون مثلاً في قتل الأسماك والإوزّ وحرث التراب. لسنا "أرقى من الصيادين الأجلاف/ الذين لا يعبأون بجثامين الأسماك/ حين يلقى بها في القفّة"، ولا أكثر عنفواناً من تلك الإوزّة التي تساق إلى الذبح، ف"لما جزّ عنقها الأبيض/ نظرت إليه/ ولم تسقط/ قطرة دم واحدة". لكن سلوك الإنسان مرتبط أولاً بعلاقته مع الله الذي تراه الشاعرة قريباً ومتمتّعاً بصفات إنسانية: "فاطرق الباب على الله/ في الغرفة المجاورة،/ وخبّره أننا جياع". في معنى آخر، تعيد ناعوت تشكيل علاقتها مع الألوهة وفق مفاهيم خاصة، تطبّق تجاربها الروحية وتعبث كما يحلو لها. تقول مثلاً: "الفلاحون يضربون فؤوسهم/ في الطمي/ كي يختبروا قوة إبصار الله". كما تضع الشاعر في مركز الخلق مراراً، لا سيما في قصيدة "حين أغدو إلهة"، التي تعيد فيها ترتيب العالم وفق دينٍ شعري أكثر عدالة وجموحاً.
تحرص فاطمة ناعوت على إخفاء أحلامها تحت الأرصفة العتيقة، وتعود الى الإطمئنان عليها بين حين وآخر. هي أحلام البراءة والطفولة التي لا تريد أن تنقضي لأنها الجزيرة الأخيرة حيث يقطن الشعر. الشعر الذي تفهمه ناعوت كمقارعة للقدر لا بد أن يستمرّ حتى بعد رحيل الشعراء: "في ميتتي القادمة،/ سأجعلهم يحرقون جسدي،/ ويستبقون أظافري". هكذا يستمرّ الكلام بلا "خوف من رحيل الأحبّة، لأنهم رحلوا بالفعل"!

Zeinab.assaf@annahar.com.lb

النهار
11 مايو 2007