زينب عساف
(لبنان)

علي بدر، الغريب مقتحماً قصر الماضي شتاء العائلة"، عبارة استعارها الروائي العراقي علي بدر من بول فاليري، واتخذها عنواناً لروايته الصادرة حديثاً بطبعتها الثانية لدى "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، بعد طبعة أولى صدرت عام 2002 لدى "دار الشؤون الثقافية" في بغداد، بعد سنة واحدة من صدور أولى روايات بدر "بابا سارتر" (2001). هذه العبارة بما توحيه من سوداوية، ومن انغلاق وانعزال أولاً، تشكّل كوّة للإطلالة على عالم آخذ في الانهيار، بل محكوم به، هو عالم الطبقة الاريستوقراطية البغدادية في الستينات والسبعينات، أي بعد اندلاع الثورة. نحن إزاء عالم موميائيّ إذاً، منكفئ على نفسه ومصرّ على تجاهل مرور الوقت، او على اعتبار الحوادث الجارية مجرّد زوبعة في فنجان سرعان ما تنجلي ليعود الى الطبقة المرفّهة سابق مجدها وعزّها. لكن هذا لا يعني أن القارئ يجد نفسه أمام رواية توثيقية بالمعنى الدقيق للكلمة، لأن الكاتب لم يأخذ من الواقع ومن المجتمع البغدادي في تلك الحقبة أكثر من خلفية سفلية لصوغ حبكة يمكن أن تصلح للمجتمعات كافةً، طالما أنه اكتفى بالحدّ الأدنى من الأكلاف الروائية وحصر شخصياته في حيّز ضيّق أجبرها على التخلّي عن تصنّعها وزيفها. في كلام آخر، عزل بدر شخصياته عن العالم الخارجي وسجنها في محيط شبه مختبري ليتاح له الغوص في عمق معاناتها وأزماتها الوجودية. ولم يكتفِ بذلك، بل كيّف العالم الخارجي كي يبدو متوائماً مع تصوّرات هذه الشخصيات عنه، في لحظات احتكاكها البسيط به (كما في نزهة الغريب والمرأتين في شوارع المدينة التي لا تبدو شديدة الشبه بمدينة عربية).
الولوج إلى الرواية يتمّ من خلال صورة صامتة، هي صورة العمّة الميتة الموجودة في إحدى خزائن البيت العتيق، والتي هي في الواقع صورة تذكارية لحقبة كاملة. وباستخدام الفلاش باك، يستعيد الكاتب فصول الحكاية التي زعزعت أسس المنزل العتيق، الحكاية البسيطة التي لم تكن أكثر من ذريعة، أو نفخة على عالم الأوهام الهشّ الذي شيّدته سيّدة أربعينية تعيش وحيدة في قصرها المهيب مع خادمها الفارسي، وابنة أخيها التي أمضت حياتها في المهجر قبل أن تقرر العودة إلى الوطن، وقبور أفراد عائلتها المزروعة في الحديقة. امرأة "سوّرت" حياتها جيداً واختارت عالمها الذي تريد حتى لو كان في خصام مع الحاضر، تجبر الوقت على المرور في الروتين اليوميّ كي تشعر بوجوده، وكي لا تغدرها الحوادث وتصيب منها مقتلاً.

امرأة تخلّت عن العالم الخارجي أملاً في أن ينساها هذا العالم، تجد نفسها فجأة أمام الحقيقة الصاعقة والمرة التي يفتح عينيها عليها حضور مربك ومعذِّب لغريب "اقتحم" المنزل ذات ليلة ماطرة، وانسحب منه في مساء عاصف، تاركاً إياها مذهولة بالحقيقة الجديدة التي لطالما تعامت عنها: إنها امرأة من الماضي.
القصة ليست جديدة تماماً، أقصد قصة الحضور الطارئ الذي يغيّر البديهيات دائماً. الجديد هو نجاح الكاتب في نقل الإحساس الضاغط بالقنوط والرتابة والتكرار الذي تعيشه امرأة هي "أمينة" ذاكرة جماعية آيلة إلى التلف، ثم إحساسها بالخفة والمرح والسعادة إثر وقوعها فريسة حب سهل وإن يكن زائفاً. ينجح علي بدر أيضاً في "إغراقنا" داخل قاموس الطبقة الراقية، من خلال الوصف الدقيق والمفصّل لأنواع اللباس والشراب والمأكل والحلى. ولعل إصراره على تأنّق شخصياته الدائم وكيفية وصفه لتصرفاتهم المبالغ فيها، لا يخلو من شبهة "مولييرية" ساخرة تصل إلى حدّ تصنيم هذه الشخصيات وفضح تصنّعها. في هذا الإطار نفسه، يلعب علي بدر لعبته المتقنة مع عامل الوقت، فالسرد يسير بطيئاً في الفترة التي يكون فيها الغريب موجوداً داخل المنزل مع النساء الثلاث (العمة وابنة أخيها وزوجته)، بينما يسرع حتى الانهيار بعد انسحاب الغريب من حياة ساكنتي القصر.

يمكن القول إن السؤال هو البطل الرئيسي لهذه الرواية. السؤال بما هو طلب لحقيقة غير مستحب سماعها، أو بداية لمدّ جسور للمصالحة مع الواقع. في هذا المعنى، تنبني الرواية كلها على انتفاء السؤال، لأن هذا الانتفاء تحديداً هو سلاح العمة وأداتها الوحيدة في الانقطاع عن الحاضر. وفي هذا المعنى أيضاً، تنهار الرواية كلها في لحظة طرح هذا السؤال. اللحظة التي لم تكن مقصودة من العمة عندما ابتعدت عن سؤالها الأصلي للغريب ومفاده: "من أنت؟"، ودارت حوله للتخفيف من وطأته، لكن من دون جدوى. لأن لحظة طرح السؤال هي لحظة انفتاح باب الحقيقة الذي لا يمكن سدّه بعدها البتة. ولأن السؤال الواحد سينجب أعداداً هائلة من الأسئلة الأخرى التي لن ينجو منها أي تفصيل. هذا ما أدركه الغريب عندما آثر الانسحاب لدى سماعه التساؤل الأول. فاللعبة غير المعلنة بينه وبين العمة وابنة أخيها كانت التعامي المتبادل: هو يمثّل دور العاشق، وهما لا تسألان عن صحّة ادعائه القربى بهما. وعندما أخلّت العمة بالشروط انهار كل شيء على حين غرّة رغم محاولاتها اليائسة لإصلاح ما فسُد.

"من يعتني بشلال الصور والذكريات... كلكم تسافرون... كلكم تهربون"، هذه اللازمة التي يختار علي بدر أن ينهي روايته بها تبدو أشبه بلعنة أخيرة تتردد على لسان شخصيات عديدة ويختار الراوي أن يلبسها صوت العمّة. الراوي يقول إن قصة حب هي ما أطاحت العائلة وهدمت منزلها إلى الأبد. قصة حب ليست أكثر من غطاء لحياة متآكلة من الداخل.

النهار
الثلاثاء 19 حزيران 2007