(الغيوم التي في الضواحي" لمحمد علي شمس الدين)

زينب عساف
(لبنان)

محمد علي شمس الدينمن النقطة نفسها، التي كان الشاعر محمد علي شمس الدين حددها في مقدّمة "شيرازيات"، تنبع قصائد كتابه الجديد، "الغيوم التي في الضواحي" الصادر لدى "دار النهضة العربية". هذه النقطة الكائنة في مكان ما من الغيب، بين "القلب والعالم"، هي الحيّز الوهميّ الذي تختلط فيه جبلتا الشاعر الميتافيزيقية والدينية بالواقع، لتولّدا قصيدة بضّة عميقة يضطرم فيها دم الميثولوجيات المعتّق. وإذا كان شمس الدين كشف سابقاً صراحةً عن مفاتيح شعره الأساسية، الدم، الطير، النهر، الموت، البحر...، فإن هذه المفاتيح تصلح هنا أيضاً كشيفرة لدخول عالم الكتاب الشاسع حيث الأمراء وشعراء الأمس وشهرزاد والسندباد وليلى والسكارى والمخبولين بالهوى الصوفي والسبايا والأئمة وبغداد والمآذن والأحصنة والذئاب والدم والسمك نصف المريض، عالم ينبسط على مساحة قد تكون نفسها "أرض الحيرة" كما أطلق عليها الشاعر، المساحة التي "تمتد من الخابور ومفترق النهرين/ إلى أرض تدعى أين". أو يقع "عند تشابك الأحياء بالموتى"، بحسب قوله في قصيدة "الفراشة" المهداة إلى والدته المتوفاة.

من أبواب الموسيقى السبعة ينطلق الشاعر، الأبواب التي صنعها معبد، حسبما نقل شمس الدين عن كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني: "قال معبد، وقد سمع رجلاً يقول إن قتيبة بن مسلم فتح سبعة حصون أو سبع مدنٍ بخراسان فيها سبعة حصون صعبة المرتقى والمسالك لم يُوصل إليها قط، فقال: والله لقد صنعت سبعة ألحان كل لحن فيها أشدّ من فتح تلك الحصون". الألحان السبعة هي هنا قصائد سبع، وشمس الدين هو معبد، كما كان في كتب سابقة ديك الجن أو حافظ الشيرازي وفق لعبة المرايا والأقنعة التراثية التي يبرع فيها، كأنه هو الحيّ الذي لا ينفكّ يتشابك مع الموتى. تتوزّع هذه القصائد السبع على الأبواب الآتية: "باب الفتوح"، "باب الهواء"، "باب الجسد"، "باب الفلاسفة"، "باب ليلى"، "باب فاطمة"، و"باب الجنة". تقودنا هذه المداخل السبعة إلى مملكة الوهم واللايقين، حيث يشكك ملوك موتى بوجودهم (السابق): "أمدّ يدي/ نحو ملكي/ لأمسك أطرافه/ فلا أمسك إلا هباء/ فهل أنا يا إخوتي/ ملك من هواء؟"، في هذه المملكة يتربعّ الشكّ على العرش الحقيقي، وتصبح ليلى، حتى ليلى العاشقة المثالية، خائنة: "ولكن ما حيّر العقل/ حتى براه الجنون/ أن "ليلى"/ - التي متّ في حبها ألف عام -/ تخون". هذه المملكة لا تبتعد عن الراهن وإن كانت مأخوذة بماضيها، لأن شبهة الحاضر، بقدر ما هو امتداد للماضي، موجودة فيها أيضاً، من خلال حضور صور الحرب - التتمة لمأساة كربلاء في لبنان والعراق: "شممت قليلاً من الدم/ في أول الصيف/ فوق التراب/ ولكنني قلت: ريح وتمضي". وإذا كان شمس الدين نهل من التراث الديني للحديث عن الضحايا، فقد استخدم أيضاً المعجم التراثي نفسه للإشارة إلى المعتدين "شعب جلعاد"، مكنياً عن طائراتهم وأسلحتهم أيضاً ب"سيف جلعاد". على هذا الصعيد، لا بد من التمييز بين صورة الحرب اللبنانية وصورة الحروب العراقية كما تبدو في شعر شمس الدين، ففي حين تستند صورة الأولى إلى أرض تاريخية وتتحرّك في فضاءات حرّة متنوّعة: "وإنا هنا واقفون/ نسمّي المكان الذي نحن فيه/ بلاداً"، تظلّ صورة الثانية مسمّرة إلى ماضٍ لا ينقضي: "سأحمل مئذنة فوق ظهري/ ونهراً ألفّ على عنقي مثل شال.../ وأطوف البلاد/ لتبقى على عرشها شهرزاد". كأن اعراق شمس الدين هو أرض الأسطورة نفسها، الأرض الأصيلة للذاكرة، يقول: "والماء/ أجمل ما يكون/ إذا ما تدفّق في العراق/ فإنه من أصله يأتي/ ومن دمع الحسين جرى الفرات"، في ما يشبه التقاطع النشيدي مع قصيدة "أنشودة المطر" لبدر شاكر السيّاب.

حضور الطير في أشعار شمس الدين كرمز و"نسق" أحياناً، يشابه حضوره في الأساطير والأديان وحكايات الأنبياء. ولو أخذنا عناوين مجموعات الشاعر الاثنتي عشرة لوجدنا فيها للطير، أو ما يوحيه من علوّ وغيوم، حصّة كبيرة: "طيور إلى الشمس المرّة" (1988)، "أميرال الطيور" (1994)، "ممالك عالية" (2000)، "غيم لأحلام الملك المخلوع" (1977)، وليس أخيراً هذه المجموعة التي بين يدينا اليوم "الغيوم التي في الضواحي". وفي قصيدته التي تحمل عنوان "خماسية الطيور" يرتبط معنى الطير بالشبهة، والنكهة، والتخمين، والتشبيه. وهذه كلها ذات جذر واحد: اللايقين. فلنقرأ أولاً: "للريح الآن على الشجر/ نكهة طير عابر". وثانياً: "شاهدت على منقار الطائر شبهة موت أصفر". وثالثاً: "فكرت بأن كناريّ/ أصبح من اعدائي". ورابعاً فلندقق في تشبيه مناقير العصافير ب"حفّارات موت صغيرة". إذاً، للطير عند شمس الدين لا يقين يجعل منه مكمناً لكل لا متوقع من موت وعداوة... وهذا اللامتوقع هو الذي يرفع هذا الطير من أرضه المادية إلى سمائه الميتافيزيقية، أو فلنقل إن هذا اللامتوقع هو الجناحان اللذان يصعد بهما هذا الطير متنقّلاً بين شجيرات تحوّلاته.

zeinab.assaf@annahar.com.lb

عن النهار