(تتحدث عن كتابها "نون في المحراب":)

زينب عساف
(لبنان)

في كتابها الجديد "نون في المحراب"، الصادر لدى "دار الفارابي"، لا تخشى الباحثة أمينة غصن العبث بأبجدية جديدة، "الأبجدية التي وقفت طويلاً في الظلّ" على ما تكتب. هي محاولة لقول شيء مختلف إذاً، لا يعترف بالأنواع ولا يخاف الهتك والتحريض. شيء أنثوي خالص. شيء يشبه ثورة المحبرة على الريشة، أو "أسطورة" أخرى "مكتوبة باخضرار النون لا بشفرة القلم". نحن أمام لعبة أقنعة لا تنتهي إذاً، غابة رموز مستمدّة من الميتولوجيات والفلسفة والكتب المقدّسة. وإذا كان البعض يرى جرأة كبيرة في عمل مماثل، فإن أمينة غصن تعترف بأنها لم تقل ما أرادت قوله.
تقنّعت، ولم تقل ما كان يجب أن يقال، "لأنني لا أهب نفسي، كبرياءً مني".
حول هذا الكتاب كان حوار قالت الكاتبة فيه إنه (أي الكتاب) "ضد تسليع الجسد أو المرأة، حتى لو كان العاشق ربّاً للأرباب أو كاهناً نذر نذر العفّة"، شارحةً العنوان على النحو الآتي: "النون هي المحبرة والهوّة التي لا تنتهي، تخيف المرقم دائماً، المرقم الذي يخشى انغلاقها عليه أو انغلاقها دونه. يبحث، يتدلّى، يترنّح، ولا يبلغ إلا إلى الحلكة.

يخشى سجنه ويخشى ألا يصل ويخشى أن تطول الإقامة في الوصال أو في البعد. يدخل الرجل أعمى ويخرج أعمى، ويبقى السر، لأن النون وحدها تمسك بالقلم وليس العكس". تضع غصن عملها هذا في سياقه الواقعي بقولها إن "العالم العربي يغرق بدمه في العراق، لبنان، فلسطين، مصر... لكنه يطلّ بفتاوى النساء. جاك بيرك يقول إن الإنسان العربي الذي طالما قمعه الاستعمار وأذلّه وأخصاه لم يعد له من مكان يستعيد فيه شيئاً من هيبة أو رجولة إلا في تلك الزوايا الخفيّة والكالحة الظلمة حيث يحشر ضحيته ويمارس عليها عنفه، لعله يستعيد شيئاً من فحولته المفقودة. هذا العنيف والمحبط والخائب والمهزوم هو الذي لم تحنُ عليه أمه بحكايات العشق والعشاق، وتفتح مجاهيل مخيلته، لعلها تعوّضه السيف بالإبداع والكتابة والفن والموسيقى، فتكون له لغات لإلفة واحدة".

تضيف أمينة غصن أن هذا الكتاب جاء عمداً لئلا يشبه الروايات النسائية التي تسمّى روايات معاصرة أو حديثة، و"تثير بهجة الغرب بسقوط امرأة الشرق. لعل شيئا يعاد إليها. شيء مما انتهكته وسلّعته وبخّسته هي. الجنس أو الإيروتيكية أو الجسد هو القدسي والمحرّم، هو حالة تصاعدية لا سفلية، لا بدّ من الوصول إليها وليس انتهاكها. الوصول يكون شوقاً لا غاية. لكن، هل يبقى الشوق الى غدٍ؟

الجسد العالي

لن يكون الشوق إلا بالتأرجح بين الوصال وعدم الوصال. ويجب على المرأة ألا تتعلّق مرة واحدة ويشهّر بها، فهي ليست المسيح. وإذا استُهلكت أي تجربة فستستهلك مرة واحدة وإلى الأبد. لا يعود لدى المرأة حينذاك ما تفاجئ به. فالمرأة هي البياض. البياض المعلّق بين الذاكرة والنسيان. فإما أن تتسخ وتسقط، وإما أن تسطع وتبهر. هذا يعود إلى الطريقة التي تشِمينها بها. في هذا العمل، ثمة جسد يطلّ من عل ويستحيل على كاهن المحراب بكتبه ووصاياه أن يطلّ عليه من أعلى. لأنه قال: لا تزنِ وزنى".

بدم العذارى بنوا الهيكل

لكن لِمَ اللجوء إلى الأقنعة؟ ألا يحتاج الواقع المماثل إلى جرأة في طرح القضايا كما هي؟ تجيب غصن: "أنا مزحومة بالأساطير، وفيها أجد متعتي ولذتي لأنها مليئة بالآلهات والآلهة التي يمكن أن تؤنسن أو لا تؤنسن. الانطلاقة تعود إلى ما كان يسمّى لدى اليهود "العهر المقدّس" الذي كان يمارَس في الهياكل، على ما يقول أبو التاريخ هيرودوت، إذ كان يؤتى بالعذارى إلى عتبات الهيكل ويُترك للكاهن أن يختار الأجمل من بينهن، فلو انتقى إحداهن، يكون عليها الاختيار بين واحدة من تقدمتين: إما شعرها الطويل الذي تمنحه للمعبد مقابل حريتها، وإما بكارتها التي تعني امتهانها البغاء داخل المعبد. وفي الحالة الثانية، يقصدها الرجال من كل الأنحاء، ويُدفع لها أجرها، كي يتمّ بناء المعابد بدماء العذارى".

وتشرح غصن أكثر: "تاريخياً، المرأة هي المرأة. من كاهنة المعبد إلى شمخة في أسطورة جلجامش. أي هي الضحية الدموية، وهي محبرة الابداع، فلو لم يكن هناك حبر أو دم لما انغمس المرقم في ما هو غريب عنه، وما هو مصدر لإبداعه. في معنى آخر، المرأة هي المحبرة والدم".

عن تداخل الأسطورة التاريخية بالدينية، تُرجع غصن ذلك إلى التراكم. "تراكم القراءات، ومن باب البحث عن الأصول البعيدة التي لم يكن الدين إلا ظلاً من ظلالها. إذ استعاد أسطورة الإلهة الأولى والمرأة الأولى وحمّلها وحدها قلق المعرفة والنشأة والتكوين، ثم سمّاها شمخة وحواء ومسلينا، وراح يفتضّ أسرارها لعلها تبوح وهي لا تبوح إلا بالجرح، وما فيه من طقوس مثل طقس الريحان ووشمه، هو الذي يتضوّع وقد كُتب عليه ألا يتضوّع وأن يكتم السر. ولكن، أنّى له ذلك، وتأتيه العذارى لتفتح ساقيه وتتنشّق كل واحدة تعبها الذي لملمته في الأسحار وكثّفته بين الفخذين". تعتبر أن في تداخل الأسطورتين ما يشبه المحاكمة، "محاكمة رب الأرباب الذي لم يُقم ميزاناً للحب والعشق والوجد، بل كان ميزانه بضفّة واحدة هي ضفّة الإيروتيكية والجنس. فإذا غابت الضفة الثانية غابت المرأة عن الميزان".

الحب لغة الفرسان

تقول أمينة غصن إن الناس كتبوا تقنيات الحب وليس الحب نفسه. و"أنا هنا أحاول أن أقول ذاتي، وقد كان بودي أن أكتب صلاتي، ابتهالاتي لمن أحب. غير أني أعتبر الحب لغة الفرسان والفارس لا يخدع آخر، يطلّ دائماً في سطوع الشمس ويقاتل، ويمتطي صهواتها ويقاتل. في النهاية، انتهى الكتاب وكنت أعرف ذلك، لكني لم أقل، لم أتنازل للقول كي لا يفرح من يخون. بما أن الحب أعلى وأعظم من الخيانة".

ربما تتبع غصن في كتابها هذا سيرة المرأة. المرأة التي تعتبرها كائناً طقسياً، فهي "عليها أن تهتمّ بنفسها دائماً: الطيوب، الخفر، النظافة... وإلى ما هنالك من هذه الطقوس التي تشبه طقوس الطبيعة". وتصف غصن المرأة بالغريزية لا بالحيوانية، في حين تصف الرجل بالحيواني، مضيفةً إن "المدنية وُجدت لتهذيب الجنسين معاً. والمرأة قد تؤثر فجاجة الرجل الطبيعي الريفي على فجاجة المتمدّن. قد تقبل من ابن الوعر وعورته، لكن لا يمكن أن تقبلها من ابن المدينة".

وتختم أمينة غصن إن هذا الكتاب هو أيضاً نوع من الوفاء للنساء اللواتي ربينها وأحطنها، ولا سيما والدتها. معلّقةً: "يخطر لي أن ثمة مقدّمة ضد تاريخية في إمكانها أن تفضح كذب المؤرخين وإتلافهم المخطوطات وصمتهم عن الجرائم المرتكبة، مثل جرائم الحريم، والأدونيات، والختان والقتل وغيرها من جرائم الديانات التي رفع بعضها من شأن المرأة وحطّ بعضها الآخر من قدرها".

Zeinab.assaf@annahar.com.lb

النهار
يونيو 2007