("حمامة على بنت جبيل" )

زينب عساف
(لبنان)

حلمي سالمبتسامح الأب يكتب حلمي سالم، وبقلم أب. كما لو كانت الكلمات بناته أيضاً، بنات شاردات يسوقهن بعذوبة، حتى حين يعبّرن عن القسوة والموت والدمار. يثير لدينا هذا الشاعر في ديوانه الجديد، "حمامة على بنت جبيل"، الصادر حديثاً لدى "دار النهضة العربية"، شعوراً بممارسته حدباً أو انحناءً من نوع ما على نصّه. كما لو كان يجمع كفيّه ليحمي كائناته الشعرية الهشّة أو "بناته" الكثيرات: من الناشطة الأميركية الشهيدة راشيل كوري، إلى المصرية زينب تعلب، إلى ابنة الجنوب الصغيرة، إلى ابنته رنيم وحفيدته جمانة. حلمي سالم يغضب أيضاً، يغضب كثيراً، ويصوّب فوّهة الشعر إلى السياسة والساسة، يحمّل القصيدة هموماً عامة بقدر ما هي خاصّة، بل يريد من تلك الأخيرة أن تصنع تأريخاً بديلاً مختلفاً عمّا خطّته القوة العمياء. في هذا المعنى، ترخي الأوضاع السياسية المتردّية في العالم العربي ومصر ولبنان بظلّها على قصيدة سالم، من دون أن ترهق هذه القصيدة التي تعرف جيداً متى تنفلت وكيف. وإذا كان الشاعر قال في إحدى مقابلاته إنه "مواطن أولاً" قبل أن يكون شاعراً، معترفاً بأنه يختار أن يؤدي ضريبة آجلة لتسجيل موقف سياسي أو ثوري، ومتوقعاً "أن يأخذ ذلك من شعرية الشعر قليلاً أو كثيراً"، فإن المباشرة هنا لا تأخذ من شعرية قصيدته أو تعيبها. على العكس من ذلك، يحاول في ديوانه هذا أن يصنع شيئاً مختلفاً داخل ما يسمّى خط القصيدة الوطنية أو السياسية، متسلّحاً بباعه الطويل في مجال التجربة الحداثية وقصيدة النثر تحديداً. هذا "المختلف"، أراده سالم من خلال اختيار مداخل أخرى للقصيدة، غير تلك التي يسمّيها "رئيسية" أو "معلنة". هو دخولٌ من الباب الخلفيّ إذاً، الباب الأكثر التصاقاً بالفردية وبالهموم الإنسانية الصغيرة.

وتأكيداً للأبوّة التي تحدّثنا عنها، اتخذ حلمي سالم من بنت جبيل (تيمناً بالابنة) عنواناً للديوان، تحيّة لأبناء البلدة الصغيرة "الذين قدّموا قصصاً بليغة في الصمود أثناء العدوان الإسرائيلي". وهذه ليست المرة الأولى يكتب فيها الشاعر للبنان الذي سبق له أن عايش حروبه الكثيرة، منذ حصار بيروت في العام 1982، حين أصدر كتابيه: "الثقافة تحت حصار بيروت" الذي عرض فيه لأوضاع المثقفين اللبنانيين والعرب في ظلّ الحصار، و"سيرة بيروت" الذي ضمّ قصائد شخصية مكتوبة تحت الحصار.

يخصّ الشاعر الناشطة الأميركية راشيل كوري التي دهستها جرّافة إسرائيلية في العام 2003 أثناء محاولتها منع هدم منزل فلسطيني، بالقصيدة الأولى المعنونة: "حديث سائق الجرّافة"، حيث يتقمّص شخصية السائق وينجح من خلال قلب الأدوار في إيصال الرسالة بطريقة أكثر تأثيراً، فيقول على لسان السائق: "هذه البنت مدججة/ بيدين تخطّان أكاذيب عن الواحة/ في الصحراء"، ويستمرّ في لعبته هذه إلى ما قبل ارتكاب الجريمة بقليل: "أتقدّم صوب البنت الواقفة أمامي/ كالتفاحة تنتظر القضمة"، ويتابع أثناء ارتكابها أيضاً: "أدوس الجسد الغضّ بجنزيري/ (والجسد الغضّ شهيّ ريّان)/ فينبعج ذراع بضّ/ (سحقاً للأذرعة البضّة في الأرض)/ ويتفسّخ نهدان عفيّان...". نلاحظ هنا كيف تلحق القصيدة بالصورة في معنى مواكبة العنف اللفظي للعنف الحقيقي، وصولاً إلى ختام المشهد حيث ينصهر العنفان من خلال ذوبان الكلمات في الجسد المدهوس: "حتى إذا ذابت في الدم رسائلها الفضّاحة". في هذا المعنى، يمكن القول إن الشاعر يعيد تركيب الحوادث بكاميرا القصيدة من جديد، محافظاً على تتابعها الكرونولوجي، ومنهياً إياها في مكانٍ مجازيّ يصحّ فيه اختلاط الدم بالكلمة من خلال صورة غير معهودة. هذه اللهجة العنيفة تخفت قليلاً في قصيدة "حمامة على بنت جبيل"، التي تتميّز بنبرة هادئة تحمل حزناً بقدر ما تحمل فخراً خفيضاً: "تنهض زينب من تحت الردم،/ مغبّرة بالزعتر والسمّاق (...)/ تنتصب صبايا شرقيات يدرأن/ البارجة برمش العين".

في قصيدة "بعض من سيرة بهلول"، يغوص الشاعر في ذاكرة مصرية مثقلة، ليعيد بعث الأب والخفراء والخديويين وأم كلثوم والفقهاء، وليبحث في خيال متسكّع، هو بهلول، عن صورة عتيقة لمصر لم تتحقق. هذه القصيدة هي إذاً توثيق لسيرة ذاتية مرتبطة بانكسار أحلام وطنية، يرسم فيها الشاعر بورتريهاً شخصياً: "سيكون في عينيه لاعب يخفيه بالكوميديا"، ويلامس بسخريته السوداء حدود المرارة، من دون أن يجد أي منفذ في نهاية المطاف: "حطّ الحمام،/ وحامض الكبريت مستقبل الشعراء". بعدها، يفصّل أكثر في المشهد المصري، فيعنون إحدى قصائده "زينب تعلب"، مقدّماً الى القارئ هذه المرأة التي "تعلّق الماريونيت الضحوك/ في شارع المنصور محمد،/ حتى يظنّ الباعة الجائلون أن الحياة جميلة".
رغم كل شيء، يبقى للفرح هامشه في هذا الديوان. فرح شخصي يجلو سماء القصيدة الملبّد لتبزغ نبرة أخرى فيها الكثير من حنان ممزوج بخوف الأب العطوف الذي يرى بعضاً منه في ابنته، فيقول عنها إنها "بعض من لحم الرجل المعتلّ،/ وبعض من عزّة عائشة"، معبّراً في لقطة مؤثّرة عن لحظة التخلّي عن الأبناء لصالح حياتهم الخاصة: "كبرت في العرس رنيم". ثم يختار للختام الحديث عن الوليدة المشرقة كمعجزة من العتمة: "بزغت في الليل جمانة/ فخذي ماء العين،/ وشريان الصدر،/ وأوردة القلب وخفقانه". هذه الولادة تشكّل قيامة جديدة للشاعر أيضاً: "فإذا العمر الشائخ يتجدّد كالعنقاء".
حلمي سالم المؤمن بأن الإيديولوجيات لم تسقط على عكس ما يشاع، وبأن الالتزام لا يقتل القصيدة، يثبت ذلك ببراعة في هذا الديوان كما سبق له أن فعل في "سيرة بيروت" و"الأبيض المتوسط" و"تحيات الحجر الكريم". الشاعر الذي عايش سقوط الحلم وجد نفسه أعزل إلا من بشريته وفرديته في التصدّي للهموم الكبرى بعدما انصرف عنها كثر من زملاء الأمس المنتمين إلى جيل السبعينات، لكنه رغم ذلك مصرّ على المنازلة، على الاحتفاظ باسمه الأول: حلمي. والثاني أيضاً.

zeinab.assaf@annahar.com.lb

النهار
30 يونيو 2007