زينب عساف
(لبنان)

سيف الرحبيمن بحر العرب إلى بحر الصين، سألقي التحية على قراصنة ينتظرون الإعصار" العنوان طويل، وقد يكون قصيدة لديوان الشاعر العماني سيف الرحبي، الصادر حديثاً لدى "دار النهضة العربية". قلت عنوان طويل، وكان يجب أن أقول: عنوان فسيح في المعنى، يسمح للصورة أن تتمدد خارج كادر الكلمات، وأن ترسم لها صوراً موازية، أو أن تكون أصلاً ذات أفق لا يعترف بمسطرة الأحرف. لدينا بحران إذاً، بحر العرب وبحر الصين، وما بينهما تفصل هذه ال"من" وال"إلى". إذاً، ثمة رحلة، وثمة تحية موازية لقطّاع البحر (القراصنة) الذين يرون إلى الإعصار كمسافر يمكن سلبه. نحن أمام شعر رحلة، إذا جاز التعبير. شعر غنيّ بالمشاهدة والدهشة والسفر. شعر ذو دفّة وشراع وقبطان. ولأنه كذلك، فهو مرصوف بالأمكنة والجنسيات: الجزائر، الأمازون، عُمان، بحيرة فيكتوريا، جبال جرجره، إلخ...

قصائد سيف الرحبي في هذا الديوان تتصف أولاً بشساعتها كما أسلفت. إنها نوع من امتداد لا يتوقف عند حدود الأفق، لذلك تتميّز بغياب التكثيف الذي أعطى فسحة لاستراحة البصر التخييلي لدى القارئ، فيسرح في مساحة الصورة الواسعة. في هذا المعنى، يمكن القول إن النص ينبع من راحة داخلية لدى الشاعر، من تمكّن يشبه الاستسلام لشمس الشاطئ، أو لعله يخرج من صفاء اللامبالاة أو من فضاء جوّاني رحيب يحاكي الصحراء في امتدادها. بكلمات أخرى، يكتب سيف الرحبي "اليومي" بما هو فعل أرق نهاري، يجدّ في البحث عن تفاصيل ونتوءات وتمايزات، سرعان ما يذيبها في بعد واحد هو البعد الأفقي الذي يرمز ربما إلى مصالحة ما مع الذاكرة، إلى حكمة "ما بعد العاصفة". في هذا المعنى تحديداً، يتعامل الشاعر مع مشاهد الطبيعة حوله فيحوّلها لوحات زيتية ذاتية مقتطعة من زمنها من دون الوقوع في شرك الرومنطيقية، فيقول عن زهرة الأوركيد مثلاً إنها "عادت بعد مأتمها الطويل/ لتغني مع عصافير الحديقة". تلك العصافير، العائدة بدورها، هي اختصار لليومي لأنها "تحمل الفصول بين أجنحتها".
بهذا الجمود الذي يشبه السأم أيضاً، يتعامل مع الأشياء، كأن يقول عن الجدار حيث عُلّقت صورة فيلليني، إنه "موجود قبل استواء الأرض". هكذا، بين التأمل والعيش يكتب الرحبي نصوصه متخذاً كلاً منهما ذريعة للآخر. كأننا إزاء لعبة أخذ وردّ لا تنتهي. ومن خلال هذا التداخل الدائم، تخرج قصيدة ملتبسة ومتهكّمة. ولعل هذا التداخل هو سبب عدم الوضوح في المشاهد التي يسودها الضباب في أحيان كثيرة. هذا ما يظهر في عبارات مثل "غبش المرآة الغابيّة"، أو "الظهيرة المفعمة بالسخام".

الموت في هذا الديوان هو دائماً قرين الحب وتوأمه الحنون، هو الوجه الآخر المخفي حيناً أو الظاهر حيناً آخر له. ليس ذلك فحسب، بل إن شبهة الموت تلاحق كل مشهد وترقد في كل زاوية من زوايا القصيدة، كما لو كان توقيعاً أخيراً يمهر كل شيء، في تلك اللعبة المنطلقة "من شقاء الطفولة الموصول بحبل الشيخوخة"، والعبثية ك"صخرة سيزيف المتناسلة منذ قابيل وهابيل". هذا الموت هو موت فردي، "وجوه أصدقائي الموتى/ تظهر من خلال الموج"، بقدر ما هو موت عام، لأن الجنازة "واحدة/ وإن تنوّعت الأماكن والطقوس/ جنازة البشرية جمعاء/ يدحرجها الطغاة والجلادون". وسط هذين الموتين، يقف الشاعر حائراً، يراقب "أخطاء الآلهة في الولادة والموت"، مخطوفاً بجلال الموت الذي يصفه ب"كمال الحكمة" و"ذروة الجنون"، أو ربما المطهر الوحيد الذي تليه الحرية: "سأصفّي روحي من دويّ الذكريات/ لتحلّق خارج الأزمنة والمدن/ خفيفةً، مرحة كروح بحّار تجاوز خطر العاصفة".

على الجانب الآخر للموت، ينام الحب كخيال سعادة سابقة، كأول الذكريات امّحاءً واكثرها هشاشة. على هذا النحو ينظر الشاعر الى العشاق ويرى "خيالاتهم الناحلة، ملاكاً حارساً من صدمة الفراق". بينما تحضر المرأة كطيفٍ عابرٍ في منام. طيف قد يتجسّد في صوتٍ "معجون من طفولة وشهوة" أو يدٍ تلوّح في "الهواء الجريح". لا يطلب الشاعر من الحب أكثر من بعض هدوء للروح: "أيتها السكينة/ لتكوني خاتم زواجي".

قلت في ما سبق إن شعر هذا الديوان هو شعر مساحات ومشاهد، لكنه أيضاً شعر كائنات تذوب هي الأخرى في "أنا" كلّية مهيمنة. كائنات غريبة رغم إلفتها، تخلع القصيدة عليها جناحاً من غموض محيّر، كما في: "لسعادة حيوان يغطس في الصقيع/ معانقاً أنثاه/ في ذلك الجريان الشفيف لسديم المياه". أو كائنات واضحة تحمل دلالات غير معهودة، كالنسر الذي يختزن الزمن مثلاً: "بيضة النسر الأول/ قبل أن تحلّق ذرّيته باتجاه الأعالي".
في الحديث عن الزمن، نلمح في قصيدة الرحبي دائماً ملامح ال"قبل" وال"بعد". ثمة هذا التقطيع الزمني الذي يستثني الحاضر ويقصيه، واضعاً القارئ في حال من الترقّب، منذ العنوان "ينتظرون الإعصار"، وحتى القصائد التي ترسم لقطات ثابتة لقلق الما قبل واستسلام الما بعد، كما في "منصّات النيازك قبل الانطلاق" أو "لآلئ وجزر طمرها الإعصار".

وبما أننا إزاء شعر سفر واغتراب دائمين، يصبح للأمكنة جلود ومسامات تتيح لها أن تصرخ هي الأخرى، كما في: "ينتحب الجبل من هول الفقد"، أو أن تحلّ مكان الأشخاص، كما في: "أفتقد المكان الذي تعيشين فيه/ حتى لو لم أركِ". يمكن الأمكنة أن تمرض أيضاً وتموت، كالمدينة التي يصوّرها الرحبي بالآتي: "هذه المدينة بأوقاتها الخربة/ المنذورة للهلاك/ تنمو فيها البنايات والأبراج كسرطانات". في هذا الإطار، يظلّ للبحر رائحة المكان الأصلي، ربما لكونه مكان عبور أكثر مما هو مكان استقرار: "بحار ما زالت أمواجها/ تزبد في الذاكرة".

في النهاية، من أصقاع رحلة الشعر الطويلة التي يقطعها الرحبي لا يبقى سوى الشعر نفسه، كلمات لها زبد ومرافئ، قراصنة وبحّارة. لأن إيطاليا، أو الهند، أو عُمان، ليست سوى "أصقاع تُنجب أخرى"، ولا يلمّ شتاتها غير خيال الشاعر "المدبوغ بشموس طالعة". هكذا، تجتمع "من" ب"إلى"، ويصبّ بحر العرب وبحر الصين في بحر واحد هو بحر القصيدة الحرّ.

Zeinab.assaf@annahar.com.lb

النهار
يوليو 2007