- ملف عكاظ

السيرة الناقصة - سرجون في ليل الذئاب (1)

هاشم الجحدلي
(جدة)

سركون بولص، أو سرجون حسب اللغة الاشورية، شاعر يبدو كأنه خرج للتو من اساطير بلاد الرافدين وملحمة جلجامش وفضاء بابل وارووك، شاعر بليغ حد الصمت مهاجر كأنه عوليس هذا الناس، حاضر في أقصى حالات غيابه. هذا الشاعر الملفت، الذي نال الاعجاب من الجميع، بالرغم من أن البعض اعتبره حالة اسثتنائية حد ان الاقاويل عنه تجاوزت الكتابة عن شعره كأنه والقصيدة التحما فصارا نصا واحدا. هذا الشاعر رحل في الغربة، او المنفى الارادي، هناك في الصقيع الاوروبي الذي منح للعراقيين الملاذ.. والمكان الأخير للموت رحل مثلما رحل جان دمو.. وآخرون. وفي برلين كانت النهاية الأولى لبدايات كثيرة، كل من رآه هناك توقع مأساة كارثية سوف تحدث.. ولهذا كتب الشاعر الكبير سعدي يوسف في مستشفى برلين في تموز هذا العام، وفي الجنوب الفرنسي، في مهرجان لوديف تحديدا، التقى سركون لقاء غريبا .. كنت اعرف انه في لوديف لكنني لم أجده في الأيام الأولى انطلقت باحثا عنه في الفنادق والمنازل بلا جدوى، أنا أعرف انه مريض وانها بحاجة الى انتباه واهتمام لم اعثر عليه في هذه البلدة الصغيرة التي لا تصلح ان تكون بوابة حتى لنفسها سألت عنه أصدقاء فلم يجيبوا.. عجبا.. وفي صباح باكر عند مخبز يقدم قهوة صباح رأيت سركون جالسا على الرصيف كنت مع اندريا، قبلته: أين انت؟ كان شاحبا مرتجفا من الوهن.
هذه هي ملامح اللحظات قبل الأخيرة ولكن قبل ان يستكمل فصل النهايات لا بد ان تستعيد ملامح البدايات ويسعفنا في ذلك الحوار الطويل الذي اجراه الشاعر خالد المعالي معه.. واستمر لجلسات عدة ونلتقط من الحوار أهم المحطات من هذه السيرة الصاخبة.. الضاجة المليئة بالشعر.. والسفر.. والاصدقاء.

الحبانية والولادة

ولدت في عام 1944 على ضفاف بحيرة الحبانية، واقدم ذكرياتي.. اتذكر جلوسي أمام نوع من الكوخ الصفيحي، وكانت بيوتنا التي لا تزيد عن عشرة، كما اتذكر، تقع على ضفة البحيرة اتذكر، اذن، تلك الشمس وتلك الامواج والسكون الشامل وأنا جالس على صخرة اضرب بحجر على عظمة لاستل منها النخاع وامتص ذلك النخاع بلذة حقيقية لا زلت اتذكرها.

عائلتي

ترتيبي في العائلة الثالث قبلي اخ أكبر واخت وأنا وبعدي طبعا اخ آخر واخت اخرى.
وكان الوالد يعمل للانجليز الذين كانوا في هذه الفترة وفي هذا المكان الذي نتحدث عنه قبل ان ننتقل الى الحبانية بذاتها الى البلدة نفسها، لكن هذه (دسكرة) صغيرة جدا ملحقة طبعا بمجموعة من الانجليز. أتذكرهم كأشباح وردية يعيشون في بضعة قصور وأحد هذه القصور كان يقع فوق الماء مباشرة.

خالد العالي: هل هذا يعني انك ولدت هناك؟ حتى اقامت عائلتك في الحبانية؟

- بعد سنة او سنة ونصف من هذا الوقت الذي اتحدث عنه الآن، البحيرة -لكي اوضح الامور- تقع على مسافة 20 دقيقة أو اقل من البلدة الرئيسية نفسها وكان هذا جزءا من المعسكر او المعسكرات (كنا مستعمرين طبعا)، كانوا يعيشون فيها، هم الانجليز وعوائل الاشوريين التي جيء بها الى الحبانية كلاجئين وكانوا قبل ذلك في عدة مناطق عاشوا في اماكن مثل معسكر الهنيدي وحكارى في شمال العراق واكثر من عاشوا في الحبانية جاءوا من الشمال حيث كانت معارك مشهورة ومذابح الاشوريين التي اشترك فيها بكر صدقي والاكراد والفرس والاتراك والعرب وهي مذابح مشهورة تاريخية واكبرها مذبحة السميلي وقد كتب عنها الكثير ومنهم مصطفى جواد، وإذن جيء بالاشوريين الى الحبانية حيث اصبحت فيما بعد نوعا من المقر الرئيسي لهم وبقيت عائلتي هناك الى سنة 1956 وبعد ذلك الى كركوك.

الدراسة

دخلت المدرسة الابتدائية في الحبانية وكانت هناك مدرسة واحدة وكنت اتذكر حافظا جيدا للشعر منذ البداية. قاطعه خالد المعالي هل تتذكر انت البياتي؟ أنا لا اتذكر البياتي. اتذكر معلمين كثر من حيث الشكل فكيف لي وأنا في ذلك العمر ان اعرف ان هذا شاعر اسمه عبدالوهاب البياتي؟ لكن البياتي نفسه عندما التقيته أول مرة آنذاك وكان في عام 1985 احتضنني وأكد لي انني كنت أذكى تلاميذه في الصف حيث كان يدرس هناك.

أنا والعربية

في البيت نتكلم العربية ايضا، أمي من الشمال من الموصل ولغتها عربية بالاضافة الى انها تتكلم اشورية الكلدان، لكنها تربت على اللغة العربية بلهجة نقية وأكثر المسيحيين في الشمال وخصوصا الكلدان يتكلمون العربية بشكل ممتاز لذلك فأمي كانت سببا في ان اللغة العربية كانت ترن في آذاني منذ البداية كما اعتقد الآن بحيث انني كنت كما قلت منذ البداية منذ الصف الثاني والثالث في الابتدائية كنت متميزا عن اقراني التلاميذ الآخرين.

الذهاب الى كركوك

الاشياء الجديدة الغريبة تلك التي واجهتني في كركوك كانت بالنسبة لي آنذاك جديدة حقا، كركوك مدينة قديمة جدا بينما الحبانية نوع من المعسكرات كما قلت نوع من المدينة الصغيرة ليس فيها اي بناية او معمار له نوع من التاريخية، بينما كركوك كانت أشبه ما تكون بالتاريخ وقد تمثلت في بنايات كقلعة كركوك التي تواجهك على الضفة الثانية من نهر (خاصة صو) كما يسميه التركمان (واسمه القائم) وهو نهر يابس اكثر ايام السنة.
كان والدي يأخذني معه احيانا الى العمل حيث كان يخترق السياج ويشتغل مع الانجليز في مقراتهم وكنت كثيرا ما اسمع الانجليز يتحدثون حتى والدي الذي كان يعرف كلمات متواضعة من اللغة الانجليزية.ان التحديات التي وجدتها في الازقة عند انتقالنا الى كركوك من اطفال شرسين اصبحت بالنسبة لي نوعا من التحدي الشرس اللذيذ الذي يستفز طاقات اخرى كانت كامنة الى حد الآن وكركوك مدينة فَضة فيها - مثلاً - اطفال تركمان كانوا شرسين بشكل لا يعقل ولذلك كان التحدي كبيرا.. معارك، شجارات، وكما تعرف ان الاطفال يؤلفون نوعا من العصابات لا بد لهم من ذلك، وحياة كركوك كانت عصابات صغيرة تقابل عصابات اخرى هذا هو قانون الطفولة واعتقد انه ما زال ساريا على جميع اطفال العالم.

****


عَظمة أخرى

سركون بولص

«المدينة التي ليست لها كلابُ حراسة
يحكمها ابنُ آوى».
مثـل سومري

الكرسي
كرسيّ جدّي ما زالَ يهتزّ على
أسوار أوروك
تحتَـهُ يعبُرُ النهر، يتقـلّبُ فيهِ
الأحياءُ والموتى

أبي في حراسة الأيّام
لم تكن العَـظمة، ولا الغُراب
كانَ أبي، في حراسة الأيام
يشربُ فنجان شايه الأوّل قبل الفجر، يلفّ سيجارته الأولى
بظفْر إبهامه المتشظّي كرأس ِثـُومة.
تحت نور الفجر المتدفّق من النافذة، كانَ حذاؤهُ الضخم
ينعسُ مثل سُلحفاة زنجيّة.
كان يُدخّن، يُحدّقُ في الجدار
ويعرفُ أنّ جدراناً أخرى بانتظاره عندما يتركُ البيت
ويُقابلُ وحوشَ النهار، وأنيابَها الحادّة.
لا العَظمة، تلك التي تسبحُ في حَساء أيّامه كأصبع القدَر
لا، ولا الحمامة التي عادت إليه ِبأخبار الطوَفان.

حَصاة

في اليوم التالي للطوفان
صباح ٌ راكد، وفي قعر العالم دمعة، متجمّدة
مثل حَصاة يتيمة.
يذهبُ الإعصار بكلّ شيء ، بالنخلات والبيوت
بالقوارب والدرّاجات والمنائر، وتبقى
هذه الحصاةُ في مكانها، متألـّقةً بخُفوت
لأنّ يدَا لمّعتْ صلعَتها كماسح ِ أحذية:
ها هيَ تحت قدَمك، دُس عليها إذا شئت، ادعسْ بقوّة.
ثمّ اعبُرْ. لا تخَفْ.
إنّها، بين الحَصى، ليست أكثرَ من حَصاة.

* القصائد الأولى من ديوانه الجديد الذي سيصدر قريبا عن دار الجمل في 136 صفحة

عكاظ
26/ أكتوبر/2007

****

- ملحق النهار

سركون بولص عائداً الى مدينة أين

شوقي نجم
(لبنان)

يحار المرء كيف يكتب عن الشاعر الراحل سركون بولص (1944 – 2007). مصدر الحيرة هو شعر الشاعر وحياته، وسفْر خروجه على كل شيء. فهو انشغل بالتمرد في الحياة وعليها، ومارس التشرد والترحال عن اقتناع، ولم يكف عن تجديد معنى القصيدة والبحث عن اللامكان في كل من الحياة والقصيدة البوهيمية المريرة، ولم تكن قصيدته الا بنت ترحاله. ثمة علامات خاصة وساطعة يمكن التنبه اليها في حياته ومشروعه الشعري، الذي صدر له فيه "الوصول إلى مدينة أين"، "الحياة قرب الأكروبول"، "الأول والتالي"، "حامل الفانوس في ليل الذئاب"، "إذا كنت نائماً في مركب نوح". كما صدرت له مختارات شعرية مترجمة بعنوان "رقائم لروح الكون" ومجموعة قصصية تحت عنوان "غرفة مهجورة" باللغتين العربية والألمانية، فضلاً عن سيرة ذاتية بعنوان "شهود على الضفاف"، وترجمات لإيتل عدنان. وقريبا يصدر ديوانه "عظمة اخرى لكلب القبيلة"، لدى "دار الجمل". هذا المقال يلقي الضوء على شيء من هذه العلامات.

1

من يقرأ ديوانه الأول "الوصول إلى مدينة أين"، يلاحظ ان الكلمة الأولى في الكتاب هي "وصلت" والكلمة الأخيرة هي "ذهبت". فكرة الوصول الى "مدينة أين" محتجزة بين هاتين الكلمتين. في البداية نصل، لكننا في النهاية نذهب ولا نصل الى أي مكان لأن ليس هناك أي مكان. المسألة هذه تلتقي بحسب سركون بولص مع قول القديس أوغسطين أنه "ليس هناك مكان نحاول أن نذهب ونجيء اليه ولكن ليس ثمة مكان". هذه العبارة كانت حاضرة في مجموعة سركون بولص الأولى، فهو كان يبحث عن "اماكن لم يرها احد، الا نائماً مخموراً". يعتمد على المفارقة المكانية، وكل امكنته داخلية، متخيلة، حلمية واسطورية. وفي بعض الحالات، هو يحوّل جسده الى مكان، ثم يروح يجزّئ هذا المكان فيجعل من اليد او من اي عضو آخر كوناً واسعاً، محاولاً ابتداع الغرابة واختيار اللامكان في التعامل مع الاشياء. مقاربة تؤكد انتماء ذاته إلى حرية الامكنة التي أحبّها، اذ قال ذات مرة: "هكذا صارت حياتي، أشبه بجغرافيا لا يمكن تفسيرها بالمواقع والأمكنة"، وهو ينشد في احدى قصائده: "سافر حتى يتصاعد الدخان من البوصلة"، بمعنى ان يصل المرء الى اللامكان والضياع، او اللاوعي في الشعر.

2

كانت بلدة الحبانية، غرب بغداد، مسقط رأسه وملاذ الطفولة الأول. تنطوي على تفاصيل ذاكرة مثقلة بمشهديات ربما كانت مصدر الالهام لدى سركون بولص، ومصدر لغته. هكذا، تشكّلت عنده رؤية المكان وتناقضاته بين الصحراء وبحيرة الحبانية والاشجار التي غرسها الانكليز في زمن الاستعمار. وقد لازمت سركون فكرة "الصياد" التي يطلقها على الشاعر، فهذا الأخير بالنسبة إليه هو "صياد رؤى" ومكتشف ملاذات وحالم يقتنص نجوماً حروفية من سماءات شتى. يؤرخ سركون بولص لاول قصيدة كتبها، فقد كانت عن صياد وهو في الثانية عشرة من عمره، ولم ينس تلك القصيدة لأن فكرة الصيد تنطوي على مفهوم الشاعر الحقيقي في رأيه. أي أن الشاعر يقف أمام البحر كل صباح ويدلي "بشصه" في الماء لعل هناك سمكة عابرة، ذلك ان الشاعر هو صياد. اختار سركون الصياد من دون أي وعي، وكان أصغر من أن يكون واعيا بما يفعل آنذاك. وتستمر البدايات وليس ثمة نهاية للشعر، فالشاعر هو دائما بداية. يقول سيزار بافيزي: "ليس لنا سوى أن نبدأ". وهذه هي حال سركون بولص الذي كتب الشعر مبكرا، وفي مفهومه أن الشعر نوع من السحر الذي من الممكن أن يغيّر حياة كاملة، كما قصد ذلك ريلكه في قصيدة له عندما قال "عليك الآن أن تغيّر حياتك".

3

لا يمكن ذكر اسم سركون بولص من دون أن نستعيد "جماعة كركوك" التي ضمت أكثر تجارب الشعر العراقي الستيني حضورا: سركون بولص وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي وجان دمو وصلاح فائق. اجتماع هذه الكوكبة من الأسماء الشعرية الموهوبة في مدينة صغيرة وبعيدة عن بغداد، منح الجماعة خصوصيةً وفرادةً إضافية. معظم هؤلاء كان يتقن اللغة الإنكليزية، وهذا ما أفسح لهم المجال للذهاب مباشرة إلى التجارب التي كانت الحداثة العربية بالكاد بدأت بترجمتها وتبنّيها. كانت كركوك بالنسبة الى سركون بولص هي بداية الكتابة، وكانت المنبع والمكان الذي فتح فيه عينيه على الشعر ومواقفه. كتب عن مدينته في كل كتبه وفي شكل خاص في كتابه "الأول والتالي"، وفيه قصيدة اسمها "نهار في كركوك". في مجموعته الثانية، "الحياة قرب الاكروبول"، ثمة حضور لمدينة كركوك الغريبة التركيب من حيث الأجواء الاجتماعية والأقوام التي تسكن فيها، ذلك أنها تتضمن الخليط العجيب المتكون من العرب والآشوريين والأكراد والأرمن والصابئة. كانت المدينة دائما منبعاً إنسانياً متنوع اللون والشكل، وهو منبع لا ينتهي لغرابة اللغات المتبادلة بين تلك الأقوام.

قيل إن سركون بولص كان يأتي كل يومين أو ثلاثة من الاسبوع، لمقابلة الروائي والشاعر والناقد الراحل جبرا ابرهيم جبرا الذي كان مصدر رزق بالنسبة اليه والى رهط من الشعراء المفلسين الذين كانوا يتوافدون يوميا على مكتبه. كان جبرا أبا روحيا بالنسبة الى سركون، عرفه عندما اكتشف انه يحرر مجلة "العاملون بالنفط" وكان آنذاك في كركوك وعرف سركون أن المجلة تدفع مكافأة مالية كانت متواضعة غير أنها بالنسبة اليه آنذاك غير متواضعة، فالدنانير الثلاثة أو الخمسة التي تدفعها كانت كافية لليلتين أو ثلاث في حانة مع عشرة شعراء مفلسين.

عندما كان سركون في كركوك وصلت إليه أخبار في الصحف والمجلات عن "جيل البيت" الاميركي وأتيح له عندما ذهب إلى بغداد، الاطلاع على قصائد آلن غينسبرغ في المكتبة الأميركية، ثم قراءة جاك كيرواك صاحب "على الطريق". ولعل الاطلاع المبكر على الشعر الأميركي والتأثر به تدخّلا في تكوين نبرة سركون بولص التي في وسعها أن تُري القارئ صياغتها العربية وحساسيتها المختلطة والمهجّنة في آن واحد. لذا رأى سركون في إحدى مقابلاته "أن الترجمة تجعل جميع اللغات والكتابات تتداخل وتتلاحم لتخلق شيئاً جديداً"، ناصحاً "كل شاعر أن يعرف لغة أخرى وأن يحاول الترجمة حتى لو كان ذلك من أجل لذته الخاصة بصفتها تمريناً".

4

عندما ذهب سركون الى بغداد كان تركيبه الشعري قد ثبت وتصلب تقريبا، حتى ولو كانت بغداد هي المنبر الحقيقي والمكان الأوسع روحا والاكثر امتلاء بالحياة عندما وجد نفسه فيها. كانت بغداد بالنسبة اليه الخروج من الأحلام الصغيرة والسقوط في حلم آخر كبير. كانت بغداد يومذاك مدينة المكتبات، ودور السينما والمقاهي والنوادي الليلية وفرق الباليه والعروض العالمية. وكانت مدينة الملاذات. هناك تشكل على النحو اللازم جيل الستينات العراقي. يصف سامي مهدي المشهد العام لحركة الشعر الستيني في العراق بأن أعضاءه "كانوا كثيرين يعدّون بالعشرات"، ومنهم فاضل العزاوي وسركون بولص وعبد الرحمن طهمازي ومؤيد الراوي وصادق الصائغ وصلاح فائق وأنور الغساني وفوزي كريم وسامي مهدي وعبد القادر الجنابي وجان دمو، والاخرون. جاؤوا من محافظات العراق المختلفة وأقاموا في بغداد ليدرسوا ويتعلموا، وكانت لهم تجمعات صغيرة تلتئم في المقاهي، وخصوصاً في مقاهي البلدية والبرلمان والبرازيلية، أو في بارات شارع أبو نواس. جيل الستينات الذي جاء من جميع أطراف العراق ربما كان مدفوعا بالحلم نفسه ومتبعا الخطى نفسها. وجد ذلك الجيل حضوره في المقاهي حيث النقاش السياسي والثقافي دائر ليل نهار. كان سركون يجد نفسه في معركة سحرية يشارك فيها العشرات من الشباب وكانوا هم من أدرك أن الثقافة ليست مجرد لعبة ايديولوجية كما كانت مثلا عند الرواد، وانما هي حلم أكبر من ذلك، وأعمق من أن تتداول مفاهيم معينة كالثورة وسواها. ذلك ان العالم كله كان يلتهب ويغلي بالنسبة الى هؤلاء الشباب ويجعلهم يحسون أن طاقتهم جديدة تماما وينبغي أن تكون ثورية ومختلفة عما سبق. ذلك الاحساس هو الذي شكل حساسية معينة وميّز شعراء الستينات عن الشعراء الذين سبقوهم، وجعل شعرهم وكتاباتهم روضتهم الى عالم أكثر حداثة وانفتاحا.

5

عندما قرر سركون بولص ترك بغداد للذهاب الى بيروت، التقى جبرا ابرهيم جبرا في مكتبه في "كرادة مريم" (بغداد) فأعطاه هذا الأخير مخطوطة "الملك لير" مطبوعة على الآلة الكاتبة كي يوصلها الى يوسف الخال ببيروت لغرض نشرها في "دار النهار". لم يكن جبرا يعرف أن سركون جاء ماشياً عبر الصحراء على قدميه، وسيسافر مشياً، بل كان يعتقد أنه ذاهب ككل مسافر، بالطائرة أو بالسيارة، الى بيروت. ولم يقل له سركون إنه سيحمل معه في حقيبته مخطوطة "الملك لير" عبر الصحراء، وإنها ستزور معه أحقر الفنادق في حلب وحمص ودمشق وعبر الحدود السورية – اللبنانية، وستتعايش مع مهربين مغامرين حتى الوصول الى بيروت.
كانت بيروت الحلم والملتقى حيث تنفتح الأحلام على مجاهل كثيرة. صحبة "جماعة شعر" والأسماء الاخرى هي دلالة بيروت على الثراء. حين وصل سركون إلى بيروت ذهب إلى المكتبة الأميركية فوجد هناك كتب غينسبرغ وجاك كيرواك وآخرين فقرأهم هؤلاء ومحضهم حباً كبيراً. قال ليوسف الخال انه يريد أن يعدّ ملفاً خاصاً عن "حركة البيت" لمجلة "شعر"، فوافق الخال، وأعطاه مدة شهرين لإنجاز هذا الملف الذي صدر وفيه قصائد لغينسبرغ ومنكور وسنايدر وأغلب الشعراء المهمين في هذه الحركة.

كتب سركون قصيدة "آلام بودلير وصلت" في لبنان، ولهذه القصيدة قصتها اذ شكلت نقطة تحول في تجربته الشعرية. من الناحية الفنية كانت القصيدة وثبة ثلاثية في تركيبها ومواجهتها للموضوع مباشرة منذ الكلمة الأولى ونزولاً إلى أعماق القصيدة. وكان في حالة من الإنخطاف السحري الذي يحدث بشكل نادراً أحياناً. فأن يكتب الشاعر في تلك الحالة فكأن هذا الشيء الذي يكتبه ينزل عليه من الأعالي. كتب القصيدة في قرية بشمال لبنان هي شبطين، مسقط رأس الشاعر وديع سعادة، حيث امضى في ضيافته أياماً عدة، في تلك القرية الجبلية المطلة على وادٍ مدهش. ومن فرط التجلي وجد سركون نفسه في الليل يكتب قصيدتين، قصيدة "آلام بودلير وصلت" وقصيدة أخرى ضاعت منه.

6

عام 1969 عندما ضاقت السبل بسركون بولص قرر أن يهاجر إلى أميركا بمساعدة الشاعر يوسف الخال وبعض الأصدقاء الحميمين. قال بإزاء هذا: "اردت ان اعرف بحق من أنا وماذا أريد، ان أناقش كل شيء، ان ابتعد واكتشف وأعود بجواب. هكذا وجدت نفسي في أميركا. وتلك قصة أخرى". سيعثر على غرفة رخيصة في سان فرنسيسكو قبالة المدينة الصينية، وسيبقى مشدودا الى الشرق، ويظل "الشرق الذي لا يوقفه شيء عن كونه شرقاً"، هو شرقه الخاص بمدنه: الحبانية وكركوك وبغداد وطنجة وبيروت. كل تلك المدن هناك التي عصف بها الخراب ودمرتها الحروب.

كانت سان فرنسيسكو، هي المدينة التي أحبها سركون بولص، وكتب عنها حتى قبل أن يراها، فيها تعرّف الى أشهر الأدباء الأميركيين الذين يمثلون "جيل البيت" أمثال ألن غينسبرغ، كيرواك، غريغوري كورسو، بوب كوفمن، لورنس فيرلينغيتي، غاري سنايدر وغيرهم. وخلال الأعوام التي امضاها هناك، بقي سركون مخلصاً للشعر ولترجمته، وأثناء تلك الإقامة الطويلة التي قرر أن ينهيها بالذهاب الى أوروبا وخصوصا الى لندن وباريس وبرلين، حيث حصل في المانيا على منح عدة للتفرّغ الأدبي، فطوّر تقنياته الشعرية، وصارت اللغة لديه أكثر حسية. بالرغم من إقامته الطويلة في الولايات المتحدة، لم يتخلص سركون بولص من لهجته العراقية وبقي ذلك القروي الآتي من كركوك.

يقول في قصيدة له بعنوان "حديث مع رسّام في نيويورك بعد سقوط الأبراج":
"نهايتكَ أنتَ

من يختارها؟ قالَ صديقي الرسّام
انظر الى هذه المدينة. يشترون الموتَ بخساً، في كلّ دقيقة، ويبيعونه في البورصة
بأعلى الأسعار
كان واقفاً على حافة المتاهة التي تنعكف نازلةً على سلاسل مصعدٍ واسع للحمولة
سُفُلاً بإثني عشر طابقاً إلى مرأب العمارة
إنها معنا، الكلبة
سمِّها الأبديّة، أو سمِّها نداء الحتف
لكلّ شيءٍ حدّ، إذا تجاوزتَه، انطلقت عاصفة الأخطاء
إنها حاشية على صفحة الحاضر
خطوتها مهيّأة لتبقى
حفراً واضحاً في الحجر
أرى إصبعَ رودان في كلّ هذا.
أراه واقفاً في بوّابة الجحيم، يشير إلى هوّة ستنطلق منها وحوش المستقبل، هناك حيث
انهارَ برجان، وجُنّتْ أميركا".
هكذا حدّث الرسام صديقه الشاعر وهو يسأله: نهايتك أنت، من يختارها؟ في إشارة إلى البرجين اللذين انهارا في نيويورك.

7

يختار سركون بولص القصائد لتشكل كتابا لا لتكون مجموعة قصائد. يكتب كتابا له بداية ونهاية، ونجد هذا التوجه في الكتاب الثاني "الحياة قرب الاكروبول"، حيث البلدان التي عاش فيها والمدن التي تعرّف اليها، وحيث النساء يقولبن أنفسهن كي يتخذن الأشكال، التي تصب في نوع نهائي هو الكتابة. وهذا ينطبق أيضاً على الكتاب الثالث "الأول والتالي"، حيث يبدأ من الطفولة وينتهي في نيويورك، ويضم سبعة أجزاء.
يحاول الشاعر في "الوصول الى مدينة اين" أن يجمع جوهر الأصوات المتعددة ويركز على ما يسمّيه القصائد التفجيرية. فهو أراد أن يكون الكتاب الأول مؤسساً على النثر بصورة كاملة من دون أي تشبث بقصائد الوزن التقليدية كما كان يكتب الرواد من قبل، وان يكون على قطيعة مطلقة من حيث الصوت ومن حيث الايقاع النثري الخالص مع الشعر السائد. هكذا جاء كتاب "الوصول الى مدينة اين"، وهو يعبّر عن اللامكان الذي كان يقف فيه الشاعر آنذاك. فالمهاجر من كركوك الى بيروت، ومن بيروت الى سان فرنسيسكو، كان غارقا في الترحال والتفجر والانفصال والاتصال. والحال ان القصيدة في كتابه الأول هذا، تتكون من مقاطع قصيرة حيث تعتمد التقطيع، في حين نلاحظ في "الحياة قرب الأكروبول" ان القصيدة تتكون من جمل طويلة، وأحيانا تشكّل مقطعا كاملا. إنها قصيدة الصوت الذي يواجه الموضوع مباشرة، ويطلق سهمه نحو الهدف. وتضاف الى ذلك، القصائد العنيفة، أي تجربة قصائد النثر التي يمكنها أن تدخل اللاوعي بشكل عاصف حيث تدوخ اللغة العربية في "غربيتها". واللغة من الممكن ان تغرب بهذه الطريقة. في "الأول والتالي" يتخلص الشاعر من أشياء كثيرة كانت موجودة في الكتابين الأولين، فتجري فيه عملية تركيز مكثفة، اذ أن الوعي يبرز أكثر في كل كلمة. لذلك، فإن القصائد أقصر، والديمومة تنال القصيدة بأكملها.

8

في "الوصول الى مدينة أين"، نجد أن الشاعر يعتمد على الصورة بشكل مبالغ فيه، حيث يبدو كل سطر صورة، ذلك لأن الشاعر كان منذهلا بالصورة في ذلك الوقت. كانت الصورة المكثفة بالنسبة اليه جواز المرور الى عالم اللاوعي، وهو كان يفكر صوريا الى أن تجاوز هذا الموضوع. في حين نلاحظ أنه يحاول أن يتخلص من الصورة في "الحياة قرب الأكروبول" ويلجأ الى السرد، فتخدم الصورة شيئا آخر هو الحالة أو المشهد الشعري الداخلي الذي ينظر اليه كمرجع للخارج، أي في الحياة المتدفقة. كانت الصورة في الكتاب الأول سوريالية، ثم يحاول الشاعر أن يتخلص من آثار التصوير المباشر في الكتابين الثاني والثالث.

في الكتاب الأول يلجأ كثيرا الى الأدوات وحروف التشبيه، ذلك أن لقصيدة النثر تقنيات وأساليب تعتمد على المقابلة والتضاد وعلى تقابل الأشياء وتصادمها. لذلك فإن الصدام لا بدّ ناشبٌ بين الأشياء والصور. في "الأول والتالي"، يبدو النص وقد تحرر كثيرا من أدوات التشبيه. يكاد الشاعر لا يشبّه الا بطريقة غير مباشرة. وهذا يعني أن عملية التشبيه تطورت في نصوصه الى حد أنها نفت نفسها فصار التقديم هو الذي يحظى باهتمامه. في "حامل الفانوس في ليل الذئاب" يتكون العنوان من حقلين متضادين: حقل النور ويرمز اليه دال "الفانوس"، وحقل الظلام ويرمز اليه دال "الليل"، والفاعلية الشعرية يخوضها إنسان يغامر بفانوسه في ليل الحيوانات الضارية. في "ليل الذئاب" يصيخ الشاعر السمع، ويدني الطرف، يسمع ويرى بأذن الخيال وعينه عالماً ضاجّاً بصورة الحياة بكل أبعادها، فتنطلق المعاني منه متسربلة بالكلمات لتصوّر مغامرة الفتى الهارب من القرية.

9

في بداية مسيرته تأثر سركون بولص بفكرة جاء بها الفيلسوف الألماني ليبنتز مفادها أن العالم يتكون من وحدات شكلية سمّاها المونادات. فكرُ شيء ما هو موناد. القنينة هي موناد، والعين موناد، والكأس موناد، وكذلك الشعر والقمر والمصباح والنجوم. هذه الفكرة تطورت الآن بالفيزياء الحديثة وخصوصا في "فيزياء اللايقين" حيث أن هذا العالم لا قيمة له ولا معنى على الاطلاق. لم يكن هناك من يسمّونه الرقيب اي المشاهد الذي يقف في مكان ما من الكون ويقول إن هذا الشيء المعلّق في الفضاء اسمه نجمة، وذاك اسمه قمر، وهذه هي مجرد اسماء ووحدات أو مونادات في الكون، وهذه ببساطة هي فكرة الفيزياء الحديثة وأنا مؤمن بها، يقول سركون بولص، وقد سيطرت عليَّ هذه الفكرة منذ شبابي. أغلب القصائد التي كتبها سركون بولص مليئة بالعشرات وربما بالمئات من الوحدات الموجودة واقعيا في العالم، التي تتركب بعضها مع البعض لتكوّن عالما كاملا مستقلا، بحيث أن هذه الوحدات والمونادات تتصادم في ما بينها، في حقل من الطاقة، لكن من اجل أن تكون القصيدة في النهاية ميدانا حيا من الطاقة الفيزيائية، وهذه الطاقة تقرر شكل القصيدة.

10

كان الشعر بالنسبة إلى سركون بولص مشروع حياة ومشروع كتابة. في نظرة متأنية إلى منجز هذا الشاعر العراقي الكبير، صاحب الصوت الشديد الخصوصية في الشعر العربي الحديث، نراه يقول: "بالنسبة اليَّ يستحق الشعر أن أكرّس كل حياتي من أجله. فالكتابة بالنسبة لي إجمالاً هي نوع من العذاب الحقيقي واللذة النهائية أيضاً. اللذة هي أنك تمضي سنوات طوالاً وأنت مستغرق في أسرار الكتابة، وبالذات أسرار الشعر لتخلق لنصك قوانين خفية تشدّك إلى هذا المكان الغامض أو المنحى الباطني الذي تكون مستعداً لأن تضحّي من أجله بكل شيء. أنا أمضيت أكثر من أربعين سنة في كتابة الشعر، وملازمة هذا الهم الجميل، ومع ذلك فأنا لا أريد أن أتظاهر بأني قد كرّست حياتي للشعر أكثر من غيري لأني موقن تماماً بأن هناك شعراء في هذا العالم ضحّوا من أجل الشعر بأشياء كثيرة لا تصدّق. هناك شعراء يمكننا أن نعتبرهم شهداء حقيقيين ضحّوا بأنفسهم من أجل الشعر أمثال سيزار فاييخو، وهو أعظم شعراء العالم، مات في باريس من الجوع. وهناك شعراء آخرون كبار أمثال ناظم حكمت ونيرودا، عرفوا منذ البداية حجم المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم، لأن اختيار الشعر مسألة غير هيّنة على الإطلاق. الشعر عالم له أسرار لا تنتهي، ورهان خطير، لكن مع ذلك فهناك شعراء كثيرون قبلوا بهذا الرهان ومنهم شعراء الرومانس البريطانيين على سبيل المثال لا الحصر أمثال ووردزوورث، وكيتس، وشيللي، وبيرون، وكولردج".

يعتبر سركون بولص ان الشاعر الحقيقي يكتب بكل حواسه وبكل معرفته ولا يكتب مثل الشاعر التقليدي الذي يحاول ان يطربنا ويهزنا أو يحاول أن يقنعنا بفكرة سياسية أو ايديولوجية. فالشاعر الآن الذي يقف في مركز الكون وفي مركز التجربة الحياتية حينما يكتب تكون السياسة والايديولوجيا والموسيقى وكل الفنون مصبوبة في نظرة ورؤيا وفي موقف حسي، وهدفه في النهاية ان يدخلنا في هذا الحقل من الطاقة الحية وفي هذه العاطفة المطلقة، على ما قال ازرا باوند حيث "لا شيء غير العاطفة". العاطفة هنا بمعنى الوجد الوجودي والكوني، فالشاعر هو كائن يحترق كي تبرز هذه الطاقة ولكي يكون وقودا لهذه العاطفة ولهذا الوجد. لا يعتبر سركون بولص ولا احد يقنعه أن قصيدة النثر مجرد شكليات أو مجرد تقنيات أو ضرورة تاريخية كما يتحدث عنها النقاد أو كتقليد سخيف لقصيدة الغرب. فهذه القصيدة هي الضرورة وكان الشاعر العربي يتطور نحوها على الاطلاق. وتكاد أن تكون كل الكتب الدينية مكتوبة بالنثر، وهي الكتب التي لا تزال تهزّ أرواح البشر وعقولهم.

11

على رغم نجاحه وعلاقاته بشخصيات ثقافية وعمله في الترجمة، لم يكن سركون بولص اسيرا للغرب وثقافته بل كان عاشقا للشعر بكل تجلياته، وها هو يستعيد "غربة جبران" ويراه حالماً في شوارع نيويورك، ويستعيد صورة أبي فراس وهو في سجن الروم يغنّي "أقول وقد ناحت بقربي حمامة". في كتابه "الأول والتالي" ثمة استفادة من الشعر العربي القديم وحضور لشخصية النابغة الذبياني وللشاعر عمر ابن أبي ربيعة. قال ذات مرة إن بضعة أبيات للنابغة الذبياني بقيت في ذهنه وهي تتحدث عن الكواكب وعن السهر والأرق في عهد الملك النعمان بن المنذر عندما كان النابغة شاعر البلاط في الحيرة. وجد سركون بولص نفسه ذات ليلة في سان فرنسيسكو تحت في ليلة مليئة بالنجوم، وكان قريبا من البحر ومن الحس التاريخي، وبصورة غير واعية أحس بارتباطه بهذا الشاعر. ثم يذكّرنا بعلاقته بامرئ القيس عندما كان في لبنان، حيث اكتشف أن الأزمنة كلها متداخلة، وان الذبياني الذي عبّر عن هذه الحالة موجود في كل الأزمنة، ومن بينها الزمان الذي يعيش، والذي ولدت فيه قصيدة "كواكب الذبياني".

أما بالنسبة الى علاقته بالشاعر عمر بن أبي ربيعة فيقول انه وجد نفسه يشكو له عن حالته مع الحب والغزل والمرأة حيث كتب له مرثية. المرثية هنا فيها من اللعب لأنها ليست بمرثية على الاطلاق، حيث جرأة المرأة الحديثة التي تجرّك الى السرير وتقطع امكان الغزل كما كان الأمر في زمن عمر بن أبي ربيعة. يسمّي سركون بولص هذه العلاقة مع التراث أحيانا العلاقة الشرطية وأحيانا العكسية، والتي تتميز في بعض الأوقات باللعب وعدم الجدية، وبالترابط الحي الانساني وليس بتجربة الكتابة فحسب. لديه قصيدة عنوانها "الى امرئ القيس في طريقه الى الجحيم"، وهي قصيدة يجري فيها حوارا مع الملك الضليل، وبالطبع في أميركا وفي حالة معينة كانت تشبه حالة امرئ القيس عندما كان يهرب من الذي قتل أباه، وحدث أن ذلك الزرد المسموم المشهور قد أهدي من قبل ملك الروم آنذاك الى امرئ القيس الذي كان سبب موته. جعلته هذه القصة وقراءة معلقته ذات ليلة يشعر به حيا ضمن إطار تجاوز الأزمنة وتداخلها، ويتحاور معه ليس كشخص وانما من خلال كوة الظل الشعري الذي يسمّيه امرؤ القيس الشاعر. يقول بولص في قصيدته: "أصغي/ لكي أسمع الصحراء تغنّي/ وليس صهيل أميركا المتعالي كألف حصان جريح/ من حولي، إلى عصر آخر سَفّته يدٌ قويةٌ من الرمل/ في ذلك الفم الفاغر للزمن حيث الأطلال/ دائماً بانتظار/ المناسبات/ بسقْط اللوى، بين الدخول فحومل. إنها دائماً هناك". هذا النص البديع يجعلنا نقول ان اللغة الرائعة التي أتاحت لامرئ القيس أن يقول ما قاله عن الصحراء والأطلال، تتيح لبولص أن يستعيد عناصر لغة الاسلاف.

12

كان سركون بولص يود ان يموت في سان فرنسيسكو، المدينة الاميركية التي هاجر اليها عام 1969، لكنه لفظ انفاسه في برلين، المدينة التي كان يزورها دائما، وقد أمضى السنوات الأخيرة متنقلاً بين أوروبا وأميركا، وخصوصاً في ألمانيا حيث حصل على منح للتفرّغ الأدبي. مات وهو يدرك سلفاً وأكيداً أنه ترك الباب مفتوحاً أمام الشعر ليظل كالنسر حراً طليقاً ومحلّقاً في مدينة أين، و"ها هي أبياته تتحسب عطاءها، وكل بيتٍ رسولٌ آتٍ/ من بعيد، يعرف الطريق الينا/ ولا نجهل الطريق اليه"

******

تذهب الأغاني تجيء المراثي

فاروق يوسف

حين استولينا على المقاعد في المقهى، كان سركون بولص قد غادر الوطن كله إلى غير رجعة. لم يكن كسواه من المسافرين، كانت لديه الكثير من الرقى الشخصية التي تدلنا عليه غير أنها كانت تخفيه عنا في الوقت نفسه. قصائده تلك أنكرت كل سلالة عراقية ممكنة. بطريقة أو بأخرى، تخيلنا سركون بولص هذا شكلا من أشكال الإنقاذ الرسولي الجاهز الذي لا يخضع لأي وصفة شعرية مسبقة. كان حضوره نوعا من الغياب الذي يبعث في الناظر شعورا هادئا بالخريف. جعلناه موجودا بصورة مختلفة، لا يدانيه فيها أحد من جيله الستينيين، ولا من جماعته الفتية القادمين من كركوك. كان الشاعر فيه يعدنا أكثر مما تشي كلماته التي كانت تصلنا حائرة، ملتفة بترددها، ومصوغة بطريقة تقبل اللبس دائما، هناك نوع من الغموض قد صنع هالة هذا القديس الهارب من الدير بدفاتر الآباء الموتى. كنا نضع تحت كل كلمة منه خطاً، كما لو كنا نقرأ رسالة مشفرة من ملاك. ليس لأن قصائده كانت غامضة، ولا لأن عوالمه كانت مركبة، بل لأنه لم يكن يستعمل اللغة بقدر ما كان ينظفها وينقيها من الشوائب ليكتفي بمادتها اللينة التي ينحت منها كلماته. مثل الألم، يحضر يسر لغته مكثفاً، وهو ما لا يفعله إلا القلة من الشعراء، أولئك الذين لا يرغبون في صناعة المعجزات البلاغية، ولا ينامون بين صفحات المعاجم.

"أقل ممّا يكفي، أكثرُ ممّا نحتاج"، يقول لنكفّ عن الوصف.

"تنزل الفأس، وما من حطّاب/ لا الغابة، بل الشجرة/ وحدها، تتلقّى الضربة". منذ قصائده التي نشرها في مجلة "شعر" بداية الستينات وقف سركون بولص خارج كل حماسة شعرية محتملة. شعره غير العراقي (وفق التصنيف المعادي لمفهوم الشعر المطلق)، وضعنا إزاء تحدّ مختلف، كنا نرى فيه سلوكا شعريا قائما على التمرد من خلال صياغة الجملة الصلبة، غير المائعة، المكتفية بذاتها، المراد منها لا يغادرها. تلك الجمل كانت تهبط على ألسنتنا لتستقر هناك زمنا طويلا من غير أن تلحّ على تفكيك معانيها أو تتخلى عن عذوبتها، ذلك لأنها لم تكن تعيننا على فهم الواقع، بقدر ما كانت ترسم أقداما فوق خطوات شعراء لم يولدوا بعد. لذلك أعتقد أن لا أحد يمتلك الحق في أن يلحق شعر سركون بولص بحشد من الشعراء، كثروا أم قلّوا. فهذا الشاعر الفذ عاش كما يشاء ومات بالطريقة التي كان يتطلع إليها منذ زمن بعيد: "تذهب الأغاني. تجيء المراثي./ لا شيء منذ آدم غير ملحمة التراب".

*****

السيد الذي عزف على قيثارة الآلهة بأصابع من ذهب

صلاح حسن

اتصلتُ به بعد عودتي من كولومبيا مباشرةً فقال إن الطبيب الذي يشرف على علاجه شخص ذكي وهو في صدد تركيب نوع من الأمصال يمتص الأملاح الزائدة من الجسم وسوف ينتهي كل شيء قريبا . قلت له: حسنا، بعد المراجعة الأخيرة للطبيب أريد منك إن ترسل المخطوطة بسرعة لان الناشرة الهولندية تسأل عنها كثيرا وتريد إن يظهر ديوانك قبل نهاية هذه السنة. هذا ما اتفقنا عليه، وبعد ذلك لم يعد أحدٌ يردّ على التلفون. ذهب سركون بولص من جديد إلى مكان لا يعرفه احد كما حدث ذلك قبل أربعين عاما عندما غادر بغداد إلى دمشق بدون أوراق رسمية ولا أموال وسيرا على الأقدام، ثم بعد ذلك إلى بيروت، والتيه أخيرا خلف المحيطات.
قبل ثلاثة أشهر فقط كان يقف في قاعة المسرح الملكي في مدينة روتردام وهو ينزف قصائده نزفاً، نصوصاً جعلت الجمهور الهولندي يقف على قدميه ويصفق له أكثر من عشرين دقيقة. وبعدما انتهى من القراءة جاءتني الناشرة والشاعرة الهولندية هنريته فاس وطلبت مني أن أقدّمها اليه وعرضت عليه أن تصدر له ديوانا باللغة الهولندية. ثم سارعت إلى المترجم كيس نايلاند الذي ترجم بعض النصوص إلى الهولندية واتفقت معه على مباشرة الترجمة حال وصول النصوص. السريان والعرب والكرد العراقيون الذين حضروا مهرجان روتردام الشعري كانوا يحيطون به مثل قديس جاء ليخلّصهم من غربة طويلة في وصفه سيّد هذه الغربة وعارف صحاريها وبحارها وبردها. كانوا يحدّثونه بالسريانية وهو يردّ بالعربية ويعتذر عن الدعوات الكثيرة التي يتقدم بها محبّوه الذين لم يتركوه حتى في صالة الفندق بعد منتصف الليل.

كان متعبا لكنه تعب الكريم، وكان سقيما طوال حياته التي شاخت على حين غرة بداء اسمه العراق ولم تمنحه اي فرصة إضافية، هو الذي منح الآخرين كل شيء وبقيت سلاله فارغة. هو لم يكن كذلك قبل أربع سنوات في لاهاي، ولم يكن كذلك حينما سهرنا إلى ساعة متأخرة في بيت احد المحبين. ولم يكن كذلك حين التقينا في الرباط عام 2000. كلا، فقد كان جموحا بعيني صقر حين استوقفته إحدى الجميلات الجسورات في الشارع وأربكت حركة السير والشعراء والمارة في وسط المدينة، قالت له بكل جسارة: أنت جميل وساحر. أربكت المكان والناس، والشعراء ظلوا ينظرون إلى عينيه المفتوحتين على أفق مذهول. قال سوف ابقى في المغرب من اجل هذه المرأة المدهشة، ولكنه كان محكوما بالنفي يغادر المسرات. لم يكن كذلك حين عاد للمرة الأخيرة الى بغداد قبل واحد وعشرين عاما من اجل أن يحمي جان دمو من برد بغداد ويقدّم له سترته الثمينة مع قنينة من العرق وورقة من فئة خمسة وعشرين دينارا ذات الأحصنة الثلاثة. قال لي انه يريد أن يودّع أباه الذي يرقد على فراش الموت، ولم يأت لرؤية بغداد، "فبغداد ماتت منذ ان غادرتها مجبرا".

قال لي يومذاك انه يريد أن يرى هذا المجنون "ميخا" مرة أخرى، المجنون الذي عاد في اليوم التالي الى فندق "المنصور" وقد استبدل سترة سركون بولص بقنينة عرق في آخر الليل. لكن سركون الكريم لم ينزعج من ذلك، بل تألم لأنه رأى الخراب في عيني جان دمو الذي يختزل المشهد العراقي كله. صمت كثيرا في ذلك اليوم، تألم كثيرا وشرب كثيرا وذهب في اليوم التالي ليدفن والده ويرحل من جديد إلى مكان لا يعرفه احد.
لم يكن منشغلا بأي شيء سوى الألم، كانت له حياة قديس مركّبة على هيئة شاعر يجوب البراري والمدن المهجورة من اجل إكسير لهذا الألم الذي أصبح الخبز اليومي له وللناس الذين تجشّم من اجلهم هذه المهمة الرسولية التي كان مدفوعا إليها دفعا كقدر غير مردود.

كان يفترض أن نلتقي خلال الأسابيع المقبلة في لاهاي، وكنا اتفقنا أن نهيئ ديوانه للترجمة إلى الهولندية قبل نهاية هذه السنة، ولكنه غادر كما في كل مرة إلى مكان لا يعرفه احد. وقبل ذلك كنا أمضينا الساعات الأخيرة في بار قرب المسرح الملكي في روتردام بعد نهاية المهرجان نحتسي النبيذ الأحمر. حينذاك مر حشد من النساء الجميلات فقام سركون وهو يحمل كأسه المقدسة ليقول لهن: هذه الكأس في صحتكن ايتها الفتيات .

****

المخلب المدفون في لحم القوافي

محمد علي الأتاسي

لست من هواة مطالعة تعليقات القراء التي تتوالى من كل حدب وصوب في نهاية مقالات الصحف على شبكة الانترنت، لكن شيئاً ما شدّني مساء يوم الإثنين 23\10\2007 لكي أتابع وصولاً إلى التعليقات، بعدما انتهيت من قراءة مقال الصديق الناقد صبحي حديدي في صحيفة "القدس العربي" عن الشاعر العراقي سركون بولص وعنوانه "حامل الفانوس". شيء ما غريب شدّني إلى مقال صبحي حديدي، من غير ذلك المعهود الذي يشدّني باستمرار إلى كتاباته النقدية بما فيها من نفاذ وعمق وموضوعية وسيطرة محكمة على المصطلحات وإلمام واسع بأدوات الأدب المقارن. شيء آخر شدّني وفاجأني في مقاله، وأعني به تلك النبرة الذاتية الحميمة والحزينة التي غالباً ما يتجنبها في كتاباته النقدية الصارمة، والتي لجأ إليها في مقدمة هذا المقال وخاتمته، بعدما بنى صلب مقاله على ما عهدناه في كتاباته النقدية. اختلطت المشاعر عليَّ، وأنا أقرأ صبحي حديدي، بين حزني لمرض سركون بولص في المهجر البرليني، وتأثري لتأثر صبحي الذي تسرب حتى إلى كتابته النقدية. ورحت أتساءل عن وقع كلمات صبحي الشخصية والمواسية على صديقه سركون بولص، ومضيت أقرأ في التعليقات لأفاجأ بأن سركون بولص توفي في اليوم الذي تم فيه نشر المقال. إنها مخاتلة الموت!

مقال معلّق على حافة الموت، وكلمات بوح لم تصل إلى منتهاها، وشاعر عراقي كبير يغادرنا خلسة في برلين بعيداً عن "الموت/ هذا سيّدٌ من أميركا/ جاء ليشرب/ من دجلةَ/ ومن الفرات" وقريباً من "أرق المنفى... ماءٌ وكلأ ودستورٌ دائمٌ وبجعٌ في الأسرة".

لست أدري إذا كان الأطباء الألمان رأوا البجع في سرير سركون بولص وأدركوا أيَّ شاعر كبير هذا المسجّى على سريره كامتداد دجلة والفرات على جسد العراق. لست أدري إذا استطاعوا أن يقرأوا في "عينه الزائغة في نهر النكبات"، أو في "منخريه المتجذّرين في تربة المجازر"، أو في "بطنه التي طحنتْ قمحَ الجنون في طواحين بابل لعشرة آلاف عام". لست أدري إذا استطاعوا أن يقرأوا بورتريهاً للشخص العراقي في آخر الزمن، لكنهم حتماً "رأوا على جبينه الناصع، كأنما على صفحات كتابٍ، طابور الغزاة يمر".

كتب الشاعر العراقي سعدي يوسف في رثاء سركون بولص الكلمات الآتية: "وقف ضدّ الاحتلال، ليس باعتباره سياسياً، إذ لم يكن سركون بولص، البتةَ، سياسياً. وقف ضد الاحتلال، لأن الشاعر، بالضرورة، يقف ضد الاحتلال. سُمُوُّ موقفه هو من سموّ قصيدته".

الاحتلال ماضٍ بجيوشه وعملائه ومريديه، أما العراق فباق بناسه ودجلته وفراته وقصائد شعرائه الكبار.
نعم يا سركون، طابور الغزاة يمرّ ويبقى العراق. أما المخلب المدفون في لحم القوافي فلن ولن ينزاح.
"ورغم ذلك يمكنك أن ترى/ المنجنيقات تدكّ الأسوار/ لتعلو مرّة أخرى./ وتصعد أوروك من جديد"

****

الجائع الى حياته شاعرٌ كبير

عقل العويط

هذا الرجل جائعٌ، ليس لخبزٍ أو لخمرٍ، ليس لصوتٍ عابرٍ، لا لحيوانٍ يؤنس، ولا لإنسانٍ يوحش. هو رجلٌ جائعٌ، وهناك هذا الطعام، ومائدته عامرة. هذا الرجل جائعٌ، وليس لطعام. هو رجلٌ عاديّ يؤدي في النهار واجباته العادية من دون أن يشتكي، كأيّ خروفٍ في القطيع، لكنه في الليل نسر يعتلي الهضبة، وفريسته تحت المخالب.

هذا الرجل الجائع هو سركون بولص. هذا الذي، على قوله، يعيش في قلب عاصفة، جائعاً الى العاصفة، بإشارةٍ من أيامه التي تحمل وثيقةً مزوّرةً في يد، وفي الاخرى مجذافاً صالحاً لكل نهر، ولكل لغة يشقى بها الواجب.
هذا الرجل الجائع هو رجلٌ جائع، وقد رأى، على قوله، عظْمة القصيدة تتلألأ قربه، فتوقظ لسانه من نومة الكهف ليأكل. ولا شبع.

وجائعاً يظل الرجل الجائع، وينهش، راجعاً في الليل الى هضبة الليل، حيث، على قوله، هذه الكلمة، هي تلك التي، تلك التي لم تكن أبداً هذه: غداً، أو اليوم.
وفي يوم الرجوع، لا أحد يرى الرجل الجائع اليوم. لا أحد يرى هذا الرجل الجائع اليوم، إلاّ إذا أغمض عينيه، لينساه. أي ليرى، ويتذكّر. اليوم، على قوله، تخرج كل علّةٍٍ ومعلولها على الأكتاف، واليوم تتبع النساء رجالهن الى المنفى، وإذا كان قد بعث، هو، بأوهامه في الطليعة، ليستكشف المدينة، فلأنه يريد أن يطل على هاوية جسده، في المدينة، بدون أن يسبقه أحد الى الهاوية، ولا الى المدينة.

هذا الرجل الجائع، سيظل جائعاً، ذاهباً، راجعاً، وفي برجِ بابلِ رأسِه، على قوله، مدينةٌ لم يرها. وإذ تظهر الآن هذه المدينة السرابية الزوايا، وفيها بيتٌ مهدّم على بابه امرأةٌ تبكي، فلأن هذا الرجل الجائع سيستكشفها جيداً، منذ الآن، لأنها سرابية، وسينهشها جيداً، لتنهشه جيداً، وسيكونان معاً منذ الآن، بعدما، على قوله، باع حياته ليشتري بها عينين وفيتين، من أجل أن يرى المدينة جيداً، ومن أجل أن يستيقظ فيها جيداً، ومن أجل أن ينام فيها جيداً، مستقيلاً من جسده الذي لم يشأ أن يتبعه الى هناك.
وإذ ينام الرجل الجائع الى حياته، فلأنه جائعٌ وسكران، وما هَمّ إذا كان نائماً في مركب نوح، وسكران، وما هَمّ لو جاء الطوفان، وقد جاء الطوفان، ما دام يعلم، ويحلم، على قوله، أن الفرق الوحيد بين الحياة والنوم، أحياناً، هو هذه العلاقة الزجاجية بين المصادفة والقصد، بين أن يستيقظ المرء بنفسه، أو أن يوقظه حذاء.

وسيظل يستيقظ الرجل الجائع السكران، سيظل يستيقظ ليرى حياته، ومدينته، وليشتري، على قوله، علبة سجائر، في أعماق الليل، أو لينتحر جسدَه، أو ليعيش بنوعٍ من الشعور العميق بالعمى، كأنه شرب برميلاً كاملاً من البيرة الرخيصة.

وسيظل الرجل الجائع الى حياته سكرانَ، وسيظل، على قوله، يسقط في وسط الساحة على ركبتيه، متعباً الى حدّ فقدان القدرة على الوقوف، حيث الوصول الى ذلك السدّ، حيث تتكسر موجة العمر النافقة، حيث ملاك الرحمة يجيء حاملاً بلطته الريشية، عندما يحين له أن يجيء.

وسيظل الرجل الجائع الى حياته سكرانَ، وشاعراً، على قوله، يخاطر بالكتابة على هذا النحو، وسيمضي سنوات حياته الباقية بعينَي نسر محموم، أو بعينَي رجلٍ ينتظر زيارة صاحب البيت الشهرية، ليسأله عن الإيجار، وهذا يعرف جيداً ان الرجل الفقير لا يستطيع ان يدفع الإيجار.
وسينام الرجل الجائع الى حياته، تحت الأشجار، وسيعثر، عند ضفة نهر، على بدلة من المسامير، وسيعيش، على قوله، في كهف، وسيضرب على وجهه في اليوم التالي، وسيهرب وجهه من وجهه، وسيسير بلا وجهٍ متقدماً، متأخراً، واقفاً وحده، عابراً في الساحات، في السراديب، يهبط، يصعد، يطير، زاحفاً على رجلٍ واحدة، بثلاث أرجلٍ، على يديه، على رأسه، وحين يتعب، يسير أفقياً، عمودياً، لينتهي أسيراً، سائراً الى سريره، حائراً في سرّه، سارحاً، ساهراً، كأن أحدهم يرفض أن يعيده الى غمده.
لكن هذا الرجل الجائع، خفيفٌ، الآن، على قوله، كأنه يتخلّص للتوّ من جسده، ومن عظامه، في داخله فضاء يلمع، ويستدير على نفسه كسكّين، ويعرف كيف يطفو على ضوء هذه النفس في الوديان، ويترك الشارع الى البراري، حيث يستريح تحت شجرة. تحت الأشجار كلها. وتحت كل السماء.
وعندما يصبح هذا الرجل الجائع الى حياته قَدَماً لا تعرف أين تسير، يتنصل من حياته في هذه الغرفة، ويهرب ليمتزج بالظلام، ويدخل أنفاقاً بعيدة، ليحاور رجلاً لن يلاقيه أبداً، في مدينةٍ لن يصل اليها أبداً. أو يصل اليها أبداً.

لكن هذا الرجل الجائع الى حياته، سيصل الى حياته، وسيصل الى المدينة، وسيظل جائعاً، في النهار، وسيظل جائعاً في الليل.

وسيظل الرجل الجائع جائعاً لأنه يعرف. والعارف يكون شاعراً، وحقيقياً. وكبيراً. والشاعر الجائع الى حياته يعرف أن الشاعر الحقيقي هو الذي يؤمن بالشعر، فلا يأتي إليه عابثاً من أجل كتابة بضع قصائد عابرة بل ليكرّس نفسه وحياته لهذا الشعر، معتبراً أنه ذو مهمة كبيرة في التاريخ. وإن يكن التاريخ ليلاً طويلاً. وبلا وفاء.

وفي هذا الليل، سيستيقظ الشاعر في هذا الليل، ليعتلي هضبة الليل، وكنسرٍ سيعتلي هذا الليل، جوعُه حياتُه، فريستُه حياتُه، وتحت المخالب.

هذا الرجل الجائع، هو سركون بولص، وهو شاعر، وكبير، وقد "سرقتُ" أقواله هذه، لأقولها له، وعنه، وهو جائعٌ الى حياته، وهو الآن يلتهمها، ولن يشبع. وسيظل جائعاً الى حياته هذه، وهي لن تنتهي، لأنها مدينة، وليس ثمة مكان، ولا جسد، لنسأل أين. أو لنسأل الى أين.
هي حياةٌ، هي حياةٌ، ولن تنتهي، لأن سركون شاعرٌ كبير، ولأن حياته قصيدة.

*****

سركون بولص: الصعلوك الغريب

شوقي بزيع
(لبنان)

لطالما شكل سركون بولص من بين شعراء قصيدة النثر المعاصرين الحالة الأكثر غموضاً واستعصاء على التصنيف والتناول النقدي. قد أسهمت شخصية الشاعر نفسه في ترسيخ هذا الانطباع لدى جمهور الشعر ومتابعيه الذين لم يتح لهم باستثناء حفنة من المتابعين تلمس هذه التجربة الابداعية ومعاينتها عن كثب. فبولص هو واحد من الشعراء القلائل الذين آثروا الإقامة في الظل وابتعدوا عن البريق الاعلامي إلى حد التواري الكامل. وهو واحد من القلة الذين لم يدخلوا في سجالات حامية ومعارك هامشية مع الآخرين، رغم أن قصيدته بحد ذاتها هي قصيدة اشكالية بامتياز لما تتصف به من فرادة ومغايرة وتجرؤ أسلوبي.

الغموض الذي يلف شخصية سركون بولص هو غموض متعدد المستويات والأوجه بدءاً من الاسم نفسه مروراً بالشخص وانتهاء بالتجربة. فالاسم على سلاسته الايقاعية يبدو منتزعاً من عالمين اثنين: عالم وثني يتصل بالعراق القديم، وبخاصة في حقبتيه الأكادية والأشورية، وعالم لاهوتي متصل بالحقبة المسيحية التي لعب بولس الرسول دوراً أساسياً في نموها وانتشارها. هكذا وجد سركون بولص نفسه ومن دون مشيئة من أمام مزاوجة رمزية لافتة بين دلالة الاسم وبين جوهر المسمى حيث يتجاور الأسطوري والديني ويتضافران من أجل أن يكون الشاعر ما أصبح عليه. فالشعر بحد ذاته يحمل دلالة اسطورية من دون أن تكون الاسطورة موضوعاً له. ذلك أنه فيما يبعد الكلمات عن وظائفها الأساسية يسمح للمتخيل أن يقيم مضاربه فوق رمال متحركة وأرض لا تعرف الثبات. وإذا كان أدونيس قد آثر عبر تغيير اسمه ان يسير على طريق اسطورته الخاصة التي بدأها مع الاسم فإن سركون بولص لم يكن مضطراً إلى ذلك بعد أن اعفاه والده من هذه المهمة.

أما الغموض المتعلق بالشخص فهو غموض مسلكي اختياري شاءه سركون بولص أن يكون تعويذته الخاصة في وجه العالم كما في وجه الدكتاتوريات المستشرية في بلاد العرب. إنه من بعض النواحي صعلوك معاصر، لكنه لا يعمد إلى الإغارة على قبيلته بالسيف وقطع الطرق بل بالكتابة الجريئة المتقحمة والمغايرة للغة القبيلة السائدة. على أن كونه من الاقليات العرقية الصغيرة التي تقطن شمال العراق أسهم إلى حد بعيد في بلورة تجربته الشعرية ودفعها نحو المغاير والمختلف. وهو أمر ليس بالمستهجن أو الجديد لأن المتأمل في الحضارة العربية برمتها لا بد أن يلاحظ الدور الريادي والحاسم الذي لعبته هذه الاقليات في بناء تلك الحضارة وتوسيع أفقها ورفدها بأسباب التنوع والجدة. ولم يكن سركون وحده هو من أسس لهذه الحساسية الجديدة في شمال العراق بل كان معه صعاليك آخرون من أمثال جان دمو ويوسف سعيد، إلا أن ما ميزه عن الآخرين هو أن صعلكته لم تتوقف عند المظهر السلوكي والاجتماعي بل دخلت في صميم اللغة دافعة بالتمرد إلى اقصاه وبالهامشي لكي يحل محل المتن.

كان يمكن لسركون بولص أن يتجنب نظام التسلط الدموي القائم في بلاده عبر الإقامة في بلد عربي آخر، أقل دموية بالطبع، مما يمكنه بسهولة من توظيف اسمه وتجربته الريادية في عملية التلميع الاعلامي و”الوجاهة” الثقافية. لكن تواضعه الجم ونزاهته الشخصية لم يكونا ليسمحا له بعمل كهذا لذلك آثر أن يمعن في الاحتجاب منسحباً إلى النقطة الأبعد من الجغرافيا الأرضية حيث يمكن له ان ينسج ثوبه الشعري غرزة غرزة وأن ينهي وفق ما يقوله في مجموعته الشعرية “إذا كنت نائما في مركب نوح”، تلك القطيعة الشعرية التي مايزال وقعها يرن في أذنه كقافية صارمة مع كل ما كان يعرفه من شعر مكتوب بالعربية.

 واذا كانت قصيدته تنحو إلى المجانية التي طالبت بها برنار، في بعض وجوهها لكنها ليست المجانية العدمية أو الهذيانية، بل تلك التي تعني رفضاً لتوظيف الشعر في سوق النخاسة السياسية والايديولوجية.

لكن أكثر ما يظل عالقاً في النفس من تجربة سركون بولص هو ذلك الشعور المرير بالغربة والمنفى ووحشة الانسان الذي يصفه الشاعر بأنه “حامل الفانوس في ليل الذئاب”، كما ذلك النفس الحكمي الذي لا يجنح إلى الوعظ والتوجيه بقدر ما يشير  إلى قطف ثمرة المعنى في الأوان المناسب. فهذا الذي يقول “إن الألم أعمق/لكن التحليق أعلى” هو نفسه الذي يقول في مكان آخر “أقصى ما يمكن أن يحدث هو الواقع”.

* * *

-أخبار الأدب

رحل واحد من أعذب الأصوات الشعرية العربية:
سركون بولص وصلت أخيرا يا صديقي

- إنه شاعر العراق الوحيد" .... حسبما وصفه سعدي يوسف في شهادته المنشورة في هذا العدد.
و" أعذب أصوات الحركة الشعرية الراهنة" حسب تعبير الشاعر السوري حسين بن حمزة.." كان الشعر بالنسبة له مشروع حياة ومشروع كتابة" .
سركون بولص الذي غيبه الموت الأسبوع الماضي عن 63 عاما في برلين بعد أن تنقل سنوات في المنافي المختلفة مثل كل شعراء العراق ، ليستقر به المقام في سان فرانسيسكو المدينة الأمريكية التي أقام بها أكثر من عشرين عاما حيث تعرف علي مصادر الشعر الأمريكي، وتعرف علي بعض شخصيات جيل البيكنس، وعلي شعراء آخرين اختطوا لأنفسهم نزعة جمالية تتسم بالتأمل. وخلال الأعوام التي قضاها في سان فرانسسكو بقي سركون مخلصا للشعر ولترجمة الشعر، وأثناء تلك الإقامة الطويلة التي قرر أن ينهيها بالذهاب الي أوروبا خصوصا الي لندن وباريس طور سركون تقنياته الشعرية، وصارت اللغة لديه أكثر حسية. فهو بالرغم من إقامته الطويلة في الولايات المتحدة لم يتخلص من لهجته البغدادية وبقي نفس القروي ذلك القادم من كركوك. ترك بولص خمسة دواوين شعرية صدر أولها عام 1985 بعنوان ( الوصول إلي مديني أين)، "الحياة قرب الأكروبول" ، "حامل الفانوس في ليل الذئاب" 'إذا كنت نائما في مركب نوح' فضلا عن سيرة ذاتية بعنوان'شهود علي الضفاف'، ومحاولات قصصية متميزة صدرت مختارات منها في مجموعة يتيمة بالعربية والألمانية بعنوان 'غرفة مهجورة'، إضافة إلي ترجمات بارعة لعدد من الشعراء الأميركيين أمثال: ألن جينسبرغ الذي ربطته به علاقة خاصة به، وبعدد من شعراء جيل البيتنيك الأميركي، وأودن وسيلفيا بلاث وإزرا باوند وجون آشبيريز. هذا الملف شهادات حول أدبه ومختارات من أعماله.

شهادات حول عالمه:
الشاعر العراقي الوحيد

أحمد طه:
قريبا من الموت

التقيت ببولص منذ أشهر قليلة في مهرجان لوديف بفرنسا. بدا ساعتها أنه قريب من الموت حتي ظننته سيموت أثناء المهرجان. كان قد أجري لتوه عملية طبية وظل يتصرف بحدة، وبإحساس بالغبن، كانت لديه مشاكل في الإقامة، وكان يشرب بشراهة غير عادية. كان صوته يخرج بصعوبة، وبدا أكبر من سنه كثيرا، حتي أن سعدي يوسف بدا أكثر شبابا منه. كانت هذه هي ثاني مرة ألتقيه فيها. قابلته من قبل في بغداد عام 1985، كان لا يزال شابا وطموحا، كان معه وقتها الشاعر حسب الشيخ جعفر الذي كان الأكثر بروزا من الجميع.
جيل السبعينيات تحقق قبل أن يشتهر بولص بالطليعية والتجديد لذا ظل التأثير الأكبر لبولص هو علي جيل التسعينيات الذي استفاد جدا من اقتصاده في البلاغة. وفي الفترة الأخيرة عندما بدأ بولص يشعر أن هناك كثيرين يحبونه بدأ يشعر بالتميز.
"لم تكن لديه البلاغة السيابية ولا الدرويشية، وهذا ما استفاده من إقامته بالغرب. قبل إقامته بالغرب كان التأثير الأكبر عليه هو للسياب وسعدي يوسف. ولكنه ظل حبيس طائفته، لم يخرج عن أشوريته وهو ما كنت أحسه بين سطور قصيدته. ومثلما كان المسيح هو مركز قصائد يوسف الخال وأنسي الحاج وجبران كانت الطائفة هي مركز قصائده هو، خاصة أنه كان خارج وطنه بسببها."
"هو أخذ ما يستحقه، فلم يكن شاعرا كبيرا، لم تكن له مدرسة مثل أدونيس ودرويش وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل. كذلك لم يكن شاعرا صغيرا بالطبع، يمكن القول عنه أنه شاعر مهم فقط"
كذلك من ضمن إنجازاته التي أذكرها له ترجمته لأشهر قصائد آلان جنسبرج "عواء" والتي نشرها في دورية الكرمل. هكذا تمكن العرب من الاطلاع علي أشهر شعراء جيل الإيقاع الأمريكيين.

حسن طلب:
كنا مختلفين

كانت علاقتي الشخصية به محدودة. التقينا مرة واحدة في مهرجان جرش عام 98، سهرنا مع بعض أكثر من مرة، واستطعت فتح نقاش جدي معه حول الشعر في العالم العربي، لم يكن من ذلك النوع من الأشخاص الذين تنجرف بمجرد الجلوس معهم إلي أحاديث النميمة.
كنا مختلفين. انتقل هو من شعر التفعيلة إلي قصيدة النثر بلا مقدمات بينما أفضل أنا الانتقالات الناعمة وغير الحاسمة. غير أنه كان من الموهوبين القلائل في قصيدة النثر. لم يكن يهمش وجود اللغة في قصائده كما يفعل شعراء النثر الآخرون. كما أعتقد أنه لم يخض معارك حدية دفاعا عن قصيدة النثر، أو ضد التفعيلة. أعجبني ديوانه "الحياة قرب الأكروبول" . أمكنني أن أميز فيه بصمته الخاصة. كان يكتب قصيدة النثر بجدية "
قبل وداعي له في مهرجان جرش، طلبت منه أن يعطيني قصيدة لنشرها في مجلة إبداع فما كان من بولص إلا أن أعطاني قصيدة تفعيلة، كان يتصرف بنبل وكأنه يقول: برغم أنني أكتب النثر الآن إلا أنني سأنشر لديكم ما يكون أكثر إرضاء لكم!"
أعتقد أنه لم ينل حظه من الشهرة مثل بعض الشعراء الآخرين المجايلين له مثل وديع سعادة علي سبيل المثال. فهو بطبيعته عازف عن الإعلام. وهو شخصية وجودية تحب الحياة وله كبرياءه الذي لا يسمح له بتقديم نفسه في المنابر المختلفة كما يفعل بعض الآخرين. هو مشغول بما هو أعمق. هو يكتب قصيدته ويمضي وهذا النوع من الشعراء يخسر دوما تعاقد الإعلام والصحافة.

سعدي يوسف:
الشاعر العراقيٌ الوحيد

في تمٌوز، هذا العام، وفي الجنوب الفرنسيٌ، في مهرجان لودّيف تحديدا، ألتقي سركون لقاء غريبا.
كنتج أعرفج أنه في لودّيف، قادما من لقاءي شعريٌ بروتردام، لكني لم أجده في الأيام الأولي. انطلقتج باحثا عنه في الفنادق والمنازل، بلا جدوي. أنا أعرفج أنه مريض، وأنه بحاجةي إلي انتباه واهتمامي... لم 'أعثرْ' عليه في هذه البلدة الصغيرة التي لا تصلحج لأن تكون بوٌابة حتي لنفسها...
سألتج عنه أصدقاء، فلم يجيبوا.
عجبا !
وفي صباحي باكري. عند مخبزي يقدم قهوة صباحي. رأيتج سركون جالسا علي الرصيف. كنتج مع أندريا. قبٌلتجه: أين أنت؟
كان شاحبا، مرتجفا من الوهّن، محتفظا بدعابته: في الساعة الثالثة فجرا طردتْني مالكةج نجزْلِ الورود. La Roseraieكانت تصرخ مرتعبة حين وجدتْني متمددا علي أريكةي في البهو. سهرتج مع خيري منصور وغسان زقطان. هما ذهبا ليناما في غرفتّيهما. لا مجال لي للعودة إلي الغابة. قلتج أنام قليلا هنا حتي انبلاج الصبح. لكنٌ السيدة جاءت...
سألتجه: عن أيٌ غابةي تتحدٌث؟ (ظننتجه يهذي). قال بطريقته: إي... الغابة التي اختاروا مسكني فيها. ليس في المسكن فراش مجهٌز. المكان مقطوع. هناك سيارة تصل إلي المكان مرة واحدة في اليوم!
أخبرتجه أنني بحثتج عنه في كل فنادق المدينة ومنازلها.
قال إنه ليس في المدينة!
جلسنا معه علي الرصيف.
فجأة لمحتج إحدي المسئولات عن المهرجان تخرج من باب منزلها.
ابتدرتجها بالفرنسية: Il va mourir dans la rue“
سوف يموت في الشارع!
عواهرج المهرجانات، يستمتعن، كالعادة، في غرفاتي عالية...
قلقي عليه ظلٌ يلازمني.
حقا، اشتركتج معه، في جلسة حديثي مشتركة، أمام الجمهور، عن العراق، وكان رائعا وراديكاليا كعادته، ذا موقفي مشرٌِفي ضد الاحتلال، علي خلاف معظم المثقفين العراقيين. أقول إن هذه الجلسة المشتركة التي بدا فيها أقرب إلي العافية، لم تخفٌِفْ من قلقي عليه.
رأيتجه آخر مرةي، في منزل الوردِ التعيس، حيث جاء به أنطوان جوكي ومصوٌِرج سينما. قالا إنه سوف ينزل هنا (المهرجان أوشك أن ينتهي). ظلاٌ يرهقانه بمقابلةي تافهةي، ثم أخذاه فجأة إلي خارج منزل الوردِ. سألتجهما: أين تمضيان به؟ إنه مريض.
أجابا: هناك إجراء رسميٌ (توقيع أو ما إلي ذلك) ينبغي أن يستكمّل!
قلتج لهما: إنه لا يستطيع السير. دعاه يستريح. نحن نعتني به.
قالا: لدينا سيارة!
انطلقت السيارةج به، مبتعدة عن منزل الورد.
في الصباح التالي غادرتج لوديف إلي غير رجعةي.

قلقي عليه ظلٌ يلازمني.
اتٌصلتج بفاضل العزاوي في برلين. ألححتج عليه أن يتابع حالة سركون.
سركون في غجرّيفةِ مؤيد الراوي.
ثم اتصلتج ثانية. قلت له إن سركون في المستشفي.
طمْأنني فاضل عليه.
لكني لم أطمّئِنٌ.

هذا الصباح، ذهب خالد المعالي، يعوده، في المستشفي البرليني، ليجده ميتا...
(التفصيل الأخير تلقٌيتجه من صموئيل شمعون الآن...)

ذكرت أن سركون بولص هو الشاعر العراقيٌ الوحيد...
قد يبدو التعبيرج ملتبسا.
لكن الأمر، واضح، لديٌ.

سركون بولص لم يدخل الشعر إلا من باب الشعر الضيٌق.
بدأ في مطلع الستينيات، مجهٌزا، مكتمل الأداة، مفاجِئا وحكيما في آن.
لم يكن لديه ذلك النزق (الضروريٌ أحيانا) لشاعري شابٌي يقتحم الساحة.
سركون بولص لم يقتحم الساحة. لقد دخلّها هادئا، نفيسا، محبٌا، غير متنافسي.
كان يسدي النصيحةّ، ويقدم أطروحة الثقافة الشعرية الرصينة، مقابل الخصومةِ، والمشتبّكِ، والادٌعاء.
لم يكن ليباهي بثقافته، وإن حجقٌتْ له المباهاة.
هو يعتبرج الشعرّ نتيجّ ثقافةي عميقةي وممارسةي ملموسةي.
سركون بولص يكره الادٌعاء!

وأقول إنه الشاعر الوحيد...
هو لم يكن سياسيا بأيٌ حالي.
لكنه أشجعج كثيرا من الشعراء الكثارِ الذين استعانوا برافعة السياسة حين تّرْفعج...
لكنهم هجروها حين اقتضت الخطر!
وقف ضدٌ الاحتلال، ليس باعتباره سياسيا، إذ لم يكن سركون بولص، البتةّ، سياسيا.
وقفّ ضد الاحتلال، لأن الشاعر، بالضرورة، يقف ضد الاحتلال.
سجمجوٌج موقفِه
هو من سجمجوٌ قصيدته.

لا أكاد أعرفج ممٌن مارسوا قصيدة النثرِ، شاعرا ألّمٌّ بتعقيدات قصيدةِ النثرِ، ومسئولياتها، مثل ما ألّمٌّ سركون بولص. مدخلجهج إليها مختلف تماما. إنه ليس المدخلّ الفرنكوفونيٌ إلي النصٌ المجنْبّتٌ، في فترةي مظلمةي من حياة الشعر الفرنسيٌ:
رامبو مقتلّعا من متاريس الكومونة...
مدخلجهج، المدٌ الشعريٌ الأميركيٌ. مجدج النصٌ المتٌصل.
أطروحةج تظاهرةِ الطلبة، حيثج القصيدةج والقيثارج والساحةج العامٌة.
قد لا يعرف الكثيرون أن سركون بولص كان يطوٌِفج مع فريقي، لإلقاء الشعر في البلدات الأميركية والقري...
طبل وقيثار وهارمونيكا ...

قصيدته عن 'السيد الأميركيٌ' نشيد للمقاومة الوطنية في العراق المحتلٌ!

صبحي حديدي:
عمارات استدراج الذائقة

رحل سركون بولص شاعرا كبيرا صاحب تجربة كبري، بالغة الحضور، واسعة التأثير. ورحل شاعرا مقلا بالقياس إلي عدد المجموعات التي أصدرها، سيٌما وأنٌ مجموعته الأولي لم تجنشر إلا سنة 1985، حين تجاوز سنٌ الأربعين. هنا مفارقة أولي ذات مغزي في تجربة بولص: أنٌ الحجم الكمٌي لنتاجه الشعري لم يتناسب البتة مع حجم التأثير النوعي الهائل الذي مارسه، منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي وحتي اليوم في الواقع، علي جيلين متعاقبين من الشعراء العرب، وشعراء قصيدة النثر علي نحو أخصٌ.
امتزاج هاجس التعبير الجديد بقلق اجتراح الشكل المغاير كان في رأس هموم بولص منذ البدء، وهكذا ظلٌ حتي آخر قصائده التي نشرها قبل أسابيع قليلة. وامتيازه كان الاشتغال الدؤوب، والشاقٌ تماما، علي استقصاء تلك الهندسة الإيقاعية الغائبة، أو المتعثرة في أفضل المقترحات، والإلحاج علي انبثاقها من وسيط النثر في ذاته، واعتمادها علي ديناميات النثر وليس شّعْرّنته فقط، علي نحو يمسخ طاقات النثر بدل أن يطلقها. وبهذا المعني فإنٌ من الإنصاف البسيط ضمٌ بولص، وعدد من الشعراء مجايليه، في العراق ولبنان خصوصا، إلي صفٌ ريادة قصيدة النثر العربية في جانب جوهري وتكويني من مشاقٌ كتابتها: البحث عن الحلول الفنية الكفيلة باستيلاد عمارات إيقاعية رفيعة، متغايرة علي نحو مّرِن، جذابة ولافتة، قادرة في الآن ذاته علي منافسة التفعيلة في استدراج ذائقة حرونة متجبرة، ظلٌت طيلة قرون أسيرة نظام السماع والأذن والتلاوة الجهرية.
هنالك جانب آخر حاسم في شعر بولص، أتيح لي أن أتوقف عنده في مناسبات سابقة، هو أننا بحاجة إلي نماذجه في المستوي التربوي والتعليمي، إذا كنٌا سننجح ذات يوم في إدخال جماليات قصيدة النثر إلي المناهج المدرسية في التعليم الثانوي علي سبيل المثال. ففي قصيدة بديعة مثل 'إلي امريء القيس في طريقه إلي الجحيم'، من مجموعة بولص الرابعة 'حامل الفانوس في ليل الذئاب' 1996، يقول: "ضيٌعني أبي صغيرا' أجل ضيٌعني ولن أستريح اليوم خمر، وغدا أمر' تقول الريح/ ولي خمر وجمر ومعلٌقة/ قد أهزِمج بها جنيٌا يزورني في مثل هذه الساعة/ في مثل هذه الساعة دوما كأننا علي موعدي/ لا يقبل التأخير محمٌلا بكلٌ ضغائني/ ليعلٌمني أسرار السواد في سراديب سويدائي/ وهذا الغسق اللعين، المتكاثف ظلا فظلا ليعلم أنني/ أحلم في آخر قطرة ترشح من سّدولهِ/ بأنواع الهموم، بأنواع الهموم!". وليس عسيرا أن ندرك البجعد التربوي في كيمياء هذه القصيدة: أنها تصنع شبكة بارعة، وخافية، لاستدراج قاريء الشعر المتوسط علي دفعات: إثارة فضوله، إلزامه بالركون إلي منطقة وسيطة بين القراءة الصامتة والقراءة الجهرية، استثارة ذاكرته الإيقاعية واستنفار أوالياتها الراسخة المطمئنة، استفزاز أعرافها، وصولا إلي اقتياد القاريء نحو 'مصالحة' من نوع ما بين ذاكرته الإيقاعية وهذا الإقتراح الإيقاعي الطاريء.
وغنيٌ عن القول إن تجربة الراحل الكبير اشتملت علي العديد من الاختراقات التعبيرية والفنٌية والجمالية، فضلا عن تلك التي تخصٌ موضوعات قصائده، وليس الحديث هنا عن جانبين فقط في تلك التجربة إلا من طراز الاختزال الذي يقتضيه المقام.

عبد المنعم رمضان:
الهامس في أذني

الكلام عن شاعر عقب موته هو أمر صعب جدا. سركون قريب جدا من نفسي. تعرفت علي شعره منذ نزح إلي بيروت في أواخر الستينيات قبل أن تكف مجلة شعر عن الصدور حيث كان قد شارك بقصائده في الأعداد الأخيرة منها.
قبل أن يسافر بيروت زار جبرا إبراهيم جبرا وأبلغه بسفره فحمله جبرا بمخطوطة رواية له هي "صيادون في شارع ضيق" ليذهب بها إلي يوسف الخال. كان هذا أول تعرفه بيوسف الخال الذي شاركه بعد ذلك التجربة المسيحية في شعره، وهي تجربة طبعت كثيرا من الشعراء مثلهما ومثل توفيق صايغ وصلاح عبد الصبور في مصر. أعتقد أن قصائد هذه المرحلة من شعر سركون بولص لم يتم جمعها.
جاءت رحلته بعد ذلك إلي أوروبا ليكتب قصائد التفعيلة والنثر، لم يكن يكتب قصيدة النثر بهاجس الحداثة التي تجب ماقبلها وإنما لأن القصيدة كانت تأتي هكذا ببساطة.
لم ألتق بسركون بولص إلا علي الورق، بالإضافة إلي أنه كان قد ترجم لي قصيدة بالإنجليزية وكان من المفترض أن تنشر في مجلة جسور الأمريكية غير أنها لم تنشر. هذا يعني أنه قد قرأ بعض شعري. عندما كانت دواوينه تتاح لنا كان يبدو مجايلا لنا، والتأثير والتأثر بيننا وبينه كان تأثيرا وتأثرا بين أبناء الجيل الواحد.
كانت كتابته بالنسبة لي دائما هي الكتابة التي تكاد تكون صامتة، وسواء كانت موزونة أو غير موزونة فدائما ما كانت قصيدته في حالة همس. وأكون أنا دائما في حالة صمت متبادل معها، صمت متبادل وواع وفاهم. كان سركون دائما ما يهمس في أذني.

محمد آدم:
الشاعر الذي يشبه قصيدته

لم يكن يشبه أحدا في شيء. فقط كان يشبه قصيدته وكفي. لم يحاول أن يبل ريشته في حبر الآخرين، أو أن يستعير لغة لم تكن في يوم من الأيام لغته، ولم يحاول كذلك ان يقترب من مدائن الآخرين أو محاولة السير بين شوارعها أو بناياتها، رغم انه المسافر الأبدي عبر المنافي واللغات.
سكن فقط في برج مراقبته الوحيد، وصنع لنفسه بنفسه طائراته الورقية، ومناطيده، واستبدل لغة المتنبي بلغة جلجامش، وانتهزها فرصة مواتية أن يكتب مراثي 'أور' و'بابل' ويقف علي بوابات 'أشور' ليراقب التاريخ الذي مر من هناك، فوق أرض دجلة، وليرصد الدم العراقي وهو يسيل عبر الذاكرة والأمن، وفوق دجلة والفرات وذلك منذ ان دخلها المغول وحتي آخر جندي من جنود اليانكي. كان عليه ان يعيد الي لغة أهله صفاءها وبساطتها بعد ان سرقتها البلاغة القديمة من نفسها، وأدخلتها الي سراديب هائلة ابتعدت بها ­أقصد هذه اللغة­ عن رسالتها الأم في أن تكون آداة توصيل وتواصل، ان تكون مرآة صقيلة لاجتراح الذات الانسانية في جميع أوضاعها وحقائقها اليومية والتاريخية. لا أن تكون حجابا مرصودا يقف حائلا بين ماتود اللغة ان تقوله وبين ما تحتويه من إشارات ومعان، اكتشف بفرادة مذهلة ان ثمة مسافة تفصل الشاعر عن نصه، وتفصل النص كذلك عن متلقيه وقارئه، هذا القاريء الصانع الحقيقي للنص والذي يكسبه الحياة والوجود معا وبدونه ­أي القاريء­ يصبح النص ميتا ولامعني له، واذا انفصل النص عن قارئه، صار هذا النص الكتابة نصا متحفيا لايلبث ان يصيبه الجفاف والعمي وتدركه الشيخوخة، حتي ينتهي به المطاف في مقابر الصدقة وهو أي سركون­ الذي يريد لنصه ان يتحدث بلغته هو لا لغة الأسلاف. ان تخرج كلماته من بين حنجرته مختلطة بدمه وأوردته، حارة، عبر مسالك عقله وقلبه، وهو الذي كانت امامه اللغة/ اللغات جاهزة جاهزية المعلبات والمستنسخات ­مسلوكة ومطروقة. وما كان أحراه أن يسلك الطريق الآمن المعبد، لا أن يدخل الي صلب غابة الحليب المتوحشة المترامية الأطراف هذه، وهو الذي لايعرف طرقها جيدا، ولا ماذا يكمن وراء الأكمة هنا أو هناك. فقط ترك لنفسه أن يواجه الخطر بمفرده.
خطر أن يمشي داخل تلك الغابة المتوحشة بطيورها الملونة، ونهاراتها المليئة بالأخاديد والجروف والانهيارات اراد هو الآخر ان يعبد طريقا يقوده بنفسه الي انجازه الخاص، ولغته الخالصة حتي ولو كان هذا الانجاز صغيرا أو بسيطا، يكفيه أنه حاول دائما ولم يكن محتاجا لا الي تلاميذ او مريدين لم يسر في بحثه عن الشعر الا وراء صوره وكلماته ولغته التي تحمل همومه وأوجاعه وآلامه وانكساراته، وكأنما­ هو­ أحد أنبياء العهد القديم في نبوءاتهم ومراثيهم حينما كانوا يواجهون حقائق الكون المأساوية بكلمات جارحة ولغة لاتشف إلا عن مأساة الانسان في الواقع والتاريخ.

محمد بنيس:
سركون بولص أحسن التمرد
في الحياة وفي القصيدة

يموت الشاعر سركون بولص علي غرار أبناء عائلات عراقية في المنافي. يشعر بوحدة تهجم عليها الجثث والدماء من كل الجهات. وليست في فمه صلاة واضحة الحروف. لا يحتاج لمن يدله علي القتلي طيلة اليوم واليوم الذي يليه. هو في مشاهد القتل يتفحص عقودا من الدم والعذاب والرعب والتشرد. حتي هدوؤه كان يصعد من أسافل الحياة التي كان مشدودا إليها. كل ذلك كان مضاعفا، في حياة شاعر، أحسن التمرد في الحياة وفي القصيدة.
يموت في برلين، سركون، حيث كان يفضل في سنواته الأخيرة قضاء حياة المنفي، كما أخبرني صمويل وهو يكاد يبكي. أخوه الأكبر صديقي وصديق شعراء في جميع البلاد العربية. سركون، الوديع، الذي لا ينسي الذين يحبهم. هناك، في برلين، توفي هذا الصباح. حينما أفكر فيه أستحضر قصيدة قائمة الذات. نحتها عبر سنوات طويلة من الصبر والاستزادة من المعرفة الشعرية، حتي أصبحت علامة عليه، وطريقة مخصوصة يستهدي بها جيل من الشعراء. قصيدته التي كانت تفضل معجمها اليومي فيما هي تقترب من المتاهات ومن العذاب الأبدي. كذلك هي قصيدته منذ تعرفي عليه أول مرة، في الستينيات، من خلال مجلة "شعر"، شاعرا وكاتبا عما لم يكن معهودا، أو في اللاحق مترجما لشعراء أمريكيين لم تكن أسماؤهم متداولة بين الشعراء والنقاد العرب. أنذاك، أحسست أن تجربة الحياة لديه أصفي وآلامها أعمق. بذلك انحفرت في ذاكرتي صورة شاعر عربي بودليري، مختلف عن البودليريين المعروفين، واصل من بغداد إلي بيروت. ثم بعد سنوات كانت لنا اللقاءات في القصيدة وفي فضاءات، تبدأ من المغرب ثم تمتد إلي بلاد في العالم.
حضور قصيدته لا يقل عن حضوره هو شخصيا، بتأنيه في النطق بالكلمات وفي اختيار مناسبة الكلام. لكنها القصيدة التي أبعدته عن سواها. ترحاله الدائم، بين سان فرنسيسكو وأوروبا، أو لندن ثم برلين تحديدا، كان وجها للاستقرار الذي طبع حياته. وجه يثبت أمامي. سركون، الذي يمكن أن يقضي نهاره في مكان وليله في مكان آخر. لأن المكان الحقيقي، بالنسبة له، هو القصيدة. لربما تسرع من يشاهده إلي الاعتقاد في أنه شاعر يمارس التشرد عن قناعة، لكن سركون شاعر دائم الترحال، لكأنما القصيدة بنت ذلك الترحال، الذي لا يكف عن تجديد معني القصيدة.
في لقائنا الأخير، هذا الصيف، أثناء مهرجان لوديف، كانت الكلمات بيننا تنساب. بأقل الحروف نتخاطب، أو بأقل حركات اليدين. جلوسه في مقهي مفتوح علي الشمس والهواء والنباتات والعابرين، محاطا بأصدقاء محاورين ومنصتين، يعيد لي جلسة حكيم يبادل الآخرين كلمات تمتزج بالعالم. لا شيء يبعده عنها. غضبه علي إسكانه في إقامة نائية عن المدينة جعلني أتضامن معه من أجل أن يكون قريبا من كلمات الآخرين كما من الحياة في المدينة. سيدة فرنسية حضرت قراءته الشعرية قالت لي: سركون، هو التراجيديا نفسها. لا مبالغة في حكم هذه القارئة الغريبة التي أنصتت إليه مرة واحدة. في كلماته القليلة أعثر دائما لديه علي ما يشد الناس إلي بعضهم بعضا. وسركون بها كان يحس بألفة مع من يقرؤونه، ومعهم كان يدرك حقا أنه يكتب قصيدة له، فيها يعود من جديد بالكلمات إلي ميلادها.
شاعر من المغرب

محمد سليمان:
بعيدا عن السرد

حاولت في منتصف التسعينيات عندما كنت عضوا في اللجنة المنظمة لمهرجان الشعراء العرب إقناع زملائي بتوجيه دعوة لسركون بولص غير أن طلبي لم يلاق قبولا، وهكذا لم تكن علاقتي به إلا علاقة شعرية.
كان بولص كان من أهم شعراء السبعينيات العراقيين. ولد عام 1944 وسافر إلي أمريكا عام 1969 لكي يعيش بعيدا عن جذوره ولكي يظل منشغلا مع زملاءه من شعراء السبعينيات العرب والمصريين بالتجريب. وأظنه قد نجح إلي حد كبير مع زملاءه وديع سعادة وعباس بيضون في ترسيخ قصيدة النثر العربية ومنحها زخما وجوديا في المشهد الشعري العربي، رغم تأخر صدور أعماله، حيث صدر ديوانه الأول عام 1985 بعد أن كان قد تجاوز الأربعين.
صدر لسركون دواوين كثيرة ولكن المنفي ظل حائطا بين شعره والمتلقي بالإضافة إلي صدور عدد من دواوينه في الخارج. ولهذا فلم تأخذ قصيدته ما تستحقه من المقروئية.
كان يتكيئ علي تجربته الحياتية وخبرته وذاكرته وتأملاته ويبتعد عن الثرثرة وغواية السرد، وهذه النقطة الأخيرة، هي الفارق بينه وبين وديع سعادة الذي اعتمد السرد كثيرا في شعره.
رغم الأعوام التي قضاها بعيدا بالخارج والتي تكاد تقترب من الأربعين عاما، ظل بولص مسكونا بالعراق وتفاصيله والتراث الأشوري بحيث كتب عن أبي تمام وامريء القيس أو الأشوري المتقاعد الذي يخلع ضرسه بخيط ويربطه بجلباب.
أعتقد أنه لو كانت أعمال بولص قد طبعت منذ فترة طويلة كان سيكون له تأثير علي شعراء السبعينيات أنفسهم. غير أن تأخر نشر أعماله جعل تأثيره الأكبر علي شعراء التسعينيات. ربما يتضح التأثير في المستقبل أكثر عندما تنشر أعماله في البلاد العربية. ولهذا فأنا أنتهز الفرصة لدعوة الهيئة العامة لقصور الثقافة لطباعة أعماله.

محمود قرني:
من كركوك
إلي القصيدة.. وبالعكس

كان الاحتفاء الأجدر ل'سركون بولص'، لابد ان ينطلق من بغداد، ولكن أني لناوله ذلك­ فقد طاردته بغداد حيا، وطاردها منفيا، ثم لم يلبث أن مات دونها، في شتاءات برلين الباردة.
كان حظ 'بولص' عسيرا شأن كل الشعراء العرب الذين تآخت أزمنتهم مع أزمنة القصيدة القومية المجلجلة، التي اعتقدت في لحظة انها كانت تقود الحداثة العربية وشعوبها المهدرة الي جنة الدكتاتور العادل ثم بعد نكوص الحلم اكتشفنا­ دون مساعدة من أحد­ ان القصيدة نفسها كفرت بما قادتنا إليه وبات رموزها يتنصلون من ماضيهم، الذي بدا ناتئا وخشنا في حدائق العولمة وما بعد الحداثة في تلك الأجواء كانت شعرية 'سركون بولص' كالمداد الأبيض، يحتاج الي الكثير من الصبر والأناة لغلو شفراته كما يحتاج اكثر الي مزيد من الوعي الذاتي، والاعتراف بقوة الفردانية، في مواجهة غوغاء وديماجوجية الخطاب الجماعي.
كان مثل بورخيس، الذي ظل يكتب حتي التسعين ثم فاجأنا بانه يحتاج الي مزارع جديدة لتربية خياله، فقد كان يري ان هواء عالمه لابد له من أن يطوف حدائق الموتي والمعذورين بنفس الحمية التي يطالع بها أجساد العاشقات في ليالي ألف ليلة.
كانت النداءات الأولي لقصيدة النثر العربية التي طعنت قاموس الفصاحة، تبدو غريبة وشقية أمام نصوص تمتشق سيوف الثورة، وتتأهب كل صباح لامتلاك الحقيقة.
هذا­ ربما­ ما أوقع النص الجديد تحت وطأة الخطي الثقيلة للقاموسين الفرانكفوني والفيكتوري معا، بدا ذلك في قاموس الريادات الأولي لدي حسين عفيف وبدر الديب، ثم توفيق صايغ، و لم يغادر أنسي الحاج سوي في دواوينه المتأخرة. وربما كانت جماعة 'كركوك' التي نشأت في العراق وكان 'سركون' أحد مؤسسيها تمثل ذلك الرادع والنقيض الذي شاع في أدبيات مدرسة شعر البيروتية، وقد بدأ ذلك أقرب الي التحقق لدي 'الأب يوسف سعيد، مؤيد الراوي، صلاح فائق، فاضل العزاوي ، وسيركون بولص' نفسه، وان كانت تلك التهمة تحمل الكثير من مسوغات قبولها، فقد كانت النصوص المتأخرة لبولص واقرانه ممن واصلوا المسيرة أحد أهم تلك المسوغات.
وكلنا يذكر شبابا من اقراننا حفظوا ديواني سركون بولص 'الحياة قرب الأكروبول' و'الوصول الي مدينة أين'، بل واستبطنوا الكثير من رؤاهما وأعادوا انتاج تجربته باشكال شتي.
ورغم أهمية تجربة الشاعر فان حضوره في أدبيات الشعرية العربية ونقدها لايناسب­ بالمطلق­ أهمية اجتراحاته المبكرة، ويبدو ان عشرات الأسباب كانت تؤدي بسركون الي هذا المصطلي، بداية من مساهمته المبكرة في جماعة كركوك وبعض ما نشره بمجلة شعر ثم سرعان ما غادر الي العديد من عواصم العالم، وبدأ في معظم الأحوال­ معرضا عن الانتشار العربي، وربما كانت تلك الاختيارات المغامرة والصعبة هي التي حالت دون تجاوز سركون لدواوينه الخمسة التي بدأ اصدار اولاها في العام 1985، وهي سن متأخرة­ بالقطع­ لرجل مولود في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي.
ومن المؤكد ان سركون وجد الكثير من نفسه المغتربة في تلك الترجمات التي قدمها لكبار الشعراء في الولايات المتحدة، وكذلك في علاقته الخاصة بجماعة 'البيت'، لكن استمرار اقصاء بولص­ في كل الأحوال­ لأمر يدعو للدهشة والتساؤل.
أما الدهشة فبسبب هذا القدر الفائض من الجحود، وأما التساؤل فيستوجب عزاء في القيمة الأخلاقية كشرط ­كان يوما ما­ من شرائط الوجود.

قاسم حداد:
ذهب للشعر بثقة طفل

أخشي أننا سنفقد نكهة كاملة في حركتنا الشعرية بوفاة الصديق الشاعر سركون بولص.

ليس ثمة كهولة ولا شيخوخة، سركون بولص من الفتوة إلي الرحيل، كأن حياته هي الشعر الذي يكتبه، وليست الزمن الفيزيائي الذي يستغرقه، وهي ميزة لا تحدث كثيرا في الواقع، الشعراء فقط قادرون علي ذلك.
سركون ظل الفتي الذي لا يكتهل ولا يشيخ. قصيدته حصنته ضد الزمن.

كان أحد الشعراء الذين لم يتوقفوا للانشغال بتوصيف ما يكتبون، فقط كان مؤمنا بشعر يذهب إليه بثقة الطفل في حلمته الأولي. يلثغ، يتمتم، يتلعثم، ينهنه، يشهق، وتعال اسمعه عندما يقهقه الطفل.
سركون بولص كان يفعل كل ذلك ليكتب شعرا من الطفولة.

ھھھ

لعله كان يشعر بأن أفضل طريقة لإقناع العالم بضرورة الشعر وجماله وجدارته، هي كتابة الشعر الجيد والجميل والصادق.
سركون كان يفعل ذلك فقط، يفعله كمن لا يريد شيئا آخر.

بالرغم من ورشة الجدل والسجال واحتدام النقاشات التي اشتهرت بها جماعة كركوك ، ليس في أوانها فحسب، ولكن حتي سنوات قريبة حين دارت نقاشات حولها، بقي سركون بولص بعيدا عن الدخول في هذا السجال النقدي (أدبا وتاريخا)، معتزلا في نصه الشعري فحسب.

المرة الوحيدة التي التقينا فيها، قبل سنوات في مهرجان الشعر في مسقط، لم نتبادل كلمة واحدة عن الشعر، كان مأخوذا بالحياة أكثر عندما يتعلق الأمر بالعلاقة الإنسانية المباشرة، طفولته المسترخية منذ سنوات هي التي بقيت منذ ذلك اللقاء، وبعض اتصالات هاتفية قليلة يوم كان في أمريكا. صوته الرهيف حد التعب لم يكن يشبه صورته الشعرية الصارمة.

كلما غاب شاعر صديق فقدتج جزءا من نفسي.

الآن،
وحشة عميقة ستجتاح حركتنا الشعرية بغياب سركون بولص.
وحزن عظيم، أعزي فيه جميع الأصدقاء لهذا الفقد الفادح.

(شاعر من البحرين)

وديع سعادة:
وصلت أخيرا يا صديقي

يا صديقي سركون لقد وصلت أخيرا الي المدينة التي بحثت عنها طويلا. وصلت أخيرا يا صديقي الي مدينة 'أين'. من الحبانية الي كركوك الي بغداد الي بيروت الي سان فرانسيسكو الي مدن كثيرة بحثا عن مدينة لا تجدها، حتي أطلٌت عليك أخيرا في مستشفي في برلين! مدينة الموت، هذه إذا هي التي كنت تبحث عنها. هذه، ولا شيء آخر، التي نبحث عنها جميعا. هذه فقط هي ما يبحث عنه الشعر.
لا تزال لديٌ رسالتان منك أرسلتهما إلي من سان فرانسيسكو الي شبطين عام 1971. تقول في الأولي:' لم أنتظر الليل بل تقدمت نحوه وأنا أعرف عدوٌي وبلا درع أو شهادة أو تردٌد... ومن حين إلي حين، وجهي المعلٌق في مرآة محاكمة. وأنا دائما قاضي هذا العالم'وتقول في الثانية:' أكتب كرجل أنذروه بالساعة الأخيرة. كل ما أفعله لا يملك ذلك الرنين الحقيقي أو الحرارة الإلهية إلا عندما تخرج من أطراف أصابعي قصيدة تجعلني أستحق نهاري'... وقبل يومين، حين هاتفتك وأنت علي فراش الموت، كان صوتك متهدجا لكن بقيت فيه نبرة 'قضاة العالم'.
وما تركته يا سركون من قصائد لم يجعلك أنت وحدك تستحق نهارك، إنما يجعل كل قرائك يستحقون نهاراتهم.
اعذرني يا سركون، فليس عندي كلام أمام موتك.
الآن وصلني نبأ صمتك الأبدي، وما عدت أملك غير الصمت.

( شاعر لبناني)

تمت مراعاة الترتيب الابجدي في نشر الشهادات

مختارات من قصائد سركون بولص

حديث مع رسٌام في نيويورك
بعد سقوط الأبراج
(الي إيفان كوستورا)

"نهايتكّ أنتّ
من يختارها" قالّ صديقي الرسٌام.
"انظر الي هذه المدينة. يشترونّ الموتّ بخسا ، في
كلٌ دقيقة ، ويبيعونّهج في البورصة
بأعلي الأسعار".
كان واقفا علي حافة المتاهة
التي تنعكفج نازلة علي سلاسل مصعد ي واسع للحمولة
سجفجلا بإثنّي عشر طابقا الي
مرآب العمارة .
"إنها معنا ، الكلبة .
سمٌها الأبديٌة ، أو سمٌها نداءّ الحتف .
لكلٌ شئ ي حدٌ ، إذا تجاوزتّهج ، انطلقت عاصفة ج الأخطاء .
إنها حاشية علي صفحة الحاضر
خطوتها مهيٌأة لتبقي
حّفرا واضحا في الحجر.
أري إصبجعّ رودان في كلٌ هذا .
أراهج واقفا في بوٌابة الجحيم ، يشيرج الي
هوٌة ستنطلق ج منها وحوشج المستقبل ، هناكّ حيثج
انهارّ بجرجان ، وججنٌتْ أمريكا."

يوميات من قلعة فيبرسدورف

1

يتحوٌل آب الي جهامة أيلول. وفي رأسي
كالغيوم ، ترحلج الجبال : كتّلج الأفكار كثلاجات القطب
تتنقٌلج بضع ّ خطوات في كلٌ أبديٌة .
القرية ما زالت تحتفظ بأسرارها ، رابضة
بين حقول ي تنبسط ج الي آخر الأفق . ما زال في أركانها
بضع ج عجائز ، يتبادلن ّ آخر الإشاعات ، في الغسق ، قريبا من البركة
حيث تطفو بجعة وحيدة . أعرفج البيوت ، وحانتها الغارقة
في دخان غلايين الريفيٌين: أصغي لساعات ي
الي أجراس الكنائس العتيقة .
صفّحاتي تطفحج ليلا ، تتجمٌعج الكلماتج مثل طيوري جارحة.
في سماء ي خافقة ي بالنجذر، زمني طوعج يدي ، مستعدٌ للرحلة القا دمة .
حجرٌ في أن ألامسّ جذرّ المصيبة التي تطاردني عبرّ أيٌامي ، من بلدي النائي .
أو أن أنسي المضائق ، وأنطلق صوبّ البحر .
كم من حياةي ، إلهي ، مرٌت بي
مجعْولة ، آتية من هناك ، معصوبة ّ العينين لئلا تري...
الشرٌ ، تلك المطرقة ، كم من حياة ي تسحقج كلٌ يوم !
كلٌّ من لم يعجد واقفا في مكانه ِ تحت الشمس .

2

الريحج هنا ، شماليٌة من القطب
ينشطرج لها الطين ج في الأراضي المفخورة :
تتقشٌفج لها أيدي الفلاحين . تجقلقج مّنسوبّ الماء في الآبار .
ومن رّهبة ِ هبوبها ، تبقي المحاريثج عاطلة
في حافة الحقل ، والرفشج في سجبات .
لو أن ٌ أحدا تجرٌأ علي الخروج ، فالشتاءج غجراب
أسحّم ، يهبٌ في وجهه كعباءة أرملة .
ولي مدفأتي ، في غرفتي الصغيرة المطلٌة علي غابة .
أصغي الي قرقعة الدّرّفات ، الي مصاريع النوافذ الموشكة
علي الإقلاع ، فالعواصفج أليفة صارت ، والإصغاءج إليها عادة .
لا أنا بالهادئ ، البارد الأعصاب
ولا بالمتوجٌس ، القلِق ، المتوثٌب علي أقلٌ خّشخشةي ونأمة .
حّفنة بعد حفنة ، ّيتذرٌي العجمر .
كأنٌهج الحصاد ، والمِذراة ج في اليد ، والريحج مجقبلة .
تطفحج عجزلتي مثلّ جّرٌة تحت حنفيٌة الصمت .
أنا ملئ ، تقدٌّ مْ ، أيٌها الظلٌ . ادخجلْ الي بيتي . وانهّبْ ما تشاء.
صوت أيامي ، أزمنة الآخرين
لم نعد نحبٌ ما كنٌا مولٌهينّ بهِ .
ما كانّ يجسرٌنا ، كالرماد ِ، علي لساننا ، يستقرٌج.
لأنٌهج الأمس .
نجعانقج ما كان ّ، ولا نقشعرٌ عندما
نعرفج أنه الماضي ، تلك الججثٌة ج الأمينة .
للأشياء أحتافجها أيضا _
شجحناتج انتفاضاتها المحشودة
حتي التّكهْرجب ، وأسرارجها التي تجضاهي
في تّماديها ، لغة ّ السحابات الهاربة عبرّ سمائي .
هكذا صارت حياتي ، أشبهّ بجغرافيا
لا يمكنج تفسيرجها
بالمواقع ِ والأماكن ، وصوتج أيٌامي
لم يعجد قابلا للتبنٌي
من قِبّل ِ أزمنة الآخرين .
بينما العالمج لا يكفٌ عن تِردادِ أقانيمه ِ:
الخجلدج يحلمج في ججحره ِ المتواضع .
الفّراشة ج في طريقها الي الجنٌة
تطيشج عن حدٌ سياجي .
الكلبج ، خلفّه ج، يجفسٌرج إشاراتِ مرور العابرين
بقوانين الرائحة ، ووّقع الحذاء .
وحتي العصافيرج مشغولة
بتّفْلية ِ ريشها ، والحشّراتج في
أصدافها الهشٌة ، تتحصٌن...
ما من شاحذي لسكاكين الأيام هنا ، يتقدٌم
ما من اضطرام ي مفاجئ في قفير النٌّحْل: ما يحدثج
ليسّ سوي ما يحدثج في المعمورة ، وما من معني
لما يحدثج في حدوثهِ إ ٌلا
بالنسبةِ لمن يشهدج
الحدّث .
ومع ذلك ، من يجريدج حياة لها هذه النٌّعْرة
مجقبلجها قبل ، أمسجها يومجنا التالي ؟
وما غّدجها ، سوي لحظةي لن يسكنها أحد سواك .
أمٌا أنا ، فاعطني ما تشاء:
كلٌّ ما يذوي في لّمْح البصّر
كلٌ ما يجواصلج المّسْري
رغمّ ظلام ِ ليل العميان
لحظات في الحديقة
ما هيّ إلا
بضعج أجمسياتي مرٌت
ولم تمرٌ، أتوحٌدج فيها خلف البيت
أمامي أعشاب يابسة عالية بالكاد تحجبج عنٌي
شظايا الزجاج المتلألئة المرصوصة
علي السورِ، في الشمس
الضعيفة .
أجلسج لأحسبّ الثواني
لأفهمّ ما معني أن أمضي
أو أن أبقي في مكاني .
حالما دونّ أن أتابعّ الحلم . صامتا وفي نيٌتي
أن أصرخ . أمامّ بيوت ِ جيراني
تجرفرفج رايات كبيرة.
جنرالاتج أمريكا
يشحذونّ آلة ّ الخراب .
صامتا وفي نيٌتي أن أصرخ...
لا هذه اللمحة ج التي
أقتنصها من ملحمة الطبيعةِ قّسرا
تقودني الي سرٌ أطمحج أن أستجليهِ بكلٌ تلافيفهِ
المظلمة ِ يوما ، ولا ذلك المنحني
في ذاكرتي يسمحج لي
أن أري القناعّ الهاربّ الي الوراء ِ دوما
في أزقٌة حياتي الماضية .
الواقع ج أنٌني هنا ، في هذه الزاوية:
يدايّ في حضني، عيني
تجلاحقج بعوضة تطنٌ بين الأعشاب.
تطيرج فوق السور، تأخذ ج أفكاري الي المجهول ِ لحظة
لا أفكٌرج فيها ، لا أحلم ج ، لا أريدج شيئا .
لحظة جديرة
بأيٌ ناسك ي بوذيٌ .
ثجمٌ انتهت تلك الأماسي ، وعجدتج الي
عالم المجانين .
في بغداد

ضريحج الوليٌ تنقصه ج بضعج آجرٌ ات
من بلاطي أزرق وأحمر ، جدارهج الدائريٌ تغطٌيه
حتٌي قجبٌته آلافج الخِرّق من ثياب ِ مّن جئن ّ هنا
جيلا بعد ّ جيل ي من العواقر
يلتمسن ّ البرّكات !
حبٌاتج الكهرمان في سجبٌحة المجقرئ الأعمي
عجقّد مدمٌا ة لِكّم قلب ي
كان ّ يخفقج في أزمور ذات ّ زمن !
والعرٌافة ج الأريبة ، طارفة بعينها الخضراء
لتطردّ سرٌا غيرّ مرغوب ي رفرفّ من يدي المفتوحة
هاربا مثلّ غجراب ي الي البعيد ، تهزٌ الثمرة
في أعلي أغصان الزمن ، حجرا
له ج سيماءج الذهب...
إنٌها لا تجخبرني
عمٌا إذا كانت تعرفج كلٌ هذا
أم لا ، فنحنج لا نتكلٌم ج ، لا نقول ج شيئا
أو نجفصحج عمٌا لا يجقا لج في حضرة الأبد .
لا شئ منذ آدم

مقطوعة من الجذر هذه الأنشودة .
هذا الفيضج من الدجعاء ِ ليلا ، والي مّن هوّ مرفوع ؟
تنزلج الفأسج ، وما من حّطٌا ب .
لا الغابة ، بل الشجرة
وحدّها ، تتلقٌي الضربة .
في غّور البجستان ، تتلعثمج الظلمة
تعلوها سماء مستورة بصوفي
من غّزْل النجوم ِ، فوقي ، أنا المتعرٌي من هذا
القميص ِ ، ولستج حتي يوسف .
تذهبج الأغاني . تجئج المراثي .
لا شئّ منذ ج آدم غيرج ملحمة التجراب .
السماءج تحتضنج غيمتّها اليتيمة
والليلج يقبلج أن تجرقٌعهج ألفج نجمة
شارة الانبعاث

شارة ج الانبعاث اليوميٌ
كفٌت عن الإضاءة
في آخر النفّق ، لم أعجد صالحا للإنجراف
مع المجناخات الزائلة
(لقد خّرٌبوا الأوزون ، تقولج الجرائد
من أجل هذه السيٌارات اللعينة !)
ربٌما كان هذا هو المعني :
أن تترك المحطٌات خالية وراءّك .
ربٌما كان هذا هو المعني: أن تتعلٌم كيفّ تحيا .
كيف تشمٌ رائحة ّ الأشنات علي ساحل البحر
حيثج تمشي كلٌ مساء لتستعيدّ قجدرتكّ الأولي
علي التنفٌس : كم كان ّ من الصعب أن تجطلٌقّ التدخين !
أن تجطلٌق السحرّ مثل بروسبيرو
في مسرحيٌة شكسبير الأخيرة ، وتكسرّ عصاك .
الريحج تكفٌ عن عجوائها في القصيدة .
تعود ج، كلٌ مرٌة ، الي الأرض
لتنسي مذاق ّ
الجنٌة .
الكوٌة

إذا لم تفتح الكوٌة
لن تطيرّ الي غرفتكّ الحمامة .
الماءج يجهلج أسبابّ الظمأ الأخير، والأرض
تتشقٌقج رغم البراهين الدامغة علي وفرة الماء .
الصمتج لن ينفتحّ كالصّدّفة
إذا لم تعرف كيفّ تولدج الوردة ج أو تموت .
قّلم علي المائدة ، دفتر كمروحة الغيشا
يجرفرفج في خيال الورٌاق .
القصيدة قد تضيعج ، إذا لم تّجد الخيط ّ الخفيٌ .
والراوي لن يعرفّ القصٌة
طفلة الحرب
الي طفلة عراقية ولدت في الحرب
وفي الحرب ماتت
الطفلة ج جاءت ، تلك المفقودة ج
في الحرب
واقفة في نهاية الممرٌ، في يدها شمعة
أراها كلٌما استيقظت ج من نومي
في الساعة الأولي من الفجر. إنها تنتظرج ارتطامي
بجدار الحقيقة .
عيناها
الكبيرتان من فظاعة الحكمة
تصبجران في أشواك الرجبي
حيث ج أفكاري تجوسج ليلا ، يدي التي
بإمكانها أن تقطع ّ قيودّها
صوتي الذي قد يطرح ج أسئلة
علي القاتل ِ أو الربٌ
تعرف ج هي أجوبة
عليها...
كم طالت الحرب
يا طفلة ؟
كم من الليالي
في قاع أيٌة ِ بئر ي؟ أيٌة ج أبديٌة للأذي الآتي
من كلٌ الجهات ؟
ماذا كان الجنرالج ذو الأربع نجمات
سيفعل ، إن حرموا طفلته ج من حليبها ليوم ي واحد ؟
تقول ج الطفلة :
لقد أخذوا أهلي في سفينة
الي العالم الآخر .
كنت ج أعرف ج دوما
أنهم سيتركونني هنا ، وحدي ، علي الشاطئ .
كنت ج أعرف...
سكٌة

نوافذ ج القطار الأرضيٌ
غائمة ج الزجاج ، تفرٌ الأشكالج عّبرّها
كأنٌما من عفريت ، وتنفّرزج وراءّنا في خانة الفوائت .
زعيقج العجلات علي السكٌة
ظهورج المحطٌة التالية في انعراجة النفّق الملئ بالعويل
وبضعة ج صعاليك علي الرصيف
يكرعونّ خمرة من قنان ي مخفيٌة ي في أكياس الورّق .
إنٌهج نفسج الفراغ الطالع
من حضرة آخر الليل في أيٌة مدينة
مجتخّمة ي بالأحياء وبالموتي : باريس ، برلين ، لندن ، نيويورك .
آخرج الغرب . نهاية ج الخط ٌ . سكٌة ج الختام .

الأطفال المسحورون والمدينة

(الي فخريٌة صالح الراوي)
أبواب ج تلك المدينة عالية
كما لم نرّ من قبل ، جداريٌاتها ملأي بمراكب
تعبرج الي بحري، وجهتجها ثمٌة موانئ .
وفي أطرافها ، دوما ، ملكوت
مخّصٌص لأطفال ي يلهونّ بلا رخصة ي من صاحب الجنٌة .
عيونهم جواهر ج لا تفقه ج معني البريق .
كالراقصين ، يدور ج الأطفا ل ، يدورون ّ وكِنزاتهم علي
خصورهم تنزاح ، شعرهم يختضٌ في التقائهم بضوء نجمة
مادٌين ّ أيديهم الصغيرة نحو أقواس الجدران العالية .
ها هم السجعّداء ، وكم هم جديرون ّ بالمحبٌة !
أري أطيافهم في الحلم ، بين بقايا مدينتي
وهل هم أكثرج من أطيا في يا تجري ؟ بأحذية ي لا تجري
يركضون ّ علي أرصفة الليل ، وثمٌة هالة تجحيط ج بكلٌ بناية .
إنهم يعطون ّ للمدينة ما لا يجعطي
ويقرأون الكتابة المستضيئة علي وجه البيوت .
وكالطيورِ في الصحراء ، يجغنٌون من أجل لا أحد .
ما نفعلهج الآن
شيء ضائع بين التقاطيع
يطفو كطائر مقتول في بركة النظرة .
زوج تولٌي، أمٌ تموت
ابن ترينه في الحلم كلٌ ليلة.
"كان ملاك البيت
ونوري الوحيد".
والآن تستيقظين علي صوت طارقي
في بعض الليالي تحمله اليكِ
العاصفة...
البرق يخيط السماء بأسلاك من الفضٌة
المطر يغسل النوافذ بماء المعجزات.
هذه الساعة التي ستجدنينا
أو تفرٌقنا، أو تذكٌرنا بأن ليلتنا هذه
قد تكون الأخيرة، وتعرف انها خسارة أخري
سيعتاد عليها القلب مع الوقت.
فالوقت ذلك المبضع
في يد جرٌاح مخبول سيعلٌمنا ألا ننخدع بوهم الثبات:
"أقل ممٌايكفي، أكثرج ممٌا نحتاج".
أقل مما يكفي هذا الأرث الفائض من مكمنه
في صيحة الحبٌ الأولي
أولي في كل مرٌة.
أكثر مما نحتاج طعم الرغبة هذا
كما لم نذقه من قبل
لم نذقه من قبل..
وكل إطلالة علي الهوٌة خطوة أخري
في الطريق السالكة الي الذروة:
ما نفعلهج الآن.
أنا الذي

لا نأمة.
هل مات من كانوا هنا؟
لا كلمة
تّرِدج اللسان ­
الانتظارج أم الهجوم؟
أم التملٌصج من ...
كهذا الصمت
حين أجهيل جمرّ تحفٌجزي حتي
يبلٌدني التحامج غرائزي: أرعي كثوري في الحقول
أنا نبوخذج نجصٌّر ­
تجلقي الفصولج إليٌّ
أعشابا ملوٌّثة، وأجلقي النردّ
في بئر الفصول ­
لأجتلي سرٌا
يعذٌبني؟
يعذبني طوال الليل. حتي صيحة
الديك الذبيح.
لأجتلي سرٌا.
وأسمعّ ضجٌةّ الأكوانِِ؟
(إنهج مأتمج
قالوا لنا: عجرْس)
جيوشج الهمٌ تسحبني
بسلسلةي
ويستلمج الزمانج أعنٌةّ الحوذيٌ ­
تسبقنا الظلالج.
وراءنا:
كلٌج الذينّ، وكلٌج مٌنْ
"طال الزمن"، قال الرجل.
شمس علي هذا
المشمٌع فوق مائدتي:
نهار لا يضاهيه نهار. كوجه الله
تبقي تحت عينيٌ انعكاستها، وتخرقني
الي قاعي كرمْحي ­
إنها شمسي.
وملأي غرفتي، بيتي، كقارب رّعْ
تسافرج في المتاهة
بالهدايا.
شمس علي صحني
وصحني، في الحقيقة، فارغ:
حبٌات زيتوني، بقايا قنٌبيطي، عظمة...
ما زاد عن مطلوبنا.
تلك البقايا..
نجتفة في كل يومي، قشرة
نلقي بها في لججة التيار ­ يبقي الصحنج.
والسٌكين.تبقي شوكةج
أبقي. وجوعي، تجخمتي.

الشمسج أو ليمونة
تطفو علي وجه الغدير المكتسي
بطحالبي ألقي الي أكداسها حجرا
فتخفقج، مرة، وتجبقْبِقج الأغوارج
فقٌاعاتج أوهامي مبٌددةي
رغاب لم تجسدها الوقائعج
جّمجّمات لا محلٌ لها من الإعراب
أطماع. دهاليز. وعود بالعدالة؟
(بالسعادة!)
رغوةج الكلمات في بالوعة المعني
تواريخ
وثمٌةج من يجفبركها، ويشطبنا بممحاةي ­
لنبقي.
قال الرجل: "فاتّ الأمل.
زادّ الألم"
شدٌوا الضحيٌة بين أربعةي
من الأفراسِ
جامحةي.
جنود يسكرون. جنازة عبرت وراء
التل. هل جاء البرابرةج القدامي
من وراء البحر؟
هل جاءوا؟
وحتي لو بنينا سورنا الصيني،ٌ سوف يقال: جاءوا.
انهم منٌا، وفينا. جاء آخّرجنا
ليجضحكنا، ويجبكينا..
ويبني حولنا سورا من الأرزاء. لكن، سوف نبقي.
هناك، في بلاد باتاغونيا، ريح
يسمٌونها "مكنسة الله"
ريح
أريدج لها الهبوبّ، علي مدار
الشرق، في أسماله الزهراء
والغرب المدجٌج بالرفاه: أريد أن أختارها
لتكون لي
أن أستضيف جنونها
إذ تكنس الأيام والأسماء
تكنس وجه عالمنا كمزبلةي
لتنكشف التجاعيدج العميقة تحت
أكداسي من الأصباغ
والدم، والجرائمِ
والليالي.
أقْبلي، يا ريحج.
مكنسةّ الإلهِ، تّقدٌمي.
قال الرجل. قال الرجل
لا ترمِ في مستنقعي حجرا
ولا تطرق علي بابي فلا أحد
وراءه غيرج هذا
الميٌت الحيٌ الموزع بينّ بيني في أناهج، بلا أنا
يأتي الصدي:
هل مات.
من كانوا.
هنا.

جاء الواحدج الذي يقولج، والآخر الذي يصمتج.
الذي يمضي، والآتي من هناك.
بينهما
كلمة، أو نأمة.
بينهما أنهار من الدم جرتْ، فيالق تسبقها الطبولج.
ولم يستيقظ أحد.
بينهما صيحةج الجنين علي سنٌ الرمح
في يد أول جنديٌي أعماهج السٌجكْر
يخسفج بابّ البيت.
بينهما مستفعلن، أو ربٌما متفاعلن؟
لا
ليس بينهما سوايّ :
أنا الذي
بورتريه للشخص العراقي
في آخر الزمن ..

أراه هنا، أو هناك:

عينهج الزائغة في نهر
النكبات، منخراه المتجذٌران
في تجربة
المجازر، بطنه التي طحنتْ
قمحّ
الجنون في طواحين بابل
لعشرة آلاف عام“
أري صورتّهج
التي فقدت إطارها
في انفجارات التاريخ
المستعادة
تستعيد ملامحها كمرآةي
لتدهشنا في كل مرة
بمقدرتها الباذخة علي التبذير.
وفي جبينه الناصع
يمكنك أن تري
كأنما علي صفحات كتابي
طابورّ الغزاة يمرٌج

كما في فيلم بالأبيض والأسود:

أعطه أيٌّ سجن ومقبرة
أعطه أي منفي
أي هنا، أو هناك
ورغم ذلك يمكنك أن تري
المنجنيقات تدكٌج الأسوار
لتعلو مرٌة أخري.
وتصعد أوروك من جديد.

حانه الكلب
سركون بولص

لا أخفي عليكم أنني أنا أيضا
أفكر أحيانا بماهية الشعر بخطورة القضية
بنوع من التوبة كما هي حال الجميع وفقر العصافير الأسطوري وفي أغلب الأحيان وأنا نائم أحلم أنني أتعثر برجل نائم تحت جبل وأركله لأوقظه برفق أولا ثم بتهور وصراخ حتي يستيقظ، و يوقظني وأحيانا يكون الفرق الوحيد بين الحياة والنوم هو هذه العلاقة الزجاجية بين المصادفة والقصد بين أن تستيقظ بنفسك، أو أن توقظ، بواسطة حذاء حتي إذا لم يكن هناك جبل حتي إذا لم يكن هناك!
ذات فجر يقع المحظور برمته ودون مصالحة
كما يقول صديقي الذي كتب أطروحة عن صمت أبي الهول لنيل شهادة الدكتوراه باليانصيب ذات فجر يقع المحذور ينتقل فيه نبع القرية من وراء السياج إلي فم رجل نائم يرصٌعه الظمأ يحلم أن فرقة مدربة من الأعداء تهيل الصحراء بالرفش وطوال الليل في قصبته الهوائية، دون كلل، ذات فجر عندما يقع المحظور ويحظر التجول ويفشي السر تحت شبكة الأحكام العرفية غيمة واطئة تركب أبخرة النهر تتلصص علي النائمين في ضفتيه بثقوبها المطرية الاثني عشرة، أو ربما كنت أؤمن ببساطة، أن هذه التورية هي المسؤولة ترفع بالسطل مخلوقا أخضر كان ينام بانتظاري في بئر السبعينات ومنذ الطفولة أو ربما كنت أؤمن ببساط الريح إيمانا أعمي لا يشفيني منه علماء الجاذبية حيث القصائد لا تحتاج إلي مجذاف لتعبر بنا جميعا إلي الضفة الثانية وكل كلمة فيها، كوٌة سرية يتجسس منها الماضي.
علي الأحياء. في حالات كهذه عادة أحوم حول أسوار العالم حيث أسجل في دفتري مواقع الثغرات بدقة وأضيفها إلي الخارطة بالمسامير أفكر بجبران بن خليل يسير في نيويورك بشجاعة الحالمين، بأبي فراس أسيرا في بلاد الروم يخاطب (علي بحر الطويل) الحمامة وعندما أكاد أنسي العربية اغمض عينيٌ وأحلم لأستحضر المعجم من الذاكرة في رأسي مركب نوح في بحر متلاطم من المخلوقات تدوزن كل سمكة فيه حراشفها وهي تسبح في / علي عتبة / خارج نافذة مشرعة علي مصراعيها وسط لساني موسيقي ربع اللحن بيات أصفهان سيكا همايون الشرق يدندن علي العود في آبار الجهة الغربية وعلي حين غرة.
وعنوة وبالكاد ولكن تماما كأنما في موسم للرجم بالحجارة يصب فيه الجميع سخطهم علي النوافذ في قصور الذئاب المالكة يظهر راوية ذئب مهلهل الثياب حاد يهلهل هامسا يهمهم بالهلاك يروي عليٌ كالسيل ويل الشعر: رأس مشعث يثب من مناماتي من قراب ذاكرتي من حجارة المعرٌات حيث الشعراء يطالبون بأن يسمّلوا ليفتحوا حوارا مع رهين المحبسين أو أقرب العميان يهمهم بالهمس يهلهل بالهلاك كأنني فتحت حنفية المحيط بمطرقة.
يروي عليٌ كالسيل ويل الشعر رعش الليل وقيل إن شاعرا جاب ممالك مؤرقة تحكمها بمشاعل من ذهب خالص رعشة وحيدة.
تحاول الفرار من ثغرة في رسغه كان يجلس في الإيوان المهيأ لذوي المظالم البعيدة كان يجلس في الديوان المهيأ لرمل لا يعرف مستقرا.
ينتظر قافلة منسية في بئر الآلاف بيدين ضارعتين ديباجا ترفوه يداه اللتان تتجاهل إحداهما الأخري وحبرا وفيرا يسيل علي حين بغتة إلي وريد البائية الأبهر من قبر الحائية الكبري من يديٌ الأعمي الذي نظر إلي أدبي بعينه الثالثة وبكي.
كان رحمه الله يصبٌ العزلة في إناء من الفضة كل مساء أو نحوه و ما إن يشرف الغروب علي الهروب وإذ يرفعه إلي شفتيه (أي الإناء لا المساء) كانت والله أعلم (هنا قد يهر الراوية كتفيه أو يقهقه بجنون أو ربما يجهش بالبكاء) أفعي رقشاء مكحولة العينين بتوابع الزوابع الرمادية تصعد بدلال.
وغنج من باطن الإناء وتقصد الراحة في حاجبيه الكثين= رأس يثب فجأة من خندق فمي حين أفتح شفيٌ من الظمأ يتسلق أسناني أكياسا من الرمل هاجما إلي الأمام شعره مشعث ولكن في فمه كالإعجاز تتذأبن الحمامة يهدل الذئب يذكرني بالحروب بالحصارات وأحيانا بحزن ينصب منجنيقات الضوء الصدئة حول قلعة أوهامي التي نهضت وتركت مكانها علي التلة ذات ليلة.
ذئبي الذي يهدل بين الخمائل بعذوبة، حمامتي التي تصيد الحملان لتذكرني بالطرق الطويلة التي قطعتها لتصل وتنقذني بوصولها من التبول في فوانيس القطارات ومضاجعة التلال المجنزرة بأفخاذ العذاري. ثم نامت الصحراء، واستراح التراب.

وجدت نفسي نائما في حانة السلحفاة والأرنب في حانة الكلب والثعلب ورجل الأعمال في حانة الخلد والفراشة والعظاءة والقرد بجانبي مقامر نائم تتدلي ذراعه من الكرسي وفي يده ملكة دينارية وجوكر. أطباء ملتحون، حلاقون وعارضات أزياء أساتذة وتجار ماشية وتجار أسلحة ومهندسون يدللهم الحاكم والنائب والله.
وتحرسهم الدولة بالمدافع بحياة آلاف الشعراء والعاطلين إذا اقتضي الأمر يتقاضون أجورا عالية لن أطالها حتي في أكثر أحلامي تفاؤلا في عطلة رخية علي المحيط الهادي تحت القمر الغربي الذي يحمل كتابات بالإنكليزية وبالروسية في جانبه المظلم، لافتات في "بحر الهدوء" تعلن مالكيه.
وجدت نفسي نائما في الجانب المظلم من العالم أثقب كل صباح في مكتبة الآلام العامة عن جذر يربطني بك، أنت، دائما وحتي أنني أتردد في أن أسميك لأنك، لست امرأة أو الأرض أو الثورة ، شجرة فقيرا حذاء في الطوفان لا أسمي أحدا بالضبط لكنني أريدك أن تشعر بخطورة القضية! لكننا نبدأ عادة بالبداية أي الخروج بكل ما نملكه من الصدق نحو الفريسة التي ستقودنا إلي قلب المعني لأن المعني دائما هناك يدخن صابرا في نهاية القصيدة.
منتظرا وصولك وهو يبتسم باحتقار وأنت تلهث أو تبكي أو تصل بقدم واحدة أو مشلولا من النصف أو ميتا من التعب يطاردك الدائنون بهراوات القانون أو في نقالة المرضي أردت أن تكون هذه قصيدة تجرب فيها أن تهاجم نفسك بالقلم والجوع و المشاعل والحجارة؟ ليصب بعض الدم في حضن القارئ؟ لكنني ويجب أن تصدقني (أعلم انك ستصدقني) أؤمن بأنها ضرورية إيمانا غريبا يفاجئني لأنني لست واثقا من نفسي حين أقول هذا!
لذلك أخرج لأشتري علبة سجائر في أعماق الليل وأزور صديقي لنناقش الشعر ونقذف المسبات في وجه الغرب حيث نعيش كلانا مؤقتا بالدين وبنوع من الشعور العميق بالعمي والتبول بإسهاب علي تابوت الرأسمالية الباهظ التكاليف كأننا شربنا برميلا كاملا من البيرة الرخيصة.
أطرق علي الباب ثم أطرق علي الباب ثم أصيح ولك قواد! لك أخي افتح يا هذا وأسمع حركة متراجعة كالريش نحو الأعماق ثم صوتا بإنكليزية زنجية تشوبها لكنة فلسطينية لا تخطيء ولوا يا أولاد القحبة ماذا تريدون لن أعترف لكم لن أعترف ك، س، م، ح، (غمغمة غير مفهومة بأية لغة (ضحكات يائسة بالعربية).

الصباح أذهب إلي فلمور وهو حيٌ الزنوج في سان فرنسيسكو علي طريقة هارلم في نيويورك لأزور صديقي الفلسطيني في دكانه المسيج بالقضبان (جميع الدكاكين في أحياء الفقراء بأمريكا مسيجة بالقضبان) صباح الخير كيف الصحة أبو الشباب؟ وكأنه يقذف باتجاهي قرحة مزمنة: بلاد العرصات بدك تشنق حالك، مش هيك؟.
بيخلوك تروح تستأجر شجرة! وإلا عمود تلغراف؟ كيف حال الشعر هذي الأيام؟
لعلك أدركت قصدي، من الواضح كما تري أنني أهدف إلي شيء غامض قليلا لأنه لم يكتمل بعد وأقول هذا بمنتهي البساطة أيها الصديق لا أريدك أن تسيء فهمي هذه كلمات بسيطة مكتوبة بالعربية بالمناسبة أذكر هذا لكي لا تتهمني بأنني تأثرت في كتابتها، بشاعر "عالمي!" .
أي شاعر يخاطر بالكتابة علي هذا النحو لن يكون حتي محليا! وسيقضي سنواته الباقية.
بعيني نسر محموم أو رجل ينتظر زيارة صاحب البيت الشهرية وهذا يعرف جيدا أن الرجل الفقير لا يستطيع أن يدفع الإيجار لكنه مع ذلك وللتسلية، أو إشباعا لنزعة غريبة في الإرهاب، أو ربما لأن الكلب يعرف أن شرطة العالم والتاريخ كلها تقف من ورائه يقرع الباب بحذائه، وخصوصا بالكعب المليء بالمسامير...
سيقضي سنواته الباقية إذن بانتظار الجلاد الذي سيأتي متنكرا ببدلة ممرض رسمي طيب القلب يخفي وراء ظهره سلسلة حديدية وسترة للمجانين.
ابتسامته الكاذبة ستملأ الأرض بموضوع هذه القصيدة.

من كتاب (إذا كنت نائما في مركب نوح) الطبعة الأولي ­ منشورات الجمل­ ألمانيا­

للشِعر وطّنّان
سركون يولص

ترجمة: يعقوب المحرقي

يتعاطي الشاعر مع الزمن، فكل ذلك العروض وتعقيدات الموسيقي والصوت ما هي إلا طرق لقياس الزمن قطرة بقطرة، كما تتسرب من بين أصابعه وتتبخر في العدم." فالقطرة التي لا تتحول نهرا تلتهمها الرمال "

يقول غالب في إحدي غزلياته. وقت بعد آخر نكتشف حقيقة انه عندما نكتب فإننا فعليا نتذكر، ليس الماضي بذاته، ليس شخصا أو مكانا، مشهدا أو صوتا أو أغنية، ولكن أولا وبشكل رئيسي نتذكر كلمات. الكلمات الكامنة في ذكري محددة، والحاملة لصدي مكان وزمان محدديٌن. لكن مشكلة الشاعر ليست أساسا في المجفردّات. تكمن المشكلة في كيفية أخذ المفردات القديمة ووضعها في محيط جديد، في بني جديدة ستتحدث عن حاضرنا. وتضيء ما يحدث الآن. إذن فوظيفة الذاكرة ليست يسيرة: فعلي الفرد معرفة الكلمات ومعانيها، ولكن عليه أيضا نسيان محيطها الذي وججِدت فيه.

لهذا السبب قد يجد المرء أثناء الكتابة، في منتصف رحلته أو قرب نهايتها، انه طوال الوقت كان يسافر صوب إيثاكا، وأنه انما تركها من أجل العثور عليها من جديد.

كانت " جيرترود ستاين " هي التي قالت: علي الكتٌاب أن يكون لهم وطنان، ذاك الذي ينتمون إليه. والآخر حيث يعيشون حقيقة. الثاني رومانسي، منفصل عن ذواتهم، هو ليس بحقيقي ولكنه حقيقة هناك.....
طبعا في بعض الأحيان يكتشف الناس وطنهم كما انه الآخر ".
هناك حكاية تنسب الي جلال الدين الرومي تقول: ذهب رجل الي بيت المعشوق، قرع الباب. فسأله الرجل:داخل البيت: مّن هناك ؟ فأجاب الرجل: إنه أنا. فقال له الصوت: هذا المكان لا يسعنا أنت و أنا.
وبقيٌ الباب مغلقا. فانصرف الرجل، حائرا، مرتبكا و مستغربا من هذه الكلمات، متأملا معانيها الخفيٌة.
وبعد سنة من العيش في عزلة، محروما من ابسط متع الحياة، قرر الخروج وقرع الباب ثانية. سأله ذات الرجل: من داخل البيت: من هناك ؟ فأجاب الرجل: انه أنت. فانفتح الباب.
بالطبع بالنسبة للصوفي فانه لكي ينفتح الباب لا بد من المرور بسلسلة من التمارين الروحية الصارمة، وبهذا يستطيع الدخول في حضرة المعشوق، كما يسميه المتصوفة أو الله. مهمة الشاعر الذي تقتصر أدواته علي الكلمات مختلفة. فبالنسبة إليه يبقي الباب مغلقا حتي ينجح هو من خلال تفان كليٌ في دخول أحجيٌات اللغة ذاتها. ولأن الفن خالد وحياة الإنسان قصيرة، فليس هناك من شاعر استطاع الوصول الي إتمام هذه المهمة الرائعة، حتي كبار الشعراء. فما يحدث هو أن كل شاعر تاريخيا، سواء بوعيٌ أو لا، في الواقع يكمل عمل من سبقه من الشعراء، شيء يشبه قصيدة لا متناهية أو سلسلة حروف تمتد الي الأبدية، أو الي نهاية الزمان. كتب الشاعر ميلوش قصيدة تعبر عن هذا بدقة، تحكي عن رحلة لا تصدق لشعراء عبر الأزمنة، كثِلٌة من البشر اختارت طريقها، تحدب علي قول الحقيقة، ولكن بطريقة تخيليٌة وعلي نحو ما طفوليٌة.
وفي ذات المعني يطرح بورخيس في مقالته " وردة كولريدج " فكرة مشابهة: إن كل الشعراء في الواقع
يجفصِلون ذات الملحمة القديمة والتي تعد كل قصيدة مجرد جزء منها. أحببتج قصيدة ميلوش كثيرا، فترجمتجها إلي العربية ونشرتجها في صحيفة يومية تصدر في لندن، حيث كان الشاعر الحائز علي جائزة نوبل سيقرأ شعره في مهرجان لندن للشعر. كان الشاعر الكبير معجبا بالحروف العربية وسألني بتشوق أي قصيدة هذه ؟ فقلت له إن عنوانها " تقرير " ومن الواضح انه مرفوع الي الإله أو أية ذات يدعوها " بالعلي القدير " فافتٌر ميلوش مبتسما: "أي نعم بالطبع ": تعرف بأنني بعثت له عدة تقارير عبر السنين، ولكنه لم يجبني قط ". لم استطع المساعدة بالقول للشاعر الكبير: " من يدري، عله سيفعل ذلك يوما ما ".

أخبار الأدب
28 اكتوبر 2007

يتبع..