(بوهيمي في الحياة ومهندس صارم في القصيدة)

سركون بولصلندن ـ بيروت ـ القاهرة ـ القدس العربي :
عن نحو ثلاث وس ين سنة وبعد صراع مرير وصام مع المرض وفي الشاعر العراقي الكبير سركون بولص في احد مس شفيا برلين، لم يكن الخبر مفاجئا لكثير من اصدقائه، فهو كان يعاني من المرض ولكن، مع ذلك، اك سب خبر رحليه وقع الصاعقة علي من عرف هذا الشاعر العراقي المميز شعرا وحياة، وكذلك علي من قرأ شعره واحبه، لسركون بولص منزلة خاصة في الشعرية العربية، فهو احد أهم شعراء، الس ينا ، في العراق والعالم العربي، برز اسمه في مجلة، شعر، في ف رة مبكرة من حيا ه، وعرف في الوسط الشعري العراقي مع عدد آخر من شعراء الس ينا باسم، مجموعة كركوك، نسبة الي المدينة العراقية الشمالية، _وكان لسركون، داخل هذه المجموعة موقع المحور، بسبب اطلال ه علي الشعر والأدب المك وب باللغة الانكليزية، غادر سركون بولص العراق في نهاية الس ينا واقام ف رة من الوق في بيرو حيث عمل في مجلة، شعر، في اواخر ايامها، ثم انطلق من العاصمة اللبنانية الي امريكا حيث ظل يقيم الي يومنا هذا، لسركون بولص بضع مجموعا شعرية منشورة من بينها، الوصول الي مدينة أين، الحياة قرب الاكربول، الأول وال الي، اذا كان نائما في مركب نوح، حامل الفانوس في ليل الذئاب، اضافة الي مجموعة بعنوان، عظمة أخري لكلب القبيلة، س صدر خلال أيام عن دار الجمل، في ال مانيا،
هنا اس جابا سريعة، علي وقع الخبر الأليم، يقدمها عدد من الشعراء والن قاد العرب، اضافة الي بضع قصائد من ديوانه قيد الصدور، عظمة اخري لكلب القبيلة،

***

الشاعرُ العراقيّ الوحيد

سعدي يوسف

سركون بولص (1944 ـ 2007)، يرحل في برلين...
في مستشفيً ببرلين.
في تمّوز، هذا العام، وفي الجنوب الفرنسيّ، في مهرجان لودَيف تحديداً، ألتقي سركون لقاءً غريباً.
كنتُ أعرفُ أنه في لودَيف، قادماً من لقاءٍ شعريّ بروتردام، لكني لم أجده في الأيام الأولي. انطلقتُ باحثاً عنه في الفنادق والمنازل، بلا جدوي. أنا أعرفُ أنه مريضٌ، وأنه بحاجةٍ إلي انتباه واهتمامٍ... لم أعثرْ عليه في هذه البلدة الصغيرة التي لا تصلحُ أن تكون بوّابةً حتي لنفسها...
سألتُ عنه أصدقاء، فلم يجيبوا.
عجباً!
وفي صباحٍ باكرٍ. عند مخبزٍ يقدم قهوة صباحٍ. رأيتُ سركون جالساً علي الرصيف. كنتُ مع أندريا. قبّلتُه: أين أنت؟
كان شاحباً، مرتجفاً من الوهَن، محتفظاً بدعابته: في الساعة الثالثة فجراً طردتْني مالكةُ نُزْلِ الورود.
La Roseraie
كانت تصرخ مرتعبةً حين وجدتْني متمدداً علي أريكةٍ في البهو. سهرتُ مع خيري منصور وغسان زقطان. هما ذهبا ليناما في غرفتَيهما. لا مجال لي للعودة إلي الغابة. قلتُ أنام قليلاً هنا حتي انبلاج الصبح. لكنّ السيدة جاءت...
سألتُه: عن أيّ غابةٍ تتحدّث؟ (ظننتُه يهذي). قال بطريقته: إي... الغابة التي اختاروا مسكني فيها. ليس في المسكن فراشٌ مجهّز. المكان مقطوع. هناك سيارة تصل إلي المكان مرةً واحدةً في اليوم!
أخبرتُه أنني بحثتُ عنه في كل فنادق المدينة ومنازلها.
قال إنه ليس في المدينة!
جلسنا معه علي الرصيف.
فجأةً لمحتُ إحدي المسؤولات عن المهرجان تخرج من باب منزلها.
ابتدرتُها بالفرنسية: Il va mourir dans la rue...
سوف يموت في الشارع!
عواهرُ المهرجانات، يستمتعن، كالعادة، في غرفاتٍ عالية...

**

قلقي عليه ظلّ يلازمني.
حقاً، اشتركتُ معه، في جلسة حديثٍ مشتركة، أمام الجمهور، عن العراق، وكان رائعاً وراديكالياً كعادته، ذا موقفٍ مشرِّفٍ ضد الاحتلال، علي خلاف معظم المثقفين العراقيين. أقول إن هذه الجلسة المشتركة التي بدا فيها أقرب إلي العافية، لم تخفِّفْ من قلقي عليه.
رأيتُه آخر مرةٍ، في منزل الوردِ التعيس، حيث جاء به أنطوان جوكي ومصوِّرُ سينما. قالا إنه سوف ينزل هنا (المهرجان أوشك ينتهي). ظلاّ يرهقانه بمقابلةٍ تافهةٍ
ثم أخذاه فجأةً إلي خارج منزل الوردِ. سألتُهما: أين تمضيان به؟ إنه مريض.
أجابا: هناك إجراءٌ رسميّ (توقيع أو ما إلي ذلك) ينبغي أن يستكمَل!
قلتُ لهما: إنه لا يستطيع السير. دعاه يستريح. نحن نعتني به.
قالا: لدينا سيارة!
انطلقت السيارةُ به، مبتعدةً عن منزل الورد.
في الصباح التالي غادرتُ لوديفَ إلي غير رجعةٍ.

**

قلقي عليه ظلّ يلازمني.
اتّصلتُ بفاضل العزاوي في برلين. ألححتُ عليه أن يتابع حالة سركون.
سركون في غُرَيفةِ مؤيد الراوي.
ثم اتصلتُ ثانيةً. قلت له إن سركون في المستشفي.
طمْأنني فاضل عليه.
لكني لم أطمَئِنّ.

**

هذا الصباح، ذهب خالد المعالي، يعوده، في المستشفي البرليني، ليجده ميتاً...
(التفصيل الأخير تلقّيتُه من صموئيل شمعون الآن...)

**

ذكرتُ أن سركون بولص هو الشاعر العراقيّ الوحيد...
قد يبدو التعبيرُ ملتبساً.
لكن الأمر، واضحٌ، لديّ.
سركون بولص لم يدخل الشعر إلا من باب الشعر الضيّق.
بدأ في مطلع الستينيات، مجهّزاً، مكتمل الأداة، مفاجِئاً وحكيماً في آن.
لم يكن لديه ذلك النزق (الضروريّ أحياناً) لشاعرٍ شابٍّ يقتحم الساحة.
سركون بولص لم يقتحم الساحة. لقد دخلَها هادئاً، نفيساً، محبّاً، غير متنافسٍ.
كان يسدي النصيحةَ، ويقدم أطروحة الثقافة الشعرية الرصينة، مقابل الخصومةِ، والمشتبَكِ، والادّعاء.
لم يكن ليباهي بثقافته، وإن حُقّتْ له المباهاة.
هو يعتبرُ الشعرَ نتيجَ ثقافةٍ عميقةٍ وممارسةٍ ملموسةٍ.
سركون بولص يكره الادّعاء!

**

وأقول إنه الشاعرُ الوحيدُ...
هو لم يكن سياسياً بأيّ حالٍ.
لكنه أشجعُ كثيراً من الشعراء الكثارِ الذين استعانوا برافعة السياسة حين تَرْفعُ...
لكنهم هجروها حين اقتضت الخطر!
وقف ضدّ الاحتلال، ليس باعتباره سياسياً، إذ لم يكن سركون بولص، البتةَ، سياسياً.
وقفَ ضد الاحتلال، لأن الشاعر، بالضرورة، يقف ضد الاحتلال.
سُمُوُّ موقفِه
هو من سُمُوّ قصيدته.

**

لا أكاد أعرفُ ممّن مارسوا قصيدة النثرِ، شاعراً ألَمَّ بتعقيدات قصيدةِ النثرِ، ومسؤولياتها، مثل ما ألَمَّ سركون بولص. مدخلُهُ إليها مختلفٌ تماماً. إنه ليس المدخلَ الفرانكوفونيّ إلي النصّ المُنْبَتّ، في فترةٍ مظلمةٍ من حياة الشعر الفرنسيّ:
رامبو مقتلَعاً من متاريس الكومونة...
مدخلُهُ، المدّ الشعريّ الأميركيّ. مجدُ النصّ المتّصل.
أطروحةُ تظاهرةِ الطلبة، حيثُ القصيدةُ والقيثارُ والساحةُ العامّة.
قد لا يعرف الكثيرون أن سركون بولص كان يطوِّفُ مع فريقٍ، لإلقاء الشعر في البلدات الأميركية والقري...
طبلٌ وقيثارٌ وهارمونيكا...

**

قصيدتُه عن السيد الأمريكيّ نشيدٌ للمقاومة الوطنية في العراق المحتلّ!

**

سركون بولص...
شاعر العراق الوحيد!

لندن 22/10/2007

***


أحسن التمرد في الحياة وفي القصيدة

محمد بنيس
(المغرب)

يموت الشاعر سركون بولص علي غرار أبناء عائلات عراقية في المنافي. يشعر بوحدة تهجم عليها الجثث والدماء من كل الجهات. وليست في فمه صلاة واضحة الحروف. لا يحتاج لمن يدله علي القتلي طيلة اليوم واليوم الذي يليه. هو في مشاهد القتل يتفحص عقوداً من الدم والعذاب والرعب والتشرد. حتي هدوؤه كان يصعد من أسافل الحياة التي كان مشدوداً إليها. كل ذلك كان مضاعفاً، في حياة شاعر، أحسن التمرد في الحياة وفي القصيدة.
يموت في برلين، سركون، حيث كان يفضل في سنواته الأخيرة قضاء حياة المنفي، كما أخبرني صمويل وهو يكاد يبكي. أخوه الأكبر صديقي وصديق شعراء في جميع البلاد العربية. سركون، الوديع، الذي لا ينسي الذين يحبهم. هناك، في برلين، توفي هذا الصباح. حينما أفكر فيه أستحضر قصيدة قائمة الذات. نحتها عبر سنوات طويلة من الصبر والاستزادة من المعرفة الشعرية، حتي أصبحت علامة عليه، وطريقة مخصوصة يستهدي بها جيل من الشعراء. قصيدته التي كانت تفضل معجمها اليومي فيما هي تقترب من المتاهات ومن العذاب الأبدي. كذلك هي قصيدته منذ تعرفي عليه أول مرة، في الستينيات، من خلال مجلة "شعر"، شاعراً وكاتباً عما لم يكن معهوداً، أو في اللاحق مترجماً لشعراء أمريكيين لم تكن أسماؤهم متداولة بين الشعراء والنقاد العرب. أنذاك، أحسست أن تجربة الحياة لديه أصفي وآلامها أعمق. بذلك انحفرت في ذاكرتي صورة شاعر عربي بودليري، مختلف عن البولدليريين المعروفين، واصل من بغداد إلي بيروت. ثم بعد سنوات كانت لنا اللقاءات في القصيدة وفي فضاءات، تبدأ من المغرب ثم تمتد إلي بلاد في العالم.
حضور قصيدته لا يقل عن حضوره هو شخصياً، بتأنيه في النطق بالكلمات وفي اختيار مناسبة الكلام. لكنها القصيدة التي أبعدته عن سواها. ترحاله الدائم، بين سان فرنسيسكو وأروبا، أو لندن ثم برلين تحديدا، كان وجهاً للاستقرار الذي طبع حياته. وجه يثبت أمامي. سركون، الذي يمكن أن يقضي نهاره في مكان وليله في مكان آخر. لأن المكان الحقيقي، بالنسبة له، هو القصيدة. لربما تسرع من يشاهده إلي الاعتقاد في أنه شاعر يمارس التشرد عن قناعة، لكن سركون شاعر دائم الترحال، لكأنما القصيدة بنت ذلك الترحال، الذي لا يكف عن تجديد معني القصيدة. في لقائنا الأخير، هذا الصيف، أثناء مهرجان لوديف، كانت الكلمات بيننا تنساب. بأقل الحروف نتخاطب، أو بأقل حركات اليدين. جلوسه في مقهي مفتوح علي الشمس والهواء والنباتات والعابرين، محاطا بأصدقاء محاورين ومنصتين، يعيد لي جلسة حكيم يبادل الآخرين كلمات تمتزج بالعالم. لا شيء يبعده عنها. غضبه علي إسكانه في إقامة نائية عن المدينة جعلني أتضامن معه من أجل أن يكون قريباً من كلمات الآخرين كما من الحياة في المدينة. سيدة فرنسية حضرت قراءته الشعرية قالت لي: سركون، هو التراجيدا نفسها. لا مبالغة في حكم هذه القارئة الغريبة التي أنصتت إليه مرة واحدة. في كلماته القليلة أعثر دائما لديه علي ما يشد الناس إلي بعضهم بعضاً. وسركون بها كان يحس بألفة مع من يقرؤونه، ومعهم كان يدرك حقا أنه يكتب قصيدة له، فيها يعود من جديد بالكلمات إلي ميلادها.

****

سركون عليك السلام

قاسم حداد
(البحرين)

1

أخشي أننا سنفقد نكهة كاملة في حركتنا الشعرية بوفاة الصديق الشاعر سركون بولص.

2

ليس ثمة كهولة ولا شيخوخة، سركون بولص من الفتوة إلي الرحيل، كأن حياته هي الشعر الذي يكتبه، وليست الزمن الفيزيائي الذي يستغرقه، وهي ميزة لا تحدث كثيراً في الواقع، الشعراء فقط قادرون علي ذلك.
سركون ظل الفتي الذي لا يكتهل ولا يشيخ. قصيدته حصنته ضد الزمن.

3

كان أحد الشعراء الذين لم يتوقفوا للانشغال بتوصيف ما يكتبون، فقط كان مؤمناً بشعر يذهب إليه بثقة الطفل في حلمته الأولي. يلثغ، يتمتم، يتلعثم، ينهنه، يشهق، وتعال اسمعه عندما يقهقه الطفل.
سركون بولص كان يفعل كل ذلك ليكتب شعراً من الطفولة.

4

لعله كان يشعر بأن أفضل طريقة لإقناع العالم بضرورة الشعر وجماله وجدارته، هي كتابة الشعر الجيد والجميل والصادق.
سركون كان يفعل ذلك فقط، يفعله كمن لا يريد شيئا آخر.

5
بالرغم من ورشة الجدل والسجال واحتدام النقاشات التي اشتهرت بها جماعة كركوك ، ليس في أوانها فحسب، ولكن حتي سنوات قريبة حين دارت نقاشات حولها، بقي سركون بولص بعيدا عن الدخول في هذا السجال النقدي (أدبا وتاريخاً)، معتزلا في نصه الشعري فحسب.

6

المرة الوحيدة التي التقي فيها، قبل سنوات في مهرجان الشعر في مسقط، لم نتبادل كلمة واحدة عن الشعر، كان مأخوذا بالحياة أكثر عندما يتعلق الأمر بالعلاقة الإنسانية المباشرة، طفولته المسترخية منذ سنوات هي التي بقيت منذ ذلك اللقاء، وبعض اتصالات هاتفية قليلة يوم كان في أمريكا. صوته الرهيف حد التعب لم يكن يشبه صورته الشعرية الصارمة.

7

كلما غاب شاعر صديق فقدتُ جزءاً من نفسي.
الآن،
وحشة عميقة ستجتاح حركتنا الشعرية بغياب سركون بولص.
وحزن عظيم، أعزي فيه جميع الأصدقاء لهذا الفقد الفادح.

***

عمارات استدراج الذائقة

صبحي حديدي
(سوريا/ باريس)

رحل سركون بولص شاعراً كبيراً صاحب تجربة كبري، بالغة الحضور، واسعة التأثير. ورحل شاعراً مقلاً بالقياس إلي عدد المجموعات التي أصدرها، سيّما وأنّ مجموعته الأولي لم تُنشر إلا سنة 1985، حين تجاوز سنّ الأربعين. هنا مفارقة أولي ذات مغزي في تجربة بولص: أنّ الحجم الكمّي لنتاجه الشعري لم يتناسب البتة مع حجم التأثير النوعي الهائل الذي مارسه، منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي وحتي اليوم في الواقع، علي جيلين متعاقبين من الشعراء العرب، وشعراء قصيدة النثر علي نحو أخصّ.
امتزاج هاجس التعبير الجديد بقلق اجتراح الشكل المغاير كان في رأس هموم بولص منذ البدء، وهكذا ظلّ حتي آخر قصائده التي نشرها قبل أسابيع قليلة. وامتيازه كان الاشتغال الدؤوب، والشاقّ تماماً، علي استقصاء تلك الهندسة الإيقاعية الغائبة، أو المتعثرة في أفضل المقترحات، والإلحاج علي انبثاقها من وسيط النثر في ذاته، واعتمادها علي ديناميات النثر وليس شَعْرَنته فقط، علي نحو يمسخ طاقات النثر بدل أن يطلقها. وبهذا المعني فإنّ من الإنصاف البسيط ضمّ بولص، وعدد من الشعراء مجايليه، في العراق ولبنان خصوصاً، إلي صفّ ريادة قصيدة النثر العربية في جانب جوهري وتكويني من مشاقّ كتابتها: البحث عن الحلول الفنية الكفيلة باستيلاد عمارات إيقاعية رفيعة، متغايرة علي نحو مَرِن، جذابة ولافتة، قادرة في الآن ذاته علي منافسة التفعيلة في استدراج ذائقة حرونة متجبرة، ظلّت طيلة قرون أسيرة نظام السماع والأذن والتلاوة الجهرية.
هنالك جانب آخر حاسم في شعر بولص، أتيح لي أن أتوقف عنده في مناسبات سابقة، هو أننا بحاجة إلي نماذجه في المستوي التربوي والتعليمي، إذا كنّا سننجح ذات يوم في إدخال جماليات قصيدة النثر إلي المناهج المدرسية في التعليم الثانوي علي سبيل المثال. ففي قصيدة بديعة مثل "إلي امريء القيس في طريقه إلي الجحيم"، من مجموعة بولص الرابعة "حامل الفانوس في ليل الذئاب"، 1996، يقول: "ضيّعني أبي صغيراً" أجل ضيّعني ولن أستريح/ "اليوم خمرٌ، وغداً أمرٌ" تقول الريح/ ولي خمر وجمر ومعلّقةٌ/ قد أهزِمُ بها جنيّاً يزورني في مثل هذه الساعة/ في مثل هذه الساعة دوماً كأننا علي موعدٍ/ لا يقبل التأخير محمّلاً بكلّ ضغائني/ ليعلّمني أسرار السواد في سراديب سويدائي/ وهذا الغسق اللعين، المتكاثف ظلاً فظلاً ليعلم أنني/ أحلم في آخر قطرة ترشح من سَدولهِ/ بأنواع الهموم، بأنواع الهموم!". وليس عسيراً أن ندرك البُعد التربوي في كيمياء هذه القصيدة: أنها تصنع شبكة بارعة، وخافية، لاستدراج قاريء الشعر المتوسط علي دفعات: إثارة فضوله، إلزامه بالركون إلي منطقة وسيطة بين القراءة الصامتة والقراءة الجهرية، استثارة ذاكرته الإيقاعية واستنفار أوالياتها الراسخة المطمئنة، استفزاز أعرافها، وصولاً إلي اقتياد القاريء نحو "مصالحة" من نوع ما بين ذاكرته الإيقاعية وهذا الإقتراح الإيقاعي الطاريء.
وغنيّ عن القول إن تجربة الراحل الكبير اشتملت علي العديد من الاختراقات التعبيرية والفنّية والجمالية، فضلاً عن تلك التي تخصّ موضوعات قصائده، وليس الحديث هنا عن جانبين فقط في تلك التجربة إلا من طراز الاختزال الذي يقتضيه المقام.

***

مدينة أين...

لينا الطيبي
(سوريا/مصر)

أن تصحو في صباح عادي جدا.. تنظر من نافذتك فلا تري غير ما تراه عينك كل يوم.. أن يأتيك فجأة خبر رحيل شاعر أكبر.. أن تسأل السماء لم هي عادية جدا.. لم لا تودع شعراءها بما يستحقونه..
سركون بولص رحل.. كان الخبر يحمل صدمة كبيرة.. لكن السماء كانت تستقبل رحيله الذي لم يتوقف. تعلم أسرار الحفاة ليسير في دروب المدينة القديمة التي كانت تنتظر أقدامه.. الشاعر الذي آمن بأن الشعر مثل شبكة صياد يجلس علي حافة النهر إما نمسكه وإما يذهب في طريقه.
هو الذي آمن بأن الشاعر دائما هو البداية .. وأن لا نهاية للشعر.. مشي كثيرا في دروب العالم، حاملا مغامراته وعلي كفه حياته مثل جندي قديم في معبد الترحال، قادته خطاه إلي سبل شتي، والتقي بأصناف كثيرة من البشر، هل كان يبحث طيلة الوقت عن مدينة أين؟..
الشاعر الآن تطأ قدمه تلك المدينة فهل سيبدأ فيها، ألم يقل أن الشاعر دائما هو بداية وأن ليس أمامه سوي أن يبدأ..
في اواخر الثمانينات وبدايات التسعينات كان ديوان الوصول إلي مدينة أين الذي تأخر الشاعر كثيرا قبل أن يصدره، ومن ثم الحياة قرب الأكروبول مجموعات مؤثرة في ثقافتي الشعرية، وقد استطاع سركون بولص أن يعلّم في جيل كامل من شعراء قصيدة النثر، لكن سركون لم يتوقف عند محطة التأثير الشعري بل ظلّ يصيد الشعر وهو في ترحاله، وفي كل مرة يصدمنا بجموح مخيلته.
سركون بولص الذي ذهب باحثا الآن عن مدينة أين.. تطأ أقدامه آخر المدن.. لكنه يصنع بداية مع كل قصيدة نقرأها له..
يرحل الشاعر تاركا لنا أن نتأمل حضوره الأكثر إشراقا.. حضوره الأكثر بقاء.. يرحل سركون بولص تاركا لنا شعره لنكمل طريقا بدأه.. ونصنع مع كل صبيحة بداية جديدة..

****

مضي بلا مساومات

رفعت سلام
(مصر)

تجربة متميزة حافلة بالدروس قدمها الراحل سركون بولص يتشابه في بعض ملامحها مع كفافي الذي توفي دون ان يترك ديوانا واحدا منشورا لرغبته العميقة في البعد عن الاضواء والمساومات.
ذلك درس مما قدمه سركون في زمن تمثل الميديا فيه حضورا لا فكاك فيه فيمضي دون ان تصل اشعاره الي محبيه والعارفين بقدره.
لم يتواطأ ولم يَخْطُ خطوة قابلة للندم عليها، فيما تساقط الكثيرون من قرنائه في شباك الاغراءات الحكومية وغيرها.
اما الدرس الثاني الهام فيكمن في انقلاب الشاعر علي نفسه، وهي عملية شبه مستحيلة، فاذا كان قد انطلق من قصيدة التفعيلة فانه لم يلبث ان تخلي عما حققه فيها، ليدخل في تجربة مناقضة تقريبا هي قصيدة النثر، وفي الحالين فقد ينطبق عليه انه قد كسر عنق البلاغة في تجربته الشعرية ليكتشف الشعري في النثري والجوهري في العابر بلا معاضلات او افتعال.
حلقة اساسية مع مجموعة من اقرانه في تطور قصيدة النثر العربية، ولم يدرك احد قيمته الشعرية الحقيقية الا بعد ان ينجلي اللغط والضوضاء والصخب الحاليان ليتجلي بعد حين وجه الشاعر الحقيقي الذي قدمه سركون بولص.

***

متأمل لا يعرف البلاغة

علاء خالد
(مصر)

اول ما قرأت لسركون بولص ديوانه الحياة قرب الأكروبول وكان اول ديوان يلفت انتباهي في قصيدة النثر الي جماليات جديدة تتمثل في نفي البلاغة التقليدية فهو غير مرتبط بأي مرجعية بلاغية عربية وليس هذا معناه انه غير قاريء للتراث العربي، ومن ناحية اخري فان قصيدته تعتمد علي اسلوب الاستطراد، فيبدو جزء من المشهد في بداية النص ثم تحدث مجموعة من الاستطرادات كنوع من الاشتغال، وهذا ما يعطي قصيدته وحدتها التي لا توفرها اللغة وحدها، هذا بالاضافة الي الفكرة الانسانية التي يحملها النص بعكس الحداثة في قصيدة النثر العربية التي ارتبطت بمناهضة السلطة، وربما يعود ذلك الي هجرته الي الولايات المتحدة، فالقصيدة بالنسبة له تأكيد عبر مفهوم النص الانساني. فمركز القصيدة لديه متعدد ومتنوع وليس هناك مركز واحد للتكوين، بالاضافة الي قدرته التحليلية في النص، وكذلك حالة تأملية للمواقف والمشاهد، وهما ملمحان اساسيان في شعرية سركون وحسه الفلسفي، الذي لا يعني الفلسفة بالمعني التقليدي، وهذا ما يشعرني بأن فكرة الذهنية لديه ذهنية صلبة ولها حياتها الخاصة.

****

الحياة قرب الاكروبول

محمود قرني
(مصر)

في تلك الحمأة التي اخذت الاجيال ما بعد السبعينية الي فضاءات قصيدة النثر الموحشة، كان سركون بولص واحدا من تلك الرايات او تلك الاحجار البيضاء التي يمكننا ان نضعها علامة عل طريق لا نريد ان نضل الوصول اليه.
اذكر انني استعرت ـ الي الابد ودون عودة ـ مجموعتي سركون الحياة قرب الاكروبول و الوصول الي مدينة اين من الشاعر محمد عيد ابراهيم، فقد كانتا قراءتين ماكرتين ومغامرتين لذلك الصلف الذي كلل القصيدة القومية بالكثير من فيوضات الفصاحة.
اذكر ان شبابا من اقراننا حفظوا الحياة قرب الاكروبول عن ظهر قلب، واعادوا انتاجه، وابتسروا منه ما استطاعوا، ومع ذلك فان حضور سركون في ادبيات الشعرية العربية ونقدها لا يناسب ـ بالمطلق ـ اهمية اجتراحاته المبكرة، باعتباره همزة اتصال بين جيلي الستينيات والسبعينيات، وهذا الاقصاء ليس غريبا علي حياتنا العربية علي كل حال. ويبدو ان عشرات الاسباب كانت تؤدي بسركون الي هذا المصطلي بداية من مساهمته المبكرة مع جماعة كركوك التي لم يكن لها من الحظ ما كان لمدرسة شعر اللبنانية، وكان ذلك الي جانب الحضور الذي مثلته تجارب نوعية لدي الاب يوسف سعيد ، مؤيد الراوي، صلاح فائق، فاضل العزاوي وآخرين.
وربما كانت تلك الاختيارات المغامرة والصعبة هي التي حالت دون تجاوز سركون لدواوينه الخمسة التي بدأ اصدار أولها في العام 1985، وهي سن متأخرة بالقطع لرجل مولود في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، ومن المؤكد ان سركون وجد الكثير من نفسه في تلك الترجمات التي قدمها لكبار الشعراء في الولايات المتحدة، وعلاقاته الخاصة مع جماعة البيت غير ان اغترابا دام اكثر من اربعين سنة لشاعر في قامة سركون بولص دون ان ينتبه الكثير من الاقران والانداد فضلا عن المؤسسات الرسمية إليه، لأمر يدعو للدهشة والتساؤل، اما الدهشة فبسبب هذا القدر الفائض من الجحود والنكران، واما التساؤل فهو للشعراء قبل ان يكون للسلطات: ما الذي فعلته المؤسسات الثقافية العربية التي تقيم المهرجانات وتطبع المؤلفات وتمنح الهبات لشاعر في قامة سركون؟!

رحيل حامل الفانوس في ليل الذئاب بعد صراع صامت مع المرض

23/10/2007

****

عمارة ذات أعالٍ وسفوح

عباس بيضون
(لبنان)

أحسب أن سركون بولص بين شعراء القصيدة الراهنة هو أقرب الشعراء إليَّ. والحق أنني ما أن قرأت قصائده في مواقف حتي ذهلت. كانت هذه واحدة من اللحظات التي نشعر فيها بشرارة الشعر تخترقنا. إنها اكتشاف أكيد. لم يتوقف سركون عن إدهاشنا. كانت عمارته الشعرية ذات أعالٍ وسفوح. وفي أعاليه قول للأعالي وفي سفوحه قول للسفوح. لا بدَّ أننا كنا أمام أحد أنضج رجالنا وأكثرهم تجربة وأقربهم إلي مثال الشاعر. لكن سركون بولص الذي ضربه الشعر في حياته بقدر ما ضربه في أدبه، قاده الشعر علي دروب الحياة إلي أبعاد لم نلحقه إليها. هكذا وجدناه أحياناً كثيرة يهجر سوق الشعر وسوق النشر وسوق النقد. والآن حين يرحل باكراً جداً لا بمقياس السنين ولكن بقياس المقدرة نعلم أن علينا أن نبحث أكثر فأكثر لنلتقي هذا الرجل.
لقد ترك سركون بولص كثيراً لأيامنا المقبلة، لقراءتنا. والأرجح أننا غداة رحيله لن نستطيع أن نمرَّ بكسلنا المعتاد أمام مؤلفه المفعم.

***

الأب الحقيقي

شوقي بزيع
(لبنان)

أكثر ما يؤلمني وأنا أتحدث عن سركون بولص الآن أنني أفعل ذلك بعد رحيله، ذلك أن شاعراً مثله كان يستحق منا جميعاً أن نكون أكثر وفاء لتجربته في الشعر والحياة. لقد آثر دوماً أن يقيم في الظل، أن يتواري وأن لا يدخل في معارك الشعراء الدونكيشوتية، معتبراً أن الحياة لا تتسع للقصيدة والضغينة في آن معاً. لقد عمل كل جهده علي تطوير قصيدة الحداثة وصنع قصيدته غرزة غرزة من دون أن يأبه للوجاهات وللبهرجة الإعلامية. وربما اختار منفاه إيثاراً منه للمزيد في التواري، وهو يري بأم العين ليس خراب البصرة وحده بل خراب العالم العربي برمته وخراب العلاقات الإنسانية. وكان- وهو الأب الحقيقي للكثير من التجارب التي جاءت بعده- يخجل من كونه أباً لأحد، ويحدب حتي علي الشعراء القادمين من مسارب مختلفة عنه حدب الأمهات.
لم ألتقِ سركون بولص سوي مرات متباعدة في الحياة كانت آخرها في الملتقي الشعري العربي الألماني في صنعاء عام 2000. يومها أقبل بحب غامر ليقول لي إن في الحياة من الكوارث ما يجعل الحروب بين قصيدتي التفعيلة والنثر حروباً سخيفة ومفتعلة وبلا طائل، ولنشرب نخب الحياة والشعر والصداقة. ويبدو أنه شرب تلك الكأس حتي ثمالتها الأخيرة ثم تواري بصمت.

****

تحويل الشعر إلي ألم جديد

جواد الأسدي
(عراقي)

أعتبر سركون بولص الشاعر الذي قدر أن يمزج بين مرارة الأرصفة والغربة والبعد عن أهله وشعبه في العراق، مستعيداً هذه الأمور ومحولاً إياها إلي قصيدة فذة وطفولية ومشحونة. هو الشاعر الأكثر فرادة الذي استطاع تحويل هذا الجحيم في العراق وخارجه إلي قصيدة وطاقة لا تعادل. هناك استعادة في تحويل المنفي إلي طاقة شعرية. خزان المأساة/ جبل المأساة الذي مرَّ فيه الشعب العراقي، تحول في داخله إلي إبداعات قل نظيرها. كان يرصد الألم العراقي بشكل حساس ومكثف. يحول الشعر إلي ألم جديد ومبتكر برهافة كبيرة. يندر أن نجد نصاً يعادل نصوص سركون في مزج الغربة بالألم العراقي. موته غدر لأنه رحل في مقتبل القصيدة كما شخصيات شكسبير التي تموت في مقتبل العمر.

***

حين لعب دور الجثة

فالح عبد الجبّار
(العراق)

دائماً أقول عنه إنه العراقي القادم من آشور، آشور ما قبل العراق الحديث، لأن الكثيرين من العراقيين كانوا يتخذون آشور معلماً قبل الإسلام. سركون قادم أيضاً من كركوك ومن الفقر. أذكر أن أول لقاء بيننا كان عام 1963 في مقهي البرلمان في باب المعظم في بغداد، بدا وقتها شاباً نحيلاً يتأبط أوراقاً. وقتها قرأت له مقالاً بعنوان زوربا المبلل بعطر الأرض علي ما أذكر. ومنذ ذلك اليوم ونحن علي صداقة.
ترك سركون العراق عندما جُرح في هويته العراقية، حين رُفض تعيينه في وكالة الأنباء العراقية بسبب آشوريته، فقد كان ممنوعاً تعيين الآشوريين في الجيش والأمن والإعلام. أذكره وقتها كان يحلم بالسينما، وقد شارك بدور جثة في فيلم أمريكي وحصل لقاءه علي سندويشتي هامبرغر. كان يسخر ويقول إن هذا الأجر أعلي أجر حصل عليه عراقي من السينما الأمريكية.
الكثيرون يعرفون سركون كشاعر، لكنه ناثر كبير أيضاً ومترجم جيد. كتب قصة في مجلة العاملون في النفط وكانت المجلة الوحيدة في العراق التي تعطي مقابلاً مالياً لقاء النشر فيها. أذكر أنها كانت قصة مؤثرة عن شاب يمشي علي الرصيف وينظر إلي تظاهرة قربه راغباً في الدخول فيها من غير أن يجرؤ علي ذلك. كما أنه ترجم الكثير من الأدب العربي إلي الإنكليزية مثلما ترجم من الإنكليزية إلي العربية، لكن بعض هذه الترجمات صدرت بأسماء آخرين ممن صعدوا علي كتفيه. وهذا أمر كان يؤلمه كثيراً.
لا أعرف ماذا أقول. أحب أن أتكلم عنه كأنه معي وليس كشخص ميت. هو نفسه كان يحب الحديث عن تلك الحفرة المربعة التي ستؤوينا. كان حائراً علي الدوام حتي في أبسط الأمور. أراد مرة ترك التدخين، فصار يتناول حبوب نيكوتين. ثم قالوا له الباذنجان يحتوي علي النيكوتين. فصار يأكل الباذنجان. أخيراً صار يدخن ويتناول حبوب النيكوتين ويأكل الباذنجان. هذه نوادر كان هو يرويها عن نفسه.
أعتقد أن شعر سركون يشبهه بعكس ذلك الشعر الرقيق الذي يصدر عن قساة.

****

حين أعارني يوسف كتابه

ناظم السيد
(لبنان)

من الطبيعي أنني لم أرَ سركون بولص لأنني تقريباً من الجيل الشعري الأخير في لبنان، ولا سيما أن الرجل هرب من هذا الشرق غير مفكر في العودة إليه. حين مرَّ سركون في بيروت وكتب في مجلة شعر في أواخر الستينات، كنت لم أولد بعد. لهذا كنت أسمع عنه من أصدقائي الشعراء الذين يكبرونني فقط ليرووا لي أحاديث هذه المدينة السابقة. من أخبار شعراء السبعينات والثمانينات بتُّ أعرف بيروت. أحياناً أصدق أنني عشت هذه الأخبار كما يصدّق الطفل روايات أهله عنه في طفولته لدرجة لا يميز بين ما عاشه وبين ما يرسم في رأسه من حطام كلام الأهل. ولأننا لا نكتشف الشعراء من تلقاء أنفسنا بل نسمع بهم أولاً (لاحقاً قد نعيد اكتشافهم بطريقة مناقضة)، سمعت عن سركون هذا المشّاء الكبير. قالوا لي إنه مضي إلي سواحل سان فرانسيسكو. والله أعلم إذا كان ذهب إلي هناك أم لا. ومنذ ذلك الحين ولم يعد كما في أساطير البحّارة. ومثله أردت أن أذهب إلي الولايات المتحدة الأمريكية وأعبرها ولاية ولاية مقلداً في خطواتي أولئك العابرين من هنري ميلر المطارد بكلاب الشرطة إلي جاك كيرواك المنتظر سيارة أوتو ستوب ، وقبلهما ذلك الفرنسي المخبول رامبو وزمن القتلة كما زعم ميلر في كتابه الذي ترجمه سعدي يوسف مشكوراً. ولهذا، لم أصدق أن سركون عاد إلي ألمانيا. أحسست وقتها كأنه خان فكرتي عنه وعاد إلي العراق مثلاً.
إذاً، سألت عن كتب سركون. قالوا غير موجودة. سألت مجدداً. تبرع يوسف بزي وقال: عندي. وهكذا جلب لي يوسف كتابي سركون: الوصول إلي مدينة أين و إذا كنت في مركب نوح (آمل أن يكون العنوان الأخير صحيحاً). أعطاني يوسف الكتابين وأوصاني بهما كمن يوصي بفتاة عذراء. أخذتهما وقرأتهما. ثم قرأتهما ورحت أنقل علي دفتر جملاً منهما. لم أفعل هذا مع شاعر ما زال حياً. فعلتها في مراهقتي مع شعراء ماتوا قبل مئات السنين. هذا أفضل ما يمكن أن يصل إليه النقد: أن تحمل قلماً وتنقل متعتك التي تراها في كتاب سواك: هناك رحلات كنت أعود منها ساهماً/ نحيلاً كظلِّ إبرة ، امرأة تسير علي ضوء شعرها الأبيض ، امرأة تجدّف بنهديها وغيرها من الجمل التي تستطيع أن تقبض عليها بيدك.
ليس هذا فقط: لقد تعلمت من سركون كيف يكون الشعر مطابقاً للحياة، كيف يكون للكلمات أطراف وأصابع وحواس. أحسب أن أكثر من جيل يدين له بهذه اللغة الفيزيولوجية، بهذه الحسية العالية، بهذا النزق والكلام العصبي والقدرة علي إيجاد معادل فن.

***

***

مضي في الأسطورة

شربل داغر
(لبنان)

التقيت سركون بولص في مرات قليلة ونادرة. في المرة الأولي قلت عنه مهاجر، وفي المرة الثانية: مضي في الأسطورة. إلا أنني ما كنت متأكداً حينها من أن السنوات التالية ستبقيه في هذا الفضاء أشبه بالغائب الحاضر أو الحاضر الغائب. مضي علي أية حال في الأسطورة في وقت مبكر.
موت الشعراء مبكر خصوصاً حين يأتي بحجم هذا الشاعر الذي تبدو اللغة معه مثل عجين أول وبلمسة طفولية مدهشة. لعله كتب قصيدته بأصابع الغربة والعجمة والتوحش والتفرد بما جعلها مختلفة مثل حبات البندورة العجيبة التي رآها وأخبرني عنها في مقهي باريسي.
غريب أمره كيف عاش، كيف عبر من دون أن يستند إلي مهنة أو إلي وجع، مع الهواء وغزلانه. حتي إنه كاد أن ينسي التحية لولا ملامسة أصابعه للهواء. غريب أمر موته إذ لن نتواني عن البحث عنه وعن محبته بعيون من شوق ولقاء كانا مؤجلين دوماً.

***

أيقونة داخلية

بلال خبيز
(لبنان)

المشكلة مع سركون بولص أنه الوحيد الذي بحثت عن كتبه ولم أجدها، لأن هذه البلاد تترك الأشخاص العظيمين. أقول هذا فعلاً وليس في مناسبة موته. منذ التسعينات أسمع أن سركون بولص عظيم عظيم عظيم، لكن لا أجد كتبه. لهذا تحول عندي إلي أيقونة داخلية. أفتقد كتب سركون بينما حولي آلاف الكتب التافهة والمقالات المضحكة في الصفحات الثقافية التي تروج لشعراء تافهين. لهذا صرت أؤمن به إيماناً مع أنني للأسف لم أقرأه.

***

بطلي الشعري

يوسف بزي
(لبنان)

لم ألتقِ في حياتي هذا الشاعر، أنا المغرم به. أحتفظ في رأسي بصورته تلك المنشورة علي الغلاف الخلفي لمجموعته الوصول إلي مدينة أين ، صورة شاب بأناقة بوهيمية وشعر طويل وفق موضة السبعينات. لقد أغرمت كامرأة بصورته تلك. كنت فتياً ووددت أن أكون بمثل مظهره عندما أصبح رجلاً ناضجاً. إذ خُيّل إلي أن رجلاً كهذا بهياً وجميلاً وفي الوقت نفسه هو شاعر لا يمكن أن تقاومه النساء.
بدا لي أن صورته مخالفة تماماً لـ بوزات الشعراء الذين يضعون يدهم علي وجههم كعلامة علي عمق التفكير والتأمل. تلك البوزات المضحكة حلت محلها تلك اللقطة لسركون بولص: شاب لعوب مزهو بجسمه وجاذبيته، ممتلئ بعلامات الحياة الخارجية لا صريع الصومعات والعزلات.
أغرمت باسمه حرفاً حرفاً، سركون بولص. عندما ألفظه أشعر بالحنين إلي هذا المزيج الوثني- المسيحي. وأشعر أكثر بانحيازي المرضي لما هو أقلوي وغرائبي ومنفي من التاريخ.
كنت أتخيله بطلاً سينمائياً أكثر مما هو شاعر عربي مضجر ومنتفخ بلغة الضاد. لسبب أناني أنا مسرور إذ لم ألتقه في شيخوخته. فسركون بولص الذي يخصّني ما زال حياً.

***

في المنطقة العازلة للشعر

فاطمة المحسن
(العراق)

كان يقول قبل يومين فقط إنه سيذهب الآن، الي أين تذهب يا سركون؟ كنت أسأله فيجيب : إلي بيتي. أي بيت تقصد؟ كان يردد إلي بيتي. سركون المعلق علي كل الطرقات، الراحل بين المدن والقصائد لا بيت له في هذا العالم. يكتب أوديسا الرحيل دائماً، يمسك بالفراغ وهو يجتاز مسافات العبور إلي العراق أصل إلي وطني بعد أن عبرت / نهراً يهبط فيه المنجمون بآلات فلكية صدئة / مفتشين عن النجوم/ أو لا أصل إلي وطني/ بعد أن عبرت نهراً لا يهبط فيه أحد .
سركون بولص لم يضع الفاصلة الأخيرة في كتاب إبداعه، بعد أن تركه مفتوحاً للآخرين. ومثل متشرد، عاش الشعر والحياة في تزاحم لا يدري أيهما الخاسر في جولة السباق تلك. كان الشعر انخطافة يعيشها وهو بين جلاسه، ترحل عيناه الي أماكن غريبة، ويتمتم بكلام لا يسمعه غيره. والقصيدة تلك التي تكتب نفسها، تفلت منه، ولا ينتظر هو عودتها، فقد كان شعور الغربة يملأ روحه باكتفاء من نوع خاص، زهد بالحياة وقوانينها. يأكل كل شيء ويعيش الصدفة، لحظة صمت أو صداقة أو ضحكة أو خصومة مع الماضي والحاضر. سركون المثقف النادر الذي يمتلئ رأسه بالكتب، يعود إلي الحياة عندما يكتب الشعر، فما خلّفه من طفولة في تلك القري المسيحية ينبثق برأسه، مثل دليل علي ما قطع من سبل الوصول إلي هذا المكان. فهو يضع نفسه في المنطقة العازلة للشعر حيث كل شيء يبدو وكأنه محض اكتشاف أولي: المشاعر والذكريات وملامسة الحياة الموقد البارد في الزاوية/ يطق مرة ليذكرني بأن أسفاري/ ضد الزمن، وليس لي أن أحمل الأشياء/ علي ظهري حتي الأبدية، أو أرفع هذا الميت/ من ابطيه عن درج بيتي . تلك المنخوليا التي تعصف بروح سركون، كانت تأتيه بعالم قيامي يشاهد فيه الضفاف وهي تفور بالموج، والأرخبيلات وهي تجتاح المدن، والشباك وهي تجرف العبيد من الأنهار. الماضي يتحرك داخله لا من أرشيفات قديمة، بل مما اختزنه الفكر من رحلة مضنية، لذا لن نجد السرد في قصيدة سركون مجرد تخيل أو استرجاع، بل هو اكتشاف الكون والخليقة، انفعال التعرف علي النطفة الأولي للموت والحياة. هو يكتب ما وراء النسيان، كي يتذكر تلك الاسترجاعات الغامضة لروح الأسطورة . التوتر الذي يسوق قصيدته إلي لغة ثرية وصور محبوكة ودقيقة، يمضي به إلي عالم يبعده عن كل كلام فائض ومكرر.
ذعر سركون من الحياة، جعله يبتعد عنها، ويخطئ في تصويب أهدافه إليها، ولكن من قال إن الأسبقية للعارفين بهذه الحياة ابنة الزانية كما يسميها؟

***

رحيل العراقي الآشوري

محمد مظلوم
(العراق)

خبر موت سركون بولص رغم ما تحمله أخبار موت الشعراء من (أسي غير شفيف بالتأكيد) ينسجم تماماً مع تجربة حياة الآشوري المهجوس، لا المحروس بروح الأسلاف، ينسجم مع تجربته الإبداعية ومع تجربته الروحية كذلك.. تصل أخبار مرضه لتتقاطع مع خبر موته! يأتي الخبر كأنهٌ يشطبُ بسرعة البرق علي المرض راسماً مساحة لا مرئية بين فاصلة الموت والحياة.. ربما سنجد أنَّ مرض سركون بولص الذي لم نسمع عنه كثيراً هو جزء من التجربة الروحية الجوانية تماماً مثل تلك التجارب في الطفولة التي ظهرت بشكل واضح في ديوانه: (الأول والتالي ) لكن سركون ليس سيابيَّ النشيد، ولا جنوبيّ الشكوي، إنه يكثف عزلة الآشوري في منفاه المسور بالأساطير ومرايا الحكايا المتقاتلة في الذاكرة. هذه واحدة من افتراقات حداثة سركون عن حداثة السياب وليس في مرضه ورحيله فحسب.. فحداثة السياب ، أغوت حشداً من الشعراء ليكتبوا نصاً إنشائياً تحت قبة الرومانسية وظلال أشجار الزيزفون، أما نص سركون فهو التمثل الطبيعي للحداثة ما بعد السياب.. لهذا قد يكون لافتاً أن نشير هنا إلي أن أبرز جانب في النظرة إلي الشعر لدي جماعة كركوك قامت في الواقع علي نقد البياتي، أكثر من مساءلتها لمشروع السياب، علي قراءة أباريق مهشمة لا أنشودة المطر .. وبرأيي أن سركون بولص إلي جانب فاضل العزاوي وصلاح فائق، وقبلهم وبينهم سعدي يوسف بالتأكيد، أحدثوا مساراً آخر لا يزال غير مرئي في حداثة الرواد، لكن سطوة زمن الرواد، ألحقت غبناً كثيراً بهؤلاء وسواهم من لاحقيهم ومجايليهم عرباً وعراقيين.
لقد وجد الآشوري المنفي، الذي غادر الحروب القديمة والجديدة، نفسه مضطراً في الأعوام الأخيرة إلي الخروج من كهفه البرناسي الجميل، ليعيد نقد الحياة تحت ظلال الإمبراطورية بقصيدته السيد الأمريكي لكن برناسيته البودليرية لم ترجح الشعار علي الشعر فهو لم يتركها تماماً في الكهف وإنما استحضرها حتي وهو يتذكر هجاء صديقه غينسبيرغ لأمًَّة الشر!
يرحل سركون (العراقي الآشوري) في فاصلة زمنية نوعية من تاريخ البلاد التي لم تعد أمة معبّراً في رحيله عن رحيل آشوري كبير من تاريخ العراق.

***

الجمال المخلد

هاشم شفيق
(العراق)

لماذا أيها الرب ؟ في هذه الأيام المعتمة التي تحيط بي، أتلقي هذا الخبر المعتم ـ الرهيب، ألا تكفي هذه الفجائع مترامية الأطراف التي تختم الأصقاع والنوائي وتسم ما حولنا بالرماد السابغ، ألا يكفي حطام الحواضر ومتوالية التأبين وأنين الأضاحي في بلد آشور بانيبال، حتي تلتفت الي هذا الفتي الآشوري الحالم بعوالم السلام والشعر واللحظات الرومانسية لكي يطوي هكذا وعلي عجالة قصوي هذا الشاعر الفريد ذو الإسم الباهر الذي يذكر بحفيف الألماس، يطوي صحبة أعوام قليلة وحياة ملأي بالكلمات، حياة متخمة بالمعاني ومفتونة بالرؤي والمجاهل والأسرار والغوامض، حياة معبّأة في حيوات، طافحة بالحلم وبوعد مختلف .
أكاد لا أصدق رحيل سركون بولص الذي عزاني فيه الشاعر والصديق المشترك أمجد ناصر، وان بكيت ما نفع أنْ أبكي، هل أبكي علي حالي من خلاله، أم أبكي علي أحوالنا نحن ملة الشعراء، أم أبكي علي العراق الذي عاث فيه البرابرة تخريباً وقتلاً وظلاماً، هذا العراق الذي أحبه سركون بجنون كلّ خلية في دمه، تُري من يبكي من في هذه الفاصلة الزمنية من هذا التاريخ الأسود ؟
قرأت سركون بولص في مطالع حياتي الأدبية، فألفيته مختلفاً، يحمل نكهة شعرية خاصة به، وهذه النكهة الفريدة والغريبة هي من حصة النوابغ والحالمين والمغيّرين المنقبين في الإكسير عن الجمال الأبدي، من هنا جاء شعره لا يشبه أحداً، طعمه يعلق في الذاكرة كحلم مصنوع من نور، قرأته في مطالع حياتي فعثرت في أشعاره علي الهواء الطري وعلي الغابات العذراء وعلي سماء أخري زرقاء راح سركون يطرزها بنجومه وبروقه وأنواره الخاصة حتي غدت هذه الرقعة الزرقاء محطاً للأنظار وللمستكشفين الباحثين عن الجديد .
كان سركون بولص نسيج وحده، في شعره وحياته، كنا نتلقف قصائده التي كانت تنشرها له مجلة الكلمة العراقية، كقصيدتيه محاولة للوصول الي بيروت عن طريق البحر و آلام بودلير وصلت وتلك التي كانت قد نشرت في مجلتي شعر و مواقف فكان لها وقع النيازك في الوسط الثقافي العراقي في حقبة السبعينات، لما تحمله من طاقة فنية رؤيوية معاصرة اخترقت بقيمتها التعبيرية النادرة والمفاجئة تيارات الشعر العراقي المفعم بالأساليب والتجارب.
وعلي الصعيد الشخصي، لم التق بشاعر يمقت الأضواء والشهرة كسركون وأني هنا أتحدث عن تجارب جمعتني وإياه هنا في لندن أو في الشتات والمنافي التي كنا نلتقي فيها عبر نشاط ثقافي معين، رأيته واثقاً من صنيعه، مثقفاً مثالياً، كرس سنوات عمره للقراءة، كأني به كان يعمل خادماً عندها، لم يسع لشيء، لم يكن متطلباً، أو باحثاً عن فتافيت ،كما يفعل غيره، لم يكن لاهثاً وراء العاديات والنوافل، طيبته كانت تغطي المكان الذي يحل فيه، وتضفي شخصيته نوعاً من المرح والدعابة علي المجالس التي يؤمها، كان سركون بولص مشعاً كالألماس وبسيطاً كالهواء، لقد تسرمد سركون نتيجة هذه الخصال ولن أقول هنا وداعاً للجمال المخلد، وداعاً للألفة التي كانت تحيا الحلم بيننا، لن اقول وداعا للغريب الذي جاب وبحث وعثر علي اللقي والكنوز والسحر في سراديب الكلمة، تشرد من أجل نداء مجهول وجوّاني، متقصياً الأباعد نكاية بالسكون والثوابت، من أجل الوصول الي مدينة أين حتي عثر عليها نائمة في الأسطورة ومتمددة في القلب الحالم من الأكروبول.

***

إنني حزين

صالح دياب
(سوريا)

إنني حزين لموت سركون بولص حزين جدا. أخذت الخبر وأنا في مركز البريد. كنت ارسل مجموعتي الشعرية الجديدة، تلك المجموعة التي تتصل اتصالا بأمثال سركون، وكتابات سعدي الأخيرة وعدد من الشعراء الأجانب. فجأة أجهشت عيناي بالدموع.
قضيت عشرين يوما مع سركون في بلدة لوديف. الأيام المعدودة التي قضيتها معه، علمتني الكثير بالنسبة لعلاقة الشاعر بقصيدته وعلاقته هو مع العالم. إنه واحد من آخرين. لا بل أكثر الناس عادية. يعلمني سركون بولص الكثير الكثير عن مفهوم الشاعر. وألفته وعاديته. وزهده بالأوصاف والألقاب. ما زالت هذه الأيام تمدني ايضا بالزهد والنفور. الزهد من كامل الاستعراضات الشكلانية التي تعج بالمشهد الشعري العربي. والنفور ممن يسوقون لنصوصهم بوصفهم شعراء التجديد والتحديث، وسائر الخزعبلات التي لا تحيل إلا علي فقرهم الشعري. ولعل ما يعلمنا اياه سركون هو الهرب والابتعاد عن سائر التجريب اللغوي الذي أنتجه بعض الشعراء اللبنانيين في عملية محاكاة حرفية لبعض الشعراء الفرنسيين. يعلمني عدم التأليه والتقديس لأي اسم كان. ولأن قدر الشعر الحقيقي أن يبقي، ويثبت زمنيا فإن نصوص هؤلاء التجريبيين اللغويين لم تثبت زمنيا. ولم تعمر أبدا.كان شعره يعبر ويمر عبر الترجمة. الكثير من القراء الفرنسيين الذين التقيتهم وسألتهم عن أسماء الشعراء العرب الذين أحبوهم كانوا يجيبون، سركون بولص إنه شاعر كبير، وكلمة كبير هنا للتعبير عن الصدي الذي أحدثته بعض القصائد المترجمة أحيانا في شكل ارتجالي وعن عمق التأثر بشعر سركون.
قرأت سركون في مجلة شعر قبل أن أقرأ الحياة قرب الأكربول وسائر مجموعاته الشعرية. مازالت فضاءات قصائده تحوم في ذاكرتي وترن من شتاء في باريس ، إلي عامل المصافي الذي يرقص بأصابعه المقطوعة ليفتن النساء ومتسولة اثينا إلي شاعر عربي في المهجر. والنورس الذي يتبع السفينة في البحر، وجاء وتحت مئزره سكين. إنها حياة بأكملها كتبها سركون بالدم والعرق والنثر.
شعره يسكن ذاكرتي كما يؤسس معرفتي الشعرية أيضا.
كنت شديد التأمل في علاقة شعره بحياته. كنت في السنوات الأخيرة التي قضيتها في فرنسا أرتد ارتدادا عن كل الزعابير والمزعبرين من الشعراء ودجالي الحداثة ذوي ربطات العنق الذين يتباهون باتقانهم للغات عدة، وبتجريبهم اللغوي وتنظيراتهم الاستيهامية. كان سركون شاعرا وشخصا يساعدني، وأجده مثالا حقيقيا وذريعة علي ادارة الظهر لهذا النوع من الشعراء . يساعدني عبر قذفه الحياة الشخصية في القصيدة والقبض علي الشعر في عنف هذه الحياة وبساطتها وعاديتها، وعدم الاهتمام بكامل اشكال التنظيرات عن الاختراقات اللغوية وسائر جدرانها.
كان سركون يرصد حركته في المكان في سائر المدن التي مر بها. ويحدد ويسمي الأمكنة، ما يعطي حرارة وصدقية للمناخات التي توسلها المناخات التي لا تغادر محل حياته. في سائر البلدان التي مر بها، هو المسافر الأبدي. المكان الذي يسميه مدينة أين، التيه الأبدي. ومن ثم عدم الوصول.
قاموسه اللفظي الشاسع، والذي تنيره مفردات السفر والتنقل المستمرين وروائح النستالوجيا المستعادة، يرن في ذاكرتي. كان سركون ملتقي جغرافيات متعددة وأزمنة تتناسل من بعضها البعض. كسور العالم كله، في المدن التي عبرها تتجمع في ذاته. الماضي ممزوج بالحاضر والمستقبل في لحظة شعرية قبض عليها بروح الشاعر الأصيلة.
أحب شعره وأتبعه وأنتمي إليه بقوة الآن، ذلك الشعر الذي بمقدار ما يحفر في العالم يحفر في الأغوار السحيقة. وأصطدم وأندهش بالعالم الخارجي الذي يملأ قصيدته، وتلك اللاواقعية التي تنبثق من الجوهر الروحاني للشعر، والتي تلمع وتشع في كامل قصائد الشاعر. لغته التي هي حالة توق إلي اللانهائي وبحث خلف الأشياء بالمقدار نفسه تسعي إلي العالم وحرارته. هكذا يترافق في قصيدته الابحار في العالم والابحار في الذات ايضا.
قصائد تولد من قصائد وقصائد تلي قصائد وترعاها وتسهر عليها الكل متصل اتصالا ببعضه بعضا. إنها حياة من لحم ودم وعرق وتشرد وبرد، وليس من اللغة وألاعيبها.
الكآبة التي تتضمنها القصائد والحزن والاحساس القاسي بالغربة يشع ويسطع ايضا، في سرد وقص سحب منهما كل ما هو مستطرد ومسترهل.
الكلام العادي ملغما بالأحداث الصغيرة المسكونة بالشعر.
القصائد التي تحيل علي المشاهد الخارجية عارية رهان علي أن الشعر يوجد أيضا في الحياة عارية علي بديهيتها، ولا يحتاج احيانا إلي أي اشتغال لغوي علي الاطلاق.
أتعلم من قصيدة سركون بولص التي تنفتح علي عوالم متعددة و أزمنة مبعثرة. أتعلم من كون كل قصيدة تستعيد الظلال البعيدة من الذاكرة وتسجل اللحظات الحياتية للشاعر. قصيدته التي توهم بالوقوف عند الظاهر، بينما تذهب وتحفر عميقا، قابضة علي صوت الشاعر الداخلي، داخلة في حالة انخطاف في الذات عبر العالم. سركون أحد الينابيع الأساسية لشعرنا العربي الحديث، ولمستقبل القصيدة العربية الجديدة التي تكتب الآن.
ومجموعاته الشعرية سفر الألم والعذابات للشاعر الذي لم يرتض إلا الشعر طريقا وحياة. ايها الشاعر إننا حزينون لفقدك. إننا ننتمي إلي قصيدتك، وهي وجهنا واسمنا الجريحان.

***

البحث عن المكان

صباح زوين
(لبنان)

عزيزي سركون
أكتب اليك اليوم إلي حيث أنت إلي الأبد. لا حاجة لي لأن أتقصي عناوينك الكثيرة. أنت تنقلت كثيراً في بلدان الله ولم تركن يوماً إلي مكان.
هذا أنت يا سركون. هل وصلت ربما اليوم إلي مدينة أين؟! في أي حال أنت وصلت بشعرك العظيم إلي أين سؤالك وأين مدنك الضائعة لا بل إلي منتهي الشعر.
منذ أن ضاعت منك كركوك وأنت تبحث عن المكان الأجدي ولم تجده أنت، ولم نجده نحن لك، سوي في شعرك العظيم. أنت الجديد الدائم وأنت المتجدد في الشعر يا سركون خسرك الشعر والشعراء.
لماذا ذهبت باكراً يا سركون؟ أو هذه كانت أمنيتك بعد انفصالك عن كركوك المكان وعن الأشورية لغتك الحميمة يا سركون؟ وأخذت تبحث عن الأمان حتي غدرك الموت وأصبحت اليوم آمناً بعيداً عن عذاباتك؟
كنت أكتب عن دواوينك بشغف من وجد قصيدة حقيقية. ولا أنسي اتصالك بي وأنت في سان فرانسيسكو وأنا في مونتريال.
ولم أصدّق وقتها إذ كنت أعرف مدي إهمالك بكل شيء. وقلت لي إنك فرحت بكتابي. ثم في السنة اللاحقة التقينا خلال عشاء في بيت عبد القادر الجنابي. وعندما غادرنا معاً في المترو قلت لي: خوش سهرة .
ومن وقتها عرفت كيف تستعملون في العراق كلمة خوش: قبل الاسم (كنت قد سمعت أصدقاءك سابقاً في بغداد أمثال جان دمو والأب يوسف سعيد لكن منك أنت كانت الأوضح). ثم سمعتك تتكلم مع أحد الأصدقاء في الأشورية علي الهاتف . كم ثملت عند سماعي لغتك هذه. كم تأثرت إذ رأيت فيك اللغات كلها والتاريخ كله محصوراً في شاعر كركوك الكبير. لم تغادرنا يا سركون: قصائدك الرائعة هي الحية بيننا وهي صورتك المشعة نوراً إلي الأبد.

***

عَظمة أخري لكلب القبيلة

سركون بولص(*)

الكرسي

كرسيّ جدّي ما زالَ يهتزّ علي
أسوار أوروك

تحتَهُ يعبُرُ النهر، يتقلّبُ فيهِ
الأحياءُ والموتي
أبي في حراسة الأيّام
لم تكن العَظمة، ولا الغُراب
كانَ أبي، في حراسة الأيام
يشربُ فنجان شايه الأوّل
قبل الفجر، يلفّ سيجارته الأولي
بظفْر إبهامه المتشظّي كرأس ِثُومة.
تحت نور الفجر المتدفّق من النافذة، كانَ حذاؤهُ الضخم ينعسُ مثل سُلحفاة زنجيّة.
كان يُدخّن، يُحدّقُ في الجدار
ويعرفُ أنّ جدراناً أخري بانتظاره عندما يتركُ البيت
ويُقابلُ وحوشَ النهار، وأنيابَها الحادّة.
لا العَظمة، تلك التي تسبحُ في حَساء أيّامه كأصبع القدَر
لا، ولا الحمامة التي عادت إليه
ِبأخبار الطوَفان.
حَصاة

في اليوم التالي للطوفان
صباح ٌ راكد، وفي قعر العالم دمعة، متجمّدة
مثل حَصاة يتيمة

يذهبُ الإعصار بكلّ شئ، بالنخلات والبيوت
بالقوارب والدرّاجات والمنائر، وتبقي
هذه الحصاةُ في مكانها، متألّقةً بخُفوت
لأنّ يدَ الأبديّة لمّعتْ صلعَتها كماسح ِ أحذية الربّ:

ها هيَ تحت قدَمك، دُس عليها إذا شئت، ادعسْ بقوّة.
ثمّ اعبُرْ. لا تخَفْ.
إنّها، بين الحَصي، ليست أكثرَ من حَصاة.

حَمّالُ الكلمات

صوامعُ تنهارُ بنُسّاكها المُلتحين إلي الهاوية
وفي الشارع يعبرُ الحَمّالٌ وعلي ظهره آثاثُ بيت:
سَجّادةُ كاشان، طابعة عربيّة، ستائرُ مخمليّة، هَرمٌ من الكراسي.
في غدير الصباحِ أحرّكُ سرّا ً أخضرَ، مثلَ ضفدع، بإصبُعي.
أكتبُ كلمةً واحدة في دفتري، وأغلقهُ. حركة ٌ تكفي
لكي تتغيّر الدُنيا.
سقط الرجل

في وسَط الساحة
سقطَ الرجُلُ علي رُكبتيه.

ـ هل كان مُتعَباً إلي حدّ
أن فقدَ القُدرة علي الوقوف؟
ـ هل وصلَ إلي ذلك السدّ
حيث تتكسّرُ موجةُ العُمر النافقة؟
ـ هل قضي عليه الحزنُ بمطرقة ٍ يا تُري؟
هل كانَ إعصارُ الألم؟
ـ رُبّما كانت فاجعة ًلا يطيقُ علي تَحَمّلها أحد.
ـ ربّما كان ملاكُ الرحمة
جاءَ ببَلطته الريشيّة عندما حانَ لهُ أن يجئ.
ـ ربّما كان اللّه أو الشيطان.
في وسط الساحة
سقطَ الرجلُ فَجأةً مثلَ حصان
حصَدوا رُكبتيه ِبمنْجَل.

المظروف

أقضي حياتي جالساً مثل ملاك في كرسيّ حّلاق
رامبو، صلاة للمساء

قد يقولُ لي أحدهُم، وقد لا يقول:
تعال رجاءًَ، قُل لي ما هي القصّة.
ما هذا المظروف علي المائدة.
تَقطُّراتُ الشحم المائع
من ذكري جُثّة الغائب، صنّارةُ الصيّاد
في غَلاصم السمكة - ما هي القصّة.

ـ أذهبُ إلي البحر في هذه الأيّام
لأنني مريض، أحتاجُ إلي أنسَام عليلة.
أجلسُ في مقهي علي الرَمْلة
متطلّعاً إلي الصخور عندما تغربُ الشمس.
لا أحدٌ يأتي هنا. أحياناً، امرأةٌ وكلبُها. صيّادٌ عجوز.
نوارسُ تطفو في الهواء، مناقيرها
البرتقاليّة، عيونها الصفراء، ترصدُ البحر
وبين حين وآخر قد تحظي بسمكة
تَشي بها حراشفُها الساطعة تحت الماء.
أشربُ بيرتي علي مَهلي، ثمّ أمضي
في سبيلي. لن أعرفَ أبداً ما هي القصّة.
لن أفتح المظروف.

فجوة الأزمنة المتاحة

لا حدّ لهذا الهُجران، أزاولهُ
كأنه عادة ٌ مُزمنة، أثقلَ من فيلٍ هَرمٍ يتربّع في
مَرْجة ٍ محصودة بلا عشبة، وفي فجوة الأزمنة المتاحة لي أطلّ بنصف وجهي لأشهدَ أيامي المدفوعة وراء القضبان تتمرّغ في طين الإمكان مثل عصفورٍ يتمَرْغَلُ وسط بركةٍ ضحلة.
وها هي ذاكرتي التي لم تُرد أن تصير كيساً تلقي فيه الآلهة فضلاتها المتبقّية من عشائها الأخير، تؤرّثُ نارَها.
ها هي تخطيطاتُ دماغي المهزوزة في آخر الليل
علي صفحات دفتر أسود تركتهُ خلسةً تحت باب المحكمة حيثُ ينتظرُ الشاهدُ القرويُّ في قصّة كافكا أن يفتحوا له الباب.
أجلجلُ هذه المفاتيح لا لأنني سجّان، بل لأنني
أنا من يفتحُ الأبواب، ولا يعرف كيف يغلقها، وينام.

ما يُحتمل أن يكون

يُحتمَلُ أن أكون أنا من يمشي طائعاً أمراً، من فوق أو تحت، جاءني لا أدري متي.
مَن جاءني، من يأمرُ: هذا ما لا أدريه. ولا أُعنَي بأن أدري. ماش ٍ، في الريح الشائكة، يُخدّشُ الهواءُ جلدي.
هذا العالمُ حديقةُ أشواك.
يُحتملُ أن أكون أنا السائر، وذكرياتي علي ظهري مثلَ خِرج ٍ أو بُردُعَة
ومن حولي تاريخُ أهلي يُلَملَمُ، تحتَ جنح الظلام، علي عجَلٍ، كرايةٍ مهزومة.
تَحَفُّزي، الذي انفقأ مثل فَقّاعة في غدير آسن، يستحثّ الضفادع، قبلَ صلاة المغرب علي النقيق.
شَللُ أطرافي إشاعة ٌ صحيحة.
يُحتمل أن أطيلَ شَعري حتّي تضربَ لحيتي ركبتيّ. وأن أقَنّعَ وجهي بلحية نبيّ.
أو ربّما أكتفي بسرّ عاديّ، لا يُثيرُ حفيظةَ السَّحَرة
ورجال الدين المتربّصين بأتفَهِ شارة تصدرُ عنّي، ولا يدفَعُ درويشَ المحلّة
إلي حافّة الهوّة حيثُ يحلمُ، كعبّاس بن فرناس، بالتحليق.
يُحتملُ أنني، رغم كلّ الظواهر، مجرّد رُقعة بشريّة تتنقّلُ في جُغرافيّة ألألوهة
العاقر. أو بيدقٌ ربّانيّ تحرّكهُ يدٌ مجهولة
علي رقعة شطرنج.
يُحتملُ...يُحتملُ أنّ آدم لم يُطرَد من الجنّة، وحوّاء داست بقبقابها علي رأس الثعبان.
هذا، عادةً، ما يحدثُ في الليل، عندما تحلمُ بما يكون
أو يُحتَملُ أن يكون.

الملاك الحجري

حتي ذلك اليوم الذي لن أعودَ فيه
إلي قصدير الأيام المحترقة، والفأس المرفوعة
في يد الريح، أجمعُ نفسي، بكلّ خِرَق الأيام ونكباتها، تحتَ سقفِ هذا الملاك الحجري.
هذا الحاضرُ المجَنَّح كبيتٍ يشبهُ قلبَ أبي
عندما سحَبتهُ المنيّة من رسغه المقيَّد إلي جناح الملاك
في تُراب الملكوت.
حتي ذلك اليوم، عندما يصعدُ العالمُ في صوتي
بصهيل ِألف حصان، وأري بوّابة َ الأرض مفتوحةً أمامي حتي ذلك اليوم الذي لن أعودَ فيه ِ
مثلَ حصان ٍ مُتعَب إلي نفسي، هذا الملاكُ الحجريّ:
سمائي، وسقفي.

الي سيزار فاييخو

من بين أسناني أخرجُ داخناً،
صائحاً، دافشاً، نازعاً سراويلي...
سيزار فاييخو، عجلة الإنسان الجائع

يا سيزار فاييخو، أنا من يصيح هذه المرّة.
إسمح لي أن أفتح فمي، وأحتجّ علي الدم الصاعد في المحرار دافعاً رايةَ الزئبق إلي الخلف. لتصطكَّ النوافذ، لتنجَرَّ ميتافيزياء الكون إلي قاع الأحذية الفارغة لجنديّ ماتَ بحَربته المعوجّة.
عجلةُ الإنسان الجائع" ما زالت تدور... من يوقفُ العجلة؟
قرأتُك في أوحَش الليالي، لتنفكّ بينَ يديّ ضماداتُ العائلة.
قرأتُ عواصفكَ المُتململة حيثُ تتناوَمُ الوحوشُ في السراديب حيثُ المريضُ يتعَكّزُ، علي دَرب الآلام، بعَصا الأعمي الذي رأي...
وفي هذا المساء، يا فاييخو، تعلو الأبجديّاتُ وتسقط. المبني ينهار، والقصيدة تطفئ نجومها فوق رأس الميّت المكَلَّل بالشوك. ثمّة ما سيأتي ليسحبَ أجسادَنا علي مَجراهُ الحجريّ كاندفاعة نَهر.
ثمّة حجر سيجلسُ عليه شاعرُ الأبيض والأسود في هذا الخميس. واليوم، أنا من يصيح.

************

-السفير

لا حدود بين الكلمة والحياة

اسكندر حبش

كان من قلة قليلة أشعر بانتمائي إليه، إلى عالمه الشعري الذي سحرني ولا يزال. أشعر فعلا أني فقدت أحد آبائي الذين أدخلوني إلى القصيدة الجديدة وإلى الكتابة الشعرية في ما بعد. صحيح أني لا أنتمي إلى قصيدته كتابة، أي بمعنى استعادتها والنسج عليها، لكن هذه المخيلة النابضة التي كان يتحلى بها، كما لغته الجديدة البعيدة عن تهويمات شعر تلك الفترة، فتحتا لي آفاقا عديدة في الكتابة الشعرية. أعتقد أني جئت من هذا الاختلاف، من هذه المجموعة التي خرجت من كركوك وضمت كثيرين غيره. بمعنى آخر، تعنيني أكثر تجربة مجلة «الشعر» العراقية أكثر من نظيرتها اللبنانية، لأنها جعلت من الشعر قضية إنسانية بامتياز، بينما توقف الفكرة اللبنانية عند قضيّة اللغة. قول لفاضل العزاوي في كتابه «الروح الحية» (كتابه حول تجربة الستينيين العراقيين) ولا أستعيده هنا إلا للدلالة على هذه الحركة التي فتحت وعيا حقيقيا لم ينتبه له الكثيرون، بالأحرى لم يرغبوا في الانتباه إليه، إذ كانوا مهتمين بقضايا أخرى، غير شعرية بالدرجة الأولى.
سركون كان واحدا «من أولئك» الذين تقرأهم، ويبقون حاضرين معك طيلة حياتك. قرأته للمرّة الأولى في بداية الثمانينيات، يومها كنا نبحث عن مصادر شعرية جديدة، غير تلك التي تعرفنا عليها. حشريتنا هذه قادتنا إلى اسمه، وكانت الصعوبة أن نبحث في المجلات القديمة عن نصوصه الكثيرة، التي لم يجمعها إلا في الثمانينات، في ديوان أول، بعنوان «الوصول إلى مدينة أين». كتاب حقيقي لجيلي، في تلك الفترة (مع أشعار وديع سعادة وعباس بيضون)، اللذين قادانا إلى عوالم أخرى، بدت بهية بكل اختلافاتها التي صدمت وعينا بنص لم نكن على دراية به. صحيح أن القراءات استمرت وتعرفنا على أصوات أخرى، وأصبحت مصادر الشعر لدينا، تغرف من وجهات أخرى، إلا أنها كتب حفرت عميقا، وأظن أنها لا تزال.
قلة هم الذين جمعوا بين الحياة والشعر، كان يعيش شعره إلى أقصاه، ويكتب حياته إلى أقصاها أيضا. ألغى الحدود الفاصلة بين الكلمة والحياة. جعل من الأمرين منبعا واحدا، ليرسم عالمه الخاص، الاستثنائي.
لا أريد أن أرثي شاعري. صحيح أن فقدان شاعر بحجم سركون بولص، لا بد أن يترك فجوة ما، في الشعر، في الحياة، في اللغة عينها. وصحيح أن (الإيميل( الذي يصلني صباحا من خالد المعالي يدخلني في كآبة، لا أعرف كيف الخروج منها، إلا بليتر من الفودكا، إلا أنه يكفي أن نعود لنقرأ شعره، لنحس كم أن هذه الحياة تفقد الكثير من معناها. هذا ما سأفعله: سأقرأ شعره اليوم، وأمامي هذه القارورة. فقط لنقول كم كنا نحبك. لنقول كم أنت سمجة أيتها الحياة.

****

يكتب ما وراء النسيان

فاطمة المحسن

كان يقول قبل يومين فقط انه سيذهب الآن، الى أين تذهب يا سركون. كنت أسأله فيجيب: الى بيتي. أي بيت تقصد؟. كان يردد الى بيتي. سركون المعلق على كل الطرقات، الراحل بين المدن والقصائد لا بيت له في هذا العالم. يكتب أوديسا الرحيل دائما، يمسك بالفراغ وهو يجتاز مسافات العبور الى العراق «أصل الى وطني بعد أن عبرت / نهرا يهبط فيه المنجمون بآلات فلكية صدئة / مفتشين عن النجوم/ أو لا أصل الى وطني/ بعد ان عبرت نهرا لا يهبط فيه أحد».
سركون بولص لم يضع الفاصلة الأخيرة في كتاب إبداعه، بعد أن تركه مفتوحا للآخرين. ومثل متشرد، عاش الشعر والحياة في تزاحم لا يدري أيهما الخاسر في جولة السباق تلك. كان الشعر انخطافة يعيشها وهو بين جلاسه، ترحل عيناه الى أماكن غريبة، ويتمتم بكلام لا يسمعه غيره. والقصيدة تلك التي تكتب نفسها، تفلت منه، ولا ينتظر هو عودتها، فقد كان شعور الغربة يملأ روحه باكتفاء من نوع خاص، زهد بالحياة وقوانينها. يأكل كل شيء ويعيش الصدفة، لحظة صمت او صداقة أو ضحكة او خصومة مع الماضي والحاضر. سركون المثقف النادر الذي يمتلأ رأسه بالكتب، يعود الى الحياة عندما يكتب الشعر، فما خلّفه من طفولة في تلك القرى المسيحية ينبثق برأسه، مثل دليل على ما قطع من سبل الوصول الى هذا المكان. فهو يضع نفسه في المنطقة العازلة للشعر حيث كل شيء يبدو وكأنه محض اكتشاف أولي: المشاعر والذكريات وملامسة الحياة «الموقد البارد في الزاوية/ يطق مرة ليذكرني بأن أسفاري/ ضد الزمن، وليس لي أن أحمل الأشياء/ على ظهري حتى الابدية، أو أرفع هذا الميت / من إبطيه عن درج بيتي». تلك المنخوليا التي تعصف بروح سركون، كانت تأتيه بعالم قيامي يشاهد فيه الضفاف وهي تفور بالموج، والأرخبيلات وهي تجتاح المدن، والشباك وهي تجرف العبيد من الأنهار. الماضي يتحرك داخله لا من ارشيفات قديمة، بل مما اختزنه الفكر من رحلة مضنية، لذا لن نجد السرد في قصيدة سركون مجرد تخيل او استرجاع، بل هو اكتشاف الكون والخليقة، انفعال التعرف على النطفة الأولى للموت والحياة. هو يكتب ما وراء النسيان، كي يتذكر تلك الاسترجاعات الغامضة لروح الاسطورة. التوتر الذي يسوق قصيدته الى لغة ثرة وصور محبوكة ودقيقة، يمضي به الى عالم يبعده عن كل كلام فائض ومكرر.
ذعر سركون من الحياة، جعله يبتعد عنها، ويخطئ في تصويب أهدافه اليها، ولكن من قال إن الأسبقية للعارفين بهذه الحياة ابنة الزانية كما يسميها.

****

عمارات استدراج الذائقة

صبحي حديدي

رحل سركون بولص شاعراً كبيراً صاحب تجربة كبرى، بالغة الحضور، واسعة التأثير. ورحل شاعراً مقلاً بالقياس إلى عدد المجموعات التي أصدرها، لا سيّما أنّ مجموعته الأولى لم تُنشر إلا سنة ,1985 حين تجاوز سنّ الأربعين. هنا مفارقة أولى ذات مغزى في تجربة بولص: أنّ الحجم الكمّي لنتاجه الشعري لم يتناسب البتة مع حجم التأثير النوعي الهائل الذي مارسه، منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم في الواقع، على جيلين متعاقبين من الشعراء العرب، وشعراء قصيدة النثر على نحو أخص.
وليس بغير دلالة قصدية أنّه كان، في مجموعته الخامسة «إذا كنت نائماً في سفينة نوح»، ,1998 قد أعاد إدراج عدد من قصائده القديمة التي تعود إلى الفترة الممتدة بين 1969 و,1982 ليس لأنها ترتدي أهمية بالغة في مسار تجربة بولص الشخصية فحسب، بل لأنها شكّلت علامات فارقة في أقدار الشعراء العراقيين الستينيين (فاضل العزاوي، عبد الرحمن طهمازي، صلاح فائق بصفة خاصة)، وفي التاريخ المتقطّع القلق لقصيدة النثر العربية إجمالاً. وفي تعقيب يوضح سبب إعادة نشر هذه القصائد كتب بولص يقول إنها كانت «نتاج مرحلة واحدة تقريباً بدت لي فيها جميع منافذ الكتابة العربية، لأوّل وهلة، مسدودة في وجه التجربة الجديدة التي كانت تكتسحني آنذاك والتي توقفت عن الكتابة، زمناً، لأنغمر فيها بكامل جسدي ومخيلتي وأمضي بها إلى النهاية».
والحال أنّ امتزاج هاجس التعبير الجديد بقلق اجتراح الشكل المغاير كان في رأس هموم بولص منذ البدء، وهكذا ظلّ حتى آخر قصائده التي نشرها قبل أسابيع قليلة. ولهذا فإنّ الحديث عن شعر بولص سانحة دائمة لممارسة بعض «الانضباط» التحليلي في تمييز مصطلح «الشعر الحرّ»، أو «قصيدة التفعيلة» كما نقول اليوم، عن مصطلح «قصيدة النثر». ولقد بات معروفاً الآن أنّ مناخات التجديد الخمسينية، التي كانت غائمة مضطربة بقدر تلهفّها على إحراز قفزات دراماتيكية، سمحت لنازك الملائكة باستسهال إطلاق تسمية «الشعر الحرّ» على القصيدة التي تحرّرت من عمود الخليل ولكنها ظلّت مُلزَمة وملتزمة بـ«عمود» تفعيلي ليس أقلّ نسقية، وبنظام في التقفية ليس أقلّ جموداً. كذلك سمحت لأدونيس، وسواه، باستسهال مضادّ في إطلاق تسمية «قصيدة النثر» على كتابة شعرية تحرّرت من الوزن والقافية، ولكنها ظلّت ملزمة وملتزمة بـ«عمود» مستتر إذا جاز القول، كان سطراً طباعياً صرفاً بالطبع، ولكنه في الواقع كرّس التقطيع إلى أسطر شعرية مجردة وتجريدية، وعشوائية عموماً، واستولد الكثير من الالتباس بين السطر الجديد والعمود القديم.
امتياز نموذج سركون بولص كان الاشتغال الدؤوب، والشاقّ تماماً، على استقصاء تلك الهندسة الغائبة، أو المتعثرة في أفضل المقترحات، والإلحاح على انبثاقها من وسيط النثر في ذاته، واعتمادها على ديناميات النثر وليس شَعْرَنته فقط، على نحو يمسخ طاقات النثر بدل أن يطلقها. وبهذا المعنى فإنّ من الإنصاف البسيط ضمّ بولص، وعدد من الشعراء مجايليه، في العراق ولبنان خصوصاً، إلى صفّ ريادة قصيدة النثر العربية في جانب جوهري وتكويني من مشاقّ كتابتها: البحث عن الحلول الفنية الكفيلة باستيلاد عمارات إيقاعية رفيعة، متغايرة على نحو مَرِن، جذابة ولافتة، قادرة في الآن ذاته على منافسة التفعيلة في استدراج ذائقة حرونة متجبرة، ظلّت طيلة قرون أسيرة نظام السماع والأذن والتلاوة الجهرية.
هنالك جانب آخر حاسم في شعر بولص، أتيح لي أن أتوقف عنده في مناسبات سابقة، هو أننا بحاجة إلى نماذجه في المستوى التربوي والتعليمي، إذا كنّا سننجح ذات يوم في إدخال جماليات قصيدة النثر إلى المناهج المدرسية في التعليم الثانوي على سبيل المثال. ففي قصيدة بديعة مثل «إلى امرئ القيس في طريقه إلى الجحيم»، من مجموعة بولص الرابعة «حامل الفانوس في ليل الذئاب»، ,1996 يقول بولص: «ضيّعني أبي صغيراً» أجل ضيّعني ولن أستريح/ «اليوم خمرٌ، وغداً أمرٌ» تقول الريح/ ولي خمر وجمر ومعلّقةٌ/ قد أهزِمُ بها جنيّاً يزورني في مثل هذه الساعة/ في مثل هذه الساعة دوماً كأننا على موعدٍ/ لا يقبل التأخير محمّلاً بكلّ ضغائني/ ليعلّمني أسرار السواد في سراديب سويدائي/ وهذا الغسق اللعين، المتكاثف ظلاً فظلاً ليعلم أنني/ أحلم في آخر قطرة ترشح من سَدولهِ/ بأنواع الهموم، بأنواع الهموم!». وليس عسيراً أن ندرك البعد التربوي في كيمياء هذه القصيدة: أنها تصنع شبكة بارعة، وخافية، لاستدراج قارئ الشعر المتوسط على دفعات: إثارة فضوله، إلزامه بالركون إلى منطقة وسيطة بين القراءة الصامتة والقراءة الجهرية، استثارة ذاكرته الإيقاعية واستنفار أوالياتها الراسخة المطمئنة، استفزاز أعرافها، وصولاً إلى اقتياد القارئ نحو «مصالحة» من نوع ما بين ذاكرته الإيقاعية وهذا الاقتراح الإيقاعي الطارئ.
وغنيّ عن القول إن تجربة الراحل الكبير اشتملت على العديد من الاختراقات التعبيرية والفنّية والجمالية، فضلاً عن تلك التي تخصّ موضوعات قصائده، وليس الحديث هنا عن جانبين فقط في تلك التجربة إلا من طراز الاختزال الذي يقتضيه المقام.

***

مَن يذكر سركون بولص؟

بسام حجار

سركون بولصقبل أن ألتقيه كنتُ أحسبُ أن سركون بولص لا وجود له إلاّ في ظنّي.
ثمّ التقيته في مناسبة وحيدة، قبل بضع سنوات لا أذكر عددها، في بهو فندق «القدس» في عمّان، إذ كنّا من بين المدعوين للمشاركة في فعاليات «مهرجان جرش».
لعشرة أيام كنّا نلتقي في بهو الفندق، مدعوين، شعراءَ من البلدان العربيّة كافّة، لساعات طويلة.
ولم يكن الشعر حاضراً في مجالسنا.
لم نكن نحن كشعراء حاضرين في مجالسنا.
بعد ذلك عاد كلّ منّا إلى بلده أو إلى منفاه. ما عدا سركون بولص؛ كانت رحلة عودته (إلى أين ؟) تتخلّلها محطّات في عواصم عربيّة وأوروبيّة، ولا يدري أين ستكون محطّته الأخيرة.
رحلة عودة على سبيل المجاز. فلكي تعود لا بدّ لك أولاً أن ترحلَ عن مكان بعينه لكي تعود إليه.
من أين بدأت رحلة سركون بولص؟ أين أقام قبل ذلك؟ وإلى أين يعود؟
أعرف مَسْكناً واحداً لسركون بولص هو اللغة. ولعلّ هذا ما جعله في ظنّي، قبل أن ألتقيه وبعد أن التقيته، شخصاً من المعاني. لن تعرفه جيّداً مهما حاولت ولكن يسعك على الدوام أن تحاول تفسيره.
كما يفسّر كلّ شيء لكي تَنْزَع عنه لبساً فيرتدي ألف آخر.
لو كان سركون بولص رجلاً ينتمي إلى مكانٍ نشير إليه، بسبّابتنا، على الخارطةِ التي نعلم أنّها جغرافيا أفكارنا، لما تعذّر علينا أن نذكره جيّداً. أقصد: ملامح وجهه؛ علاماته الفارقة؛ قوامه؛ مشيته؛ ضحكته؛ أو الطريقة التي يمسك بها كأسه أو سيكارته.
لو يخرج قليلاً من ظنوننا لأدركنا له هيئةً وحجماً ووزناً.
غير أننا نعجز اليوم عن استذكارِه إلاّ بما ساقه على الورقِ من تصاريف اللغة. وهي البلد الوحيد الذي جاهر سركون بولص بانتمائه إليه.
هناك يكون في بيته.
لا يخترع أو يبتكر أو يجهد في اجتراح المعجزات، بل يحيا، كما يحيا المرء في ملاذه الآمن، ويفكّر ويتكلّم.
لطالما أقمتُ على ظنّي
بأن سركون بولص كائن يفكّر ويتكلّم في ظنّي. إذ لم أجد له أثراً، حتّى بعد أن التقيته، إلاّ في الكتب التي نعاود قراءتها، مراراً وتكراراً.
ولطالما أقمتُ على الظنّ أنني إن محوتُ ما أخلّفه من أثرٍ في عبوري بين عابرين فقد ألتقيهِ ذات يوم في ترحاله المتمادي.
من يذكر سركون بولص؟
ومن يدري أين سيُجعَل مثواه الأخير؟
ولكني أحسب أن ما يليق بمثلِه هو أن يقام له ضريح على هامش كتاب السير المستحيلة؛
أو في شروح موسوعة الموتى والعابرين؛
أو في فهارس المدنِ ومعاجمها.

****

عاش كثيراً في وقت قليل

عناية جابر

التقينا في جرش ذات يوم. في ركن الفندق كانت هالة ذكورية متوهجة، وجه وسيم مصفح ضد كل القاعدين، وجسد يحاول ان يسترخي، لا يعرف. تقدمت الى سركون بولس متسلحة بقراءتي شعره، فلم يفلح الامر. لم يعنه انني احفظ بعض قصائده، غير انه افسح لي مطرحاً على الكنبة الجلدية، دعاني الى الجلوس، ننتظر معا أخاه وبعض اقربائه يأتون قريبا لاصطحابه في دعوة غذاء. سألني مرافقته لكي اجنبه «الفخ» الذي يدبرونه له: «يريدون ان يزوجوني» ولعلعت ضحكته فكانت اغرب ضحكة سمعتها. بدا ساهيا وإن لم يكن كذلك في الحقيقة، فلم يفته تفصيلا في المكان واشخاصه لم يتناوله او يسخر منه. كانت حمدة خميس تغذي ضحكه المتواصل بحكاياتها عن لغة الهنود العاملين في البحرين، في محاولتهم الى «الانسجام» مع أهل البلد، بعربية معاقة، اغرقت سركون في «مود» منشرح، فهمس لي أخيراً انه قرأ بعض قصائدي.
كلما همت حمدة الى الصمت، كان سركون الضخم يتوسلها كطفل ان تعيد على مسامعه «خبرية» السائق الهندي ووجهة نظره في الحياة والكون.. والعرب.
الشاعر الذي بدا فائضا في أمسياتنا، وفي شعرنا، وكلامنا وأكلنا وشربنا، كان انتقائيا الى درجة قاسية، وحنونا الى حدود قصوى. كنت اعلم في سري ان حكاية اصرار اخيه على تزويجه، حكاية ملفقة بالكامل، سوى انني تواطأت معه في لعبته وعرضت ان نهرب الى مكان ما، فأطربته الفكرة.
لن نأس على سركون في موته فلا يحق للسرطان ان يؤلمه بعد. رحل الرجل، وكان قد عاش على قياس رغبته بالعيش. عاش كثيراً جداً في وقت قليل، وكتب الذي كتبه، وقد خلفه لنا أخيراً لنهتدي الى الشعر في الحياة، وليس في الكلمات. عشقته نساء كثيرات، وكان يأنف الكثرة في عشقهن، يلون الوقت بالأكل والخمر والترحال.
كان لي شرف منادمة شاعر ذات يوم. وأحسبه لم يرث نفسه في وحدته حيال الموت، فقد خبر ما هو اقسى، وما هو أمر، سوى انه رحل أخيراً بذخيرة طيّبة من الاماكن، والكلمات، والتفاصيل والعلاقات الخفيفة التي لا تثقل على القلب، ولا تجعله يدمع حين يؤذن الرحيل.

***

بحثاً عن الصابئة

يوسف بزي

بخليط من الحنق والكحول، امتطينا «الرانج روفر»، فادي توفيق وفادي طفيلي وأنا ليقودنا فادي أبو خليل في جولة بعد منتصف الليل في شوارع الأشرفية بحثا عن الصابئة.
نقف أمام كل دكان مفتوح ونترجل داخلين اليه لنسأل: «هل من صابئة هنا؟».
قضينا وقتا طويلا تلك الليلة المكهربة نفتش عن آخر صابئة على كوكب الأرض.. هنا في أحياء بيروت الشرقية.
أتذكر هذه الحادثة وأنا أفكر برحيل سركون بولص، صاحب أجمل عنوان لكتاب شعري باللغة العربية «الوصول الى مدينة أين». أظن ان بحثنا عن الصابئة تلك الليلة كان تمرينا على الوصول إلى مدينة سركون بولص.
يخطر ببالي أيضا «الهروب من الكتراز» فيلم كلينت ايستوود، طالما ان سركون كان هناك مع الفتاة الهيبية، الهندية الحمراء، جالسين على شاطئ سان فرانسيسكو يرمقان السجن ـ الجزيرة، فيما هو ـ حسب ما أتخيل ـ يفكر في الأكاديين والسومريين والآشوريين والكلدان والصابئة، وهي تفكر في آخر ماهاغوني من قبيلتها... وكلينت ايستوود في الأثناء يحفر بالملعقة جدار زنزانته.
في المرة القادمة، لن يكون سركون موجودا معنا ليحمل الفانوس بحثا عن اليزيديين في شوارع بيروت، ولا فادي أبو خليل الذي يبحث عنه يحيى جابر ما بين مطعم بربر ومقهى الويمبي.
لم ألتقِ في حياتي هذا الشاعر، أنا المغرم به.
أحتفظ في رأسي بصورته تلك المنشورة على الغلاف الخلفي لمجموعته «الوصول الى مدينة أين» صورة شاب بأناقة بوهيمية وشعر طويل وفق موضة السبعينيات. لقد أغرمت به كامرأة في صورته تلك. كنت فتيا، ووددت ان أكون بمثل مظهره عندما أصبح رجلا ناضجا. اذ خيّل إلي ان رجلا بهيا وجميلا كهذا وفي الوقت نفسه هو شاعر لا يمكن ان تقاومه النساء.
بدا لي ان صورته مخالفة تماما لـ «بوزات» الشعراء الذين يضعون يدهم على وجههم كعلامة على عمق التفكير والتأمل. تلك «البوزات» المضحكة حلت محلها هذه اللقطة لسركون بولص: شاب لعوب مزهو بجسمه وجاذبيته، ممتلئ بعلامات الحياة الخارجية، لا صريع الصومعات والعزلات.
أغرمت باسمه حرفا حرفا، سركون بولص. عندما ألفظه أسمع جرس الحنين الى هذا المزيج الوثني ـ المسيحي، وأشعر بانحيازي المرضي لما هو أقلوي وغرائبي ومنفي من التاريخ.
كنت باستمرار أتخيله بطلا سينمائيا أكثر مما هو شاعر عربي مضجر ومنتفخ بلغة الضاد.
لسبب أناني أنا مسرور اذ لم ألتقه في شيخوخته ولا رأيت صورا جديدة له. فسركون بولص الذي يخصني ما زال حيا.

***

صلة من لا يصل

محمد مظلوم

وصلت إلى بيروت هارباً أو عابراً نهاية عام 1991 بعد رحلة لا تخلو من الجهد! وفي جلسة بمقهى المودكا اجتمعت بالشاعر عباس بيضون والفنان الراحل رفيق شرف، الذي كان يعدل من قبعته ويتذكر كمن يبحث عن وجه قبطان ضائع ليسألني هل تعرف سركون بولص؟ هل لك صلة به!، قلت له ربما كانت رحلتي تشبه تلك الرحلة، رحلة لا تصل مطلقاً لكنها لن تعدم المحاولة. وصلتي به هي فكرة الوصول وليس الوصول ذاته!
والواقع أن من يقرأ تجربة سركون بولص بعناية سيجد أن هذه الفكرة تحكم مجمل تجربته بخيط لا يبدو جلياً تماماً لكنه لامع ودقيق كالحبل السري إذا ما سلمنا بأمومة الشاعر لقصيدته.
فالوصول لدى سركون، ينفصل عن جادة المعنى القار في الأذهان، وينحرف عن بوصلة الميراث، سواء بمعناه المعجمي، أو باصطلاحه المتشكل بتطور الدلالة، فهو لا يعني بلوغ الشيء أو الحد، وحتى عندما يقول في مستهل قصيدته ( آلام بودلير وصلت): وصلتُ إلى الحد ... فإنه سرعان ما يبعثر فكرة الوصول، بتناسل صوري مقصود، يعبر عن تكرار المحاولة فحسب.
ليس الوصول أيضاً إلا مجرد مقترح لصلة غائبة بين عناصر الزمن المتفكك، في صور من الماضي وشظايا غير فارة من الحاضر.
من هنا فإن الصلة التي تريدها مجمل تجربة سركون مع الراهن، ليست سوى خيبة جميلة تحدث هذا التصادم المرسوم بعناية فائقة بين شيئيات نوعية لا ضدية.
إنها الصلة التي تعوض عن الوصول الممتنع، المتعة التي يتحدث عنها جورج باتاي بوصفها (الهروب الذي لا حد له، كما لو أن حياتنا أنهار تجري ببطء من خلال حبر السماء!)
من هذا المعنى، أو ربما بشيء منه، سنجد تفسيراً لطبيعة الصلة التي تشد معظم شعراء جيلنا في العراق، بشكل خاص، إلى قصيدة سركون بولص، وشعر جماعة كركوك بالعموم، مع إن هذه الصلة، قد لا تمثل أرضاً صلبة صالحة لوقوف الكثيرين عليها.
فعندما بدأ جيلنا يتشكل أوائل الثمانينات، كانت سلالة الشعر العراقي قد تفرقت كأيدي سبأ أو كرحلة العبراني إلى الجهة الأخرى، ثمة أصداء لشعراء بقيت عند الضفة الشرقية، وثمة هوامش بعيدة كادت تنطمر تحت ركام زائف.
لم ننظر إلى جماعة كركوك إلا بوصفها ذلك الهامش الذي اختار عزلته أو قل انعزاله، كي يحدث أثراً آخر في الشعر العراقي. أثر الهامش الذي يقتفيه هامش آخر إلى حين ثم سرعان ما ينفصل لتعدد الهوامش، ويغتني الشعر من مكان آخر، بعيداً عن المتن المتكدس بلا تعيين!
ومن بين شعر جماعة كركوك، أهم تيار في نهر الشعر الستيني في العراق، تنهض قصيدة سركون بخصوبة، وتنفرد كشجرة وحيدة في غابة بعيدة!
وما بين رفض فاضل العزاوي الذي يقترب من النهليستية، وصور صلاح فائقة السابحة والغارقة أحياناً في بحر السوريالية، تنهض قصيدة سركون مسكونة بالأرواح والأشياء، ضاجة بالأسئلة والأخيلة، وهي مسترخية في قارتها، قصيدة تنبي الشعر لتتبناه، ليصح عليها قول أبي تماما واصفاً قصيدته بقوله:
وحشية أنسية كثرت بها
حركات أهل الأرض وهي سكون!

[[[

ذهب الكركوكيون جميعهم، في رحلة متعددة الجهات، وتركوا لنا جان دمو لندلله، ذكرى وحيدة من رحلة لا تصل!
فيما ظل من سركون، شاعر قصائد، وصلة لعدم الوصول ذاك، فليس ثمة ديوان قد صدر له حتى ذلك الوقت فمجموعته الأولى (الوصول إلى مدينة أين) صدرت في منتصف الثمانينات، ولم تصل إلى مدينتنا السؤال، إلا بعد وصوله هو إلى بغداد مدعواً لأحد المرابد الشعرية ليكثف السؤال مرة أخرى، ويمضي غامضاً كذلك.
شاعر قصائد يشبهنا تقريباً نحن الذين ننشر قصائدنا هنا وهناك، ولا نصدرها في كتاب، فمطابع البلاد مخصصة للمعركة، ولشعراء أدب قادسية صدام.
لم يكن بعثياً ولا شيوعياً، لم نعرفه إلا هكذا، شاعراً مجرداً من النعوت الزائدة والزائفة أيضاً، صلة أخرى للمحارب الآشوري المتقاعد، بيننا نحن المحاربين الشباب في الكولوسيوم الروماني الجديد في وادي الرافدين!
لكن من بين مجمل جيل جماعة كركوك وجيل الستينات عموماً أزعم أن معظم شعراء جيلنا مدينون في تصعيد تجاربهم لتحريضات هذا الثلاثي: العزاوي وصلاح، وسركون، من بين جماعة كركوك ومجمل الجيل الستيني في العراق.
ووسط دخان الحرب العراقية الإيرانية كنا مشغولين، بمواجهة الموت بإعادة تشكيل الخارطة الشعرية للستينات في وقت لم تكن تخرج فيه عن أراجيز المعركة التي كانت تنشر بشكل يومي وبتصاعد بياني مع اشتداد المعارك، سوى قصائد لا تكاد تقول شيئاً لحميد سعيد وعبد الأمير معلة وبدرجة نوعية مختلفة قليلاً: سامي مهدي.
وبينما يدأب معظم الشعراء على شحن مفرداتهم بدلالات حد إثقالها بعناصر متداخلة ومرتبكة غالباً فإن مفردة سركون مفرغة من عبء الدلالات التقليدية وصافية حد العري من أخلاقيات الإرث البلاغي، إنها توضع لتولد في الغالب في سياق الجملة وليس لتضيف أو تصف أو تفسر.
ولأن ذاكرته حياتية أكثر من كونها ذاكرة لغوية، فإن بلاغة أخرى ستنهض في قصيدة سركون، بلاغة تمتح من بئر الشخصاني، وليس من ترجيعات اللغة.
البلاغة في قصيدة الآشوري الضائع، ليست متوارثة، بل إنها مرثية للبلاغة بمعناها الاستعاري والاستعادي أيضاً، فهي مجاورة شيئية أخاذة، تخلق قاموساً آخر، ليس بحشد المفردات ومقدار الإزاحة التي تخلقها وتخلفها في علاقتها البينية، بل في المسافة الشيئية التي تكشف عن سرية، أبعد من وهج اللغة الطافح دون انطواء.
فمع كل المغترب الطويل لسركون بولص إلا إنك تستطيع أن تهجس البيئة الأولى تنهض في قصائده، حكايات قديمة، وذاكرة مدببة التفاصيل، وغائرة في جهات لم يصلها أحد، خاصة في ديوان (الأول والتالي) النموذج الأفصح لتمثل هذه الفكرة.
الأمكنة التي يتحرك من خلالها فانوسه السحري، ليست أمكنة مظلمة بالمعنى الفيزيائي للظلام، لكنها متماهية بحدث يبتعد، وهي منطوية عليه كما ينطوي الحدث نفسه على علته، المقهى أو الحانة في مكان وراء البحر هما جانب من الصلة السرية مع مصافي النفط في كركوك، ونوم الأبقار في ظلها، أتذكر قصيدة له ليست بين يدي الآن مع الأسف، يستعيد فيها صورة الرجل الذي ينظف بئر المرأة، ويدلي بحبله ودلوه لينظف تلك البئر في المنزل، معادل إيروتيكي لا يخلو من وطأة هنري ميلر في نسج الجمال من نفايات!

**

ليست الأسطورة لديه امتداداً للنموذج البدئي بل هي ابتعاد تام عنه، لذلك فإن ثمة بنية مضمرة تتسرب في الحكايات المنقولة من التراث الشفاهي والبيئي الغامض، ممهورة بكل ما هو شخصي في التجربة والمعرفة.
بهذا المعنى لن تكون الأسطورة ديباجة أخرى، وتزييناً خارجياً لوجه القصيدة، إنها عصبها الداخلي، ليس شعر سركون هنا الندرة الوحيدة، في هذا المجال، لكنه الأكثر جوانية وسرانية في استبطان الأسطورة، ستبدو قصيدته من الخارج قصيدة يومية شخصية تلتصق بالحياة بالمتحقق منها، لكنها في الباطن موارة ببنية هائلة من خزائن المثيولوجيا التي لا تلمع بسهولة.
وربما سنلمس عناية بالموروث الشعبي، والتجربة الشخصية، على حساب التراث الجمعي، ولعل هذه واحدة من صفات مجمل شعراء جماعة كركوك، صفة قد يجد فيها البعض مثالب، وقد يتوسم فيها آخرون مناقب، ومآرب أخرى، وسركون بهذا المعنى شاعر بيئة أكثر من كونه شاعراً معنياً بتاريخ الشعر العربي كثيراً، ستصدف ذلك في تحرك جملته التي لن تجد حيزاً كبيراً لها في الذاكرة المتوارثة، لكنها ستزيح حيزاً في الذاكرة ذاتها لتشغل زاوية من الجمال، لن تطرده الذاكرة تماماً مثلما لن تستطيع قبوله بسرعة.

**

البناء النسيجي للصورة، يجعل من قصيدته جسداً فوق ما هي عليه من شعر! ليس ثمة كتلة نافرة، أو نبرة حادة إلا بما يجعل قصيدته استواء محكوماً بالبناء الخيطي الذي عنيته، وإذا كانت العبارة الشهيرة لماكليش صاحب الشعر والتجربة التي تقول: لا ينبغي للقصيدة أن تعني بل أن تكون، هي بمثابة درس في بناء القصيدة وهندستها، فإن قصيدة سركون تعطي درساً آخر في سؤال الكيف والماهية، إنها تريد للشعر أن يعني وللقصيدة أن تكون في الوقت عينه.
أيها الماضي أيها الماضي
ماذا صنعت بنفسك أيها الماضي.

**

لم ينل شعر سركون بولس كشأن العديد من الشعراء العراقيين عناية نقدية جادة، لكنه بالتأكيد لم يعدم تلك العناية من شياطين الشعراء! سركون بهذا المعنى (شاعر الشعراء) والإضافة هنا ليست تفخيمية متنطعة، بل قصدت أن الشعراء بشكل خاص هم الذين يفهمون أهمية قصيدة سركون.
الآشوري الضائع في البحث عن فكرة الوصول. يبدد الفكرة كمن يريد أن يصل إلى الحياة أو يستبدل إحداهما بالأخرى.

***

إنها مدينته الغامضة

محمد علي شمس الدين

سركون بولص المتطوح في الآفاق كان يحمل في داخله صبايا عراق ما في أي مكان حل فيه، في الولايات المتحدة الأميركية حيث يموت الشجر ويزدهر الحجر.
سركون بولص من الأساس حمل أشلاءه، مِزق يديه وعينيه ومشى، ولكن ليصل الى مدينة ليس ثمة ما هو أكثر غموضا منها، لا هي بغداد ولا سامراء ولا نيويورك ولا واشنطن، ولا حتى ما أوحى لنا به من اقامة الى جانب الأكروبول. انها مدينة سركون الغامضة الصعبة التي سماها «مدينة أين»، لأنها تقيم في اللامكان، تقيم في لغة سركون بولص التي هي مزيج من أشلاء وحرية، دم وبلاد.
عاد بولص الى أصله.

****

نقاء الينبوع

كاظم جهاد

فاجأني نبأ رحيل سركون بولص، الشاعر الفريد والصديق الاستثنائيّ، وأنا أضع قراءة طويلة لمجموعته الشعريّة الجديدة «عظْمة أخرى لكلب القبيلة»، التي تظهر بعد أيّام إلى النور، وقد أتاح لي الفقيد والدّار الناشرة لأشعاره (منشورات الجمل) أن أنال منها قبل سواي نسخة ألكترونيّة. وإذ أسترجع الآن صوَر هذه المجموعة وعوالمها التي لم تغادرني بعدُ رجّاتها العميقة، وأتذكّر المسار الوجوديّ لسركون، وأستعيد حواري الهاتفيّ معه قبل أن يعود إلى منزله في سان ـ فرانسيسكو منذ أيّام، حوار متلعثم وناطق مع ذلك بحقائق خطيرة في الشعر والحياة تلزم لتدوينها مقالة كاملة، إذ أقوم بهذا فأنا ألتفت إلى أنّ الشعر العربيّ قد عرف مع سركون حالة لم يعرفها هذا الشعر إلاّ في ما ندر، تلك هي حالة شاعر نذر حياته وعصب فكره وقواه الإنسانيّة بكاملها للشعر وحده.
لم يشأ سركون أن ينخرط في حياة قارّة أو ثابتة، معروفة المهامّ ومحدّدة المعالم، وقبلَ بالعوز وتحمّلَ نكران المؤسّسات الثقافيّة العربيّة وسواها، غيرةً منه على هذه الحريّة المديدة التي طالما بدتْ وهي تشكّل له الرديف الأساسيّ للشعر وحليفه الوحيد. حريّة مديدة، يرافقها ويدعمها عمل مديد على الشعر واشتغال على اللّغة دائم. لم أعرف في الحقيقة شاعراً عربيّاً أكثر احتفاءً من سركون بالعمل المستأنَف على القصيدة، ولا أكثر منه انهماكاً بتنقيح كتاباته، لا يهب للنشر صفحة واحدة ما لم يطمئنّ قلبه أو وعيه اللغويّ وحاسّته الإيقاعيّة المرهفة كأقصى ما تكون عليه الرّهافة، والمدرَّبة كأبعد ما يكون عليه التدريب، أقول ما لم يطمئنّوا إلى استقامتها وإلى اتّباعها الحركة المجنّحة تارةً، والمبطئة عن قصدٍ طوراً، التي يريد هو لها أن تتبعها.
عرف سركون الشعر العالميّ في أغلب نماذجه وأرقاها، عاقرها عبر أفضل ترجماتها إلى الإنكليزية، وطويلاً تردّد على الشعر العربيّ، القديم منه بخاصّة. وكان أبو تمّام هو مَن نال حصّة الأسد من إيثار سركون وإعجابه. ولم يكن أبو تمّام الغامض ولا المتحذلق بالكلام هو الذي استأثر بإعجاب سركون حتّى لقد عدّه معلّماً له، إلى جانب ريلكه وآخرين قلائل، بل صاحب الصّنعة فيه، بمعنى ديناميّ وأصيل للكلمة، رجل الحرفة والعمل الدؤوب، العامل المنحني أبداً على سندان الكلام والممسك بمطرقته، هذا الذي يشتغل على القصيدة حتّى في سيره ونومه وأثناء أحلامه.
ذكرتُ الإنسان السّائر، أو الماشي، ولقد كان سركون بالفعل، حتّى في سنوات اعتلاله، مشّاءً كبيراً، يعشق انتهاج الطرق الكبرى والسّير على غير هدى ودونما هدف. وطالما قال لي إنّ الكثير من قصائده (وكان ممّن يكتبون بين آخِر اللّيل وأوّل الصبح) كانت «تتعطّل» قبل نهاية الشّوط المفضي إلى اكتمالها، تحرن كالبعير الغاضب وترفض الانصياع لحركة خياله. فيرتدي ملابسه أيّاً كانت السّاعة ويشرع بجولة هادئة، شبه مستسلمة لقوّة تتخطّاه، قوّة هجرتْه منذ لحظات لكنّه موقن أنّها ستعود إليه. تعود إليه لا بفعل سلطان يترك هو لسواه أن يدّعوا امتلاكه على الكلمات، بل تقديراً لوفائه العنيد وحده. وبالفعل، فسرعان ما كانت جولته اليائسة والفرحة في آنٍ تعود له بلقيته الثمينة المنتظرة، فيرجع إلى داره ويدوّن بقيّة القصيدة التي انخطّتْ من قبلُ في خيال الرّجل الماشي الذي كانه هو. هكذا يمكن القول إنّ الكتابة الشعريّة كانت تتبع لديه طقوسيّة سحريّة نوعاً، قائمة على الهيام والانتظار العنيد والشحذ المتمرّس للرؤى والأفكار.
موهبة السّير هذه، فاعليّة السّير في العالَم وعبر طرق الذاكرة وفي قارّات المخيّلة الفسيحة، هذا التحرّر المستميت والانفتاح المتمرّد، يرافقه عمل ودأب وتلمّس وحنكة، هذا كلّه هو ما يشكّل الهبة الأساسيّة التي تقدّم بها سركون للشعر. في هذه الهبة وجدتْ شبيبة شاعرة وتوّاقة إلى الجديد والصّادق والحقيقيّ سبباً كافياً للمغامرة وسبيلاً ولا أنصع للاقتران ببساطة مشعّة كانت هي بحاجة إليها وكان سركون واحداً من القلائل الذين وجدوا إليها درباً. بساطة هي نضال يُخاض في كلّ جملة من أجل التخفّف من المشاعر النّافلة وزوائد الكلام. ولكي يتدارك النقد تأخّره المخزي بإزاء شعر سركون، هذا التأخّر الذي أشار إليه عبّاس بيضون في كلمته المنشورة في يوم الجمعة المنصرم عن سركون المريض، فعليه، أي النقد، أن يتعمّق في استقراء أسرار هذه البساطة ودوافع تأثيرها الفوريّ على الرّوح.
لم يعد الشاعر الكبير والصّديق الكبير والمشّاء الكبير بيننا، وإنّ رحيلاً مبكّراً كهذا لَيحفر في الرّوح هاوية عميقة. تظلّ لدينا أعماله، هي بمثابة وصيّته الشخصيّة، وديعته المثمّنة التي نعود إليها مراراً وتكراراً، لننهل بعرفان المتعلّم وصحوه من نقاء هذا الينبوع.

**********

سركون بولص أنا من باع حياته وجسدي لم يعد يتبعني

حسين بن حمزة
(سوريا/لبنان)

سركون بولصلقد فعلها أخيراً! مضى فجر أمس، بخفّة كما عاش.
سركون بولص الذي صرعه الوهن عن 63 عاماً، يوارى الثرى في برلين على مقربة من مواطنه المسرحي عوني كرومي. إنّه الشاعر العراقي الأكثر شفافيّة، كتب كما عاش، بلا ظهر ولا قبيلة ولا مريدين
رحل سركون بولص. لعل الخبر فيه قدر لا يُستهان به من المفارقة. إذ لا نعرف إن كان سركون مقيماً بيننا بكامل حضوره الشعري، حتى نقول ببساطة إنّه رحل. ألم يكن هذا الشاعر راحلاً، بالمعنى الجغرافي، حين ترك مدينته الأولى كركوك إلى سان فرانسيسكو ملبياً نداء الشعر الغامض والسحري؟
ألم يكن راحلاً، أو بالأحرى مرحّلاً، بالمعنى النقدي، عن حياتنا الثقافية التي يقوم جزء كبير منها على النميمة والدسائس، والتي غالباً ما يلعب فيها الوجود الشخصي للشاعر دوراً أساسياًً في الاهتمام به ومتابعة تجربته. ثقافتنا ساحة للعلاقات الشخصية، ولا تتذكر من هم بعيدون إلا في المناسبات. على الشاعر أن يحضر فيها مع كتابه. بغير هذه الطريقة لن تكون له عزوة. سركون بولص كان بعيداً باستمرار. لم يكن لديه وكلاء وممثلون شخصيون كي يديروا «أعماله» الشعرية هنا. بهذا المعنى، كان غياب سركون بولص مصدر راحة لكسلنا النقدي. لم يكن موجوداً بيننا ليحرجنا، بشخصه على الأقل، إن لم يكن بشعريته الفذة التي يصعب علينا تجنب تأثيرها.
في حالة سركون، ثمة دوماً أسباب إضافية للحزن. فهذا الشاعر المتفرد عاش بلا ظهر، بلا قبيلة، بلا مريدين. باستثناء من تعرفوا إلى الأحشاء الحقيقية لتجربته الشديدة الخصوصية - وهم قلّة بالطبع - لم يتسنَ لصاحب «الوصول إلى مدينة أين» أن ينتشر ويُدرس نقدياً ويُحدد أثره الشعري، سواء بين مجايليه أو بين من الأجيال التي جاءت بعده. الشعر عصبيّات، وسركون بولص لم يكن يملك ما يُديم ذكره ويدافع عن موطئ قصيدته الراسخ والمتميز. لقد وهب حياته للشعر. لم يفعل شيئاً آخر تقريباً. لكنه في الوقت نفسه، وكأي شاعر حقيقي، لم يسعَ إلى الأضواء. لم يخطط لصناعة شهرة أو صيت مبالغ به. لم يسأل عما كانت تفعله نصوصه بقرائها. كنا نعرف أنه مريض بالشعر، قبل أن يُصاب بذاك المرض الفتّاك الذي يُسرع بصاحبه إلى الموت.
كان سركون بولص شاعراً حقيقياً إلى حد أنه أهمل أن يتقصّى ما يتسرّب من شعره إلى نصوص الآخرين. لم يكترث بأن يكون هؤلاء مدينين له، ولم يطرق أبوابهم يوماً مطالباً بما له في ذمّتهم. منذ بداياته المبكرة، حين كان واحداً من «جماعة كركوك»، كانت نصوصه تأتينا من حيث لا نتوقع. كان شاعر قصيدة نثر ولكن على حدة. وحين صارت قصيدة النثر مشاعاً ظلت قصيدته محتفظة بقوة المفاجأة.
ما إن نقرأ مستهل أي عمل من أعماله حتى ندرك أننا مدعوون للسير في طريق فرعية، ضيقة ووعرة، ولا يسلكها الشعراء عادة. لعل جزءاً من فرادة سركون بولص تكمن في أنه أراد أن يرفع النثر نفسه إلى مستوى الشعر، لا أن يستخرج قصيدة من هذا النثر. أن يحقق النثر حضوره النصي من دون سعيه إلى أن يكون شعراً. باستثناء تجارب نادرة، وقع أغلب شعر النثر العربي في مصيدة أن شاعر قصيدة النثر مطالب بإثبات «شعرية» هذه القصيدة، مستسلمين لفكرة وهمية تمنح الشعر مقاماً أرفع من النثر، بينما كان طموح تلك الأقلية النادرة هو إثبات «نثرية» ما يكتبونه.
وهب سركون بولص كل شيء للشعر، بحيث يصعب علينا أن نفرّق بين أن يكون قد فارق الحياة الآن أم فارق الشعر.
بنبرته المادية ومفرداته الملموسة والحسية المنتمية إلى المعجم الخشن للنثر، بلغته المتخلية عن البلاغة ومعظم الأسلحة والذخائر التقليدية للشعر، أراد صاحب «الأول والتالي» أن يتفرغ لممارسة شعرية مختلفة. ولهذا كانت أعماله زاخرة بما هو غريب ومدهش وبعيد عن المتناول. كأن جملة سركون الشعرية كانت من اختراعه. خُلقت معه، والأرجح أنها ستُدفن معه. غالباً ما يبدأ قصيدته بجملة لا تسهّل على القارئ أن يعرف كيف سيكملها، وكيف، بالتالي، ستنشأ الاستعارة الشعرية التي يطاردها في خياله. جملة سركون بولص وصوره الشعرية ونثريته الفاتنة، كل ذلك هو ماركات مسجلة باسمه. حين نقرأه لا يذكِّرنا سوى بنفسه.
تعب جسد سركون بولص وخذله. كان خياله الخالد سابقاً لجسده الفاني. لقد أدرك هذا مبكراً، فكتب: «أنا من باع حياته ليشتري عينين وفيتين / أتعبني ما عرفتُ مقدماً / وجسدي لم يعد يتبعني». ولكي تكتمل صورة الشاعر فيه، «تواطأ» مع الذين أهملوا شعره، فأهمله هو أيضاً. أصدر كتابه الأول بعد أكثر من عشرين عاماً على حضوره القوي والمباغت على صفحات مجلتَي «شعر» و«مواقف» في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي. كتب كثيراً ولم ينشر إلا القليل.
مستشهداً بجيرترود ستاين، وفي كلمة مخصصة ليوم الشعر العالمي، كتب سركون بولص قبل أعوام، أن على الكاتب أن يكون له وطنان... ذاك الذي ينتمي إليه والآخر الذي يعيش فيه فعلاً. لعل صاحب «حامل الفانوس في ليل الذئاب» كان يدافع عن خياره المبكر بمغادرة مسقط رأسه، واللحاق بالشعر الذي قاده إلى بيروت ثم سان فرانسيسكو ثم برلين. الواقع أنّ هذا المسار الواقعي يُخفي السيرة الحقيقية لهذا الشاعر الذي كان يسعى إلى الحصول على إقامة دائمة في أرض الشعر.
الأرجح أن فكرة أن يكون للشاعر وطنان هي التي جعلته يكتب: «أنا في النهار رجل عادي / يؤدي واجباته العادية دون أن يشتكي / كأي خروف في القطيع / لكنني في الليل / نسرٌ يعتلي الهضبة / وفريستي ترتاح تحت مخالبي».

***

سيرة

أبصر النور في العام 1944، وعاش حتى الثالثة عشرة في الحبانية (800 كلم غرب بغداد) الزاخرة بالمياه. بعدها انتقل الى كركوك، وهنا بدأ كتابة الشعر. في العام 1961 نشر يوسف الخال قصائده في مجلة «شعر». وبعدها بخمس سنوات سيأتي إلى بيروت سيراً على الأقدام، عبر الصحراء وبلا جواز سفر. هنا قصد المكتبة الأميركية، طالباً أعمال آلن غينسبرغ وجاك كرواك وآخرين، وأعد ملفاً عنهم في «شعر». في المدينة التي كانت تعرف نهضة ثقافية، انكبّ على الترجمة، قبل أن يستأنف ترحاله. هذه المرّة ستكون وجهته الولايات المتحدة (1969)، وفي سان فرانسيسكو سيلتقي جماعة الـ«بيتنيكس» ويعقد صداقات معهم. ديوانه الأول «الوصول إلى مدينة أين» (1985) يعكس بوضوح تلك المرحلة البوهيميّة من حياته. مجموعات الشعرية الأخرى هي «الحياة قرب الأكروبول» (1988)، «الأول والتالي» (1992)، «حامل الفانوس في ليل الذئاب» (1996)، «إذا كنت نائماً في مركب نوح» (1998). وصدرت له مختارات شعرية مترجمة بعنوان «رقائم لروح الكون»، وسيرة ذاتية بعنوان «شهود على الضفاف» ومختارات قصصية نُشرت بالعربية والألمانية بعنوان «غرفة مهجورة».

***

لا يمكن استعادة مسيرة سركون بولص من دون التوقف عند «جماعة كركوك». لقد ضمت هذه الجماعة أكثر تجارب الشعر العراقي الستيني طليعيةً: سركون بولص وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي وجان دمو وصلاح فائق... معظم هؤلاء كانوا يتقنون اللغة الإنكليزية، فاطلعوا على التجارب الغربية بوصفها مؤثراً ضرورياً في صنع النسخة العربية من الحداثة وقصيدة النثر. ولعل الاطلاع المبكر على الشعر الأميركي والتأثر به تدخّلا في تكوين نبرة سركون الشعرية الذي رأى أنّ «الترجمة تجعل جميع اللغات والكتابات تتداخل وتتلاحم لتخلق شيئاً جديداً»، ناصحاً «كل شاعر بأن يعرف لغة أخرى وأن يحاول الترجمة حتى لو كان ذلك من أجل لذته الخاصة».

***

- الأخبار

شاعر من دون سلالة

خليل صويلح
(سوريا)

سركون بولصبعيداً من «جماعة كركوك» وتأثيراتها الستينية، سوف تصنع قصيدة سركون بولص حديقتها السرّية وثمارها اللاذعة.
شاعر من دون سلالة، يقف وحيداً بلا ضجيج إيديولوجي، لكنّه وصل باكراً إلى الوليمة عبر المنافي، من بغداد إلى بيروت... إلى سان فرانسيسكو. الآشوري الأعزل بدا مثل طائر غريب على شجرة الشعر. يكتب فاجعته الشخصية وجحيمه السرّي، بأقل قدر من الندم، فهو في نهاية المطاف يعيش لحسابه الخاص. لذلك ذهبت قصيدته باكراً إلى اختبار الذات بهدم متواصل للحميمي والعابر، والإنصات العميق إلى المرئي، لتنشأ مشهدية باذخة من دون مرجعيات صريحة، عدا إشراقات الداخل المحتدمة بالعويل «في صدري مائدة محطّمة، سكين شاردة تقود إليها ضيوفي».
في شعر سركون بولص، لن تهتدي إلى نقطة علّام ثابتة، ذلك أنّ قصيدته مثقلة بالتاريخ الشخصي والمنفى، وانخراط صريح في حمأة العالم واحتجاج علني ضد الهلاك عبر مشهد أو صوت أو أغنية. هذا السندباد الشعري صنع خريطة سرّية لمشاغله الشعرية والجمالية، وبات صعباً أن تلمس آثار خطواته. ألم يقل ذات مرة «هكذا صارت حياتي أشبه بجغرافيا لا يمكن تفسيرها». هي كذلك فعلاً. قصيدة وربما حياة لا تركن إلى سياج، فالقصيدة كما يقول، قد تضيع، إذا لم تجد الخيط الخفيّ و«الراوي لن يعرف القصة».
لكن ألم يكتب صاحب «حامل الفانوس في ليل الذئاب» طوال الوقت مرثيته الشخصية، منذ هجرته الأولى، فليس للآشوري وطن سوى الشعر «تطفح عزلتي مثل جرّة تحت حنفية الصمت. تقدم أيها الظل. اُدخل إلى بيتي وانهب ما تشاء».
حامل الفانوس كان يتلمّس طريقه في العتمة في تجربة عبور مستمرة، وربما لهذا السبب، لم تركن قصيدته إلى إطار أو سلالة، فالزمن هو من يصنع أقدار الشاعر في سفر دائم من وإلى «إيثاكا» للعثور عليها من جديد.
لا يشبه سركون بولص أحداً، لذلك ظل نصه عابراً للأجيال في ذاتيته وحسيته ومشهديته وطزاجته. فانوس في ليل الشعر العربي، تتكئ إلى ظلاله الأجيال المتعاقبة، وتتفق على فرادته من دون سجال، بعيداً من الجوقة. إذ لطالما أنشد الأغنية التي لم يكتبها أحد. أغنية الروح المتمردة في عزلتها الاضطرارية. هكذا «تذهب الأغاني، وتجيء المراثي. لا شيء منذ آدم غير ملحمة التراب».

***

وصلت أخيراً يا صديقي

وديع سعادة
(لبنان/ استراليا)

يا صديقي سركون لقد وصلت أخيراً الى المدينة التي بحثت عنها طويلاً. وصلت أخيراً يا صديقي الى مدينة «أين». من الحبانية الى كركوك الى بغداد الى بيروت الى سان فرانسيسكو الى مدن كثيرة بحثاً عن مدينة لا تجدها، حتى أطلّت عليك أخيراً في مستشفى في برلين! مدينة الموت، هذه إذاً هي التي كنت تبحث عنها. هذه، ولا شيء آخر، التي نبحث عنها جميعاً. هذه فقط هي ما يبحث عنه الشعر.
لا تزال لديّ رسالتان منك أرسلتهما إلي من سان فرانسيسكو الى شبطين عام 1971. تقول في الأولى: «لم أنتظر الليل بل تقدمت نحوه وأنا أعرف عدوّي وبلا درع أو شهادة أو تردّد... ومن حين إلى حين، وجهي المعلّق في مرآة محاكمة. وأنا دائماً قاضي هذا العالم». وتقول في الثانية: « أكتب كرجل أنذروه بالساعة الأخيرة. كل ما أفعله لا يملك ذلك الرنين الحقيقي أو الحرارة الإلهية إلا عندما تخرج من أطراف أصابعي قصيدة تجعلني أستحق نهاري»... وقبل يومين، حين هاتفتك وأنت على فراش الموت، كان صوتك متهدجاً لكن بقيت فيه نبرة «قضاة العالم».
وما تركته يا سركون من قصائد لم يجعلك أنت وحدك تستحق نهارك، إنما يجعل كل قرائك يستحقون نهاراتهم.
اعذرني يا سركون، فليس عندي كلام أمام موتك.
الآن وصلني نبأ صمتك الأبدي، وما عدت أملك غير الصمت.

***

كيف ندفنك الآن في قصيدة؟

بيار أبي صعب
(لبنان)

سركون بولص«في الفجر الكابي غادرَنا سركون. يسهم خالد المعالي ومؤيد الراوي وبعض الأصدقاء في إجراء متطلبات الوداع. كأننا كنا نودّع معاً شاعراً وإنساناً كما قالت إحدى معارف سركون في برلين، يوم اختارت «الأخبار» أن تحتوي ملفاً يربّت على كتفه بحنوّ وهو يمضي... - فاروق سلوم».
«البرقيّة» الإلكترونيّة الآتية من صقيع الشمال، تختصر الموقف. عراقيّ آخر يمضي وحيداً في غربته. شاعر ليس كالآخرين. من لندن صموئيل شمعون يردّد على الهاتف جملة كتبها أدونيس لتكون مقدمة كتاب لسركون تصدره «بانيبال» بالإنكليزيّة: «إني أحبّك يا سركون». يحزم الصعلوك حقيبته. «لا بد لي من ملاقاته في برلين». في المدينة التي اصطفاها عاصمة أيّامه الأخيرة، تجمّعت بالأمس حفنة من الشعراء والكتاب التائهين حول جسد شاعر. على المرتبة تمددت أجمل سنوات التيه العراقي، وقصيدة النثر العربيّة. من «جماعة كركوك» هناك ومؤيد الراوي وفاضل العزاوي. الكل منشغل بمسألة مهمة. أين يُدفن الشاعر؟ في أي وطن؟ ذات ربيع كتب سركون بولص، تلبية لطلب قاسم حداد في اليوم العالمي للشعر، رسالة نشرها موقع «جهة الشعر»، يقول فيها إن الشاعر وطنه الثاني القصيدة. لكن كيف ندفنك الآن في قصيدة؟ أيها العراقي البعيد عن بغداد، أيها البيتنك البعيد عن سان فرانسيسكو؟
هل كان سركون يعرف، بحدسه المعهود، أنّ أيامه معدودة؟ قبل أسابيع أدخل العناية الفائقة في أحد مستشفيات برلين. ثم تحسنت صحّته، لكنّه غادر سريره مخالفاً قرار الأطباء. لا وقت لديه يضيعه في المستشفيات. كان يريد أن يرتشف ما بقي له من الكأس. «الآن فقط بدأت أعرف كتابة الشعر - قال قبل أيام لصديق - فمن أين أتاني هذا الوهن اللعين؟».
سركون بولص هو الشاعر الذي خفف القصيدة من جاذبيتها... شاعر عراقي خرج على الغنائيّة، راح يصيخ السمع الى موسيقى خفيّة طالعة من أعماق النثر. هوائي وخفيف ومسافر، تسكن الأماكن نصه والمدن والحكايات القديمة. فالنثر مخزن الذاكرة، ذاكرة الآخرين أيضاً. «تكمن المشكلة في كيفية أخذ المفردات القديمة ووضعها في محيط جديد» كتب ذات يوم، و«لهذا السبب قد يجد المرء أثناء الكتابة، في منتصف رحلته أو قرب نهايتها، أنه طوال الوقت كان يسافر صوب إيثاكا، وأنه إنما تركها من أجل العثور عليها من جديد». إيثاكا هي أيضاً «مدينة أين» التي يمم شطرها عمراً كاملاً... ولا نعرف إن كان قد وصلها. أم أنه يتركها لقرّائه يقصدونها عنه؟ الرحلة الطويلة حقاً كانت هادئة، خافتة رغم صخبها الداخلي: من «ريف» كركوك إلى مقاهي بغداد المزدحمة بأحلام الستينات، ومن سراب الحداثة في بيروت إلى «الوليمة العارية» التي دعاه إليها وليم بوروز ذات يوم. كنا نعتقد أن أميركا هي مأواه الأخير، حين أخذه العطش إلى أوروبا... «على الطريق» مجدداً، على خطى الوقت الهارب. «هكذا صارت حياتي، أشبهَ بجغرافيا/ لا يمكنُ تفسيرُها/ بالمواقع ِ والأماكن، وصوتُ أيّامي/ لم يعُد قابلاً للتبنّي/ من قِبَل ِ أزمنة الآخرين».
في الفترة الأخيرة تغيّر كلّ شيء. القلب ضعيف، والوجدان مثخن. والوطن الأول يشبه أحلام المراهقة المنسيّة في «سينما سندباد» المهدومة. والمرض الغامض قد لا يكون له ذكر في كتاب الطب، بل في مدوّنات القدماء وأساطير الملوك الآشوريين، وأحوال الشعراء الكبار. إنّه «وجع العصر». كان من المقرر أن يعود سركون إلى سان فرانسيسكو يوم السبت 27 الجاري. أجّل السفر أسبوعين، شيء ما كان يشّده إلى تلك المدينة. لعلّها أطياف «جمهوريّة فايمار» عشيّة الكابوس النازي، مدينة الكوبرا والباوهاوس والدادائيّة، أوتو ديكس وبيسكاتور وبريخت وكورت فايل... وعدد لا يحصى من خلانه. برلين هي فينيسيا (البندقيّة)، هنا أراد أن يموت، كما بروفيسور توماس مان. وحده وسط سحابة من دخان... عند مفترق الطرق بين عوالم وأزمنة متضاربة.
ملائكة برلين تسرّبت من فيلم فيم فندرز، أخذته بيده ومضت بعيداً. بعيداً... أبعد من العراق. Salut Beatnik !

*****

الشاعرُ العراقيّ الوحيد

سعدي يوسف
(العراق/لندن)

سركون بولصسركون بولص (1944- 2007)، يرحل في برلين...
في مستشفىً ببرلين.
في تمّوز، هذا العام، وفي الجنوب الفرنسيّ، في مهرجان لودَيف تحديداً، ألتقي سركون لقاءً غريباً.
كنتُ أعرفُ أنه في لودَيف، قادماً من لقاءٍ شعريّ بروتردام، لكني لم أجده في الأيام الأولى. انطلقتُ باحثاً عنه في الفنادق والمنازل، بلا جدوى. أنا أعرفُ أنه مريضٌ، وأنه بحاجةٍ إلى انتباه واهتمامٍ... لم «أعثرْ» عليه في هذه البلدة الصغيرة التي لا تصلحُ لأن تكون بوّابةً حتى لنفسها...
سألتُ عنه أصدقاء، فلم يجيبوا.
عجباً !
وفي صباحٍ باكرٍ. عند مخبزٍ يقدم قهوة صباحٍ. رأيتُ سركون جالساً على الرصيف. كنتُ مع أندريا. قبّلتُه: أين أنت؟
كان شاحباً، مرتجفاً من الوهَن، محتفظاً بدعابته: في الساعة الثالثة فجراً طردتْني مالكةُ نُزْلِ الورود. La Roseraie
كانت تصرخ مرتعبةً حين وجدتْني متمدداً على أريكةٍ في البهو. سهرتُ مع خيري منصور وغسان زقطان. هما ذهبا ليناما في غرفتَيهما. لا مجال لي للعودة إلى الغابة. قلتُ أنام قليلاً هنا حتى انبلاج الصبح. لكنّ السيدة جاءت...
سألتُه: عن أيّ غابةٍ تتحدّث؟ (ظننتُه يهذي). قال بطريقته: إي... الغابة التي اختاروا مسكني فيها. ليس في المسكن فراشٌ مجهّز. المكان مقطوع. هناك سيارة تصل إلى المكان مرةً واحدةً في اليوم!
أخبرتُه أنني بحثتُ عنه في كل فنادق المدينة ومنازلها.
قال إنه ليس في المدينة!
جلسنا معه على الرصيف.
فجأةً لمحتُ إحدى المسؤولات عن المهرجان تخرج من باب منزلها.
ابتدرتُها بالفرنسية: Il va mourir dans la rue…
سوف يموت في الشارع!
عواهرُ المهرجانات، يستمتعن، كالعادة، في غرفاتٍ عالية...

***

قلقي عليه ظلّ يلازمني.
حقاً، اشتركتُ معه، في جلسة حديثٍ مشتركة، أمام الجمهور، عن العراق، وكان رائعاً وراديكالياً كعادته، ذا موقفٍ مشرِّفٍ ضد الاحتلال، على خلاف معظم المثقفين العراقيين. أقول إن هذه الجلسة المشتركة التي بدا فيها أقرب إلى العافية، لم تخفِّفْ من قلقي عليه.
رأيتُه آخر مرةٍ، في منزل الوردِ التعيس، حيث جاء به أنطوان جوكي ومصوِّرُ سينما. قالا إنه سوف ينزل هنا (المهرجان أوشك أن ينتهي). ظلاّ يرهقانه بمقابلةٍ تافهةٍ، ثم أخذاه فجأةً إلى خارج منزل الوردِ. سألتُهما: أين تمضيان به؟ إنه مريض.
أجابا: هناك إجراءٌ رسميّ (توقيع أو ما إلى ذلك) ينبغي أن يستكمَل!
قلتُ لهما: إنه لا يستطيع السير. دعاه يستريح. نحن نعتني به.
قالا: لدينا سيارة!
انطلقت السيارةُ به، مبتعدةً عن منزل الورد.
في الصباح التالي غادرتُ لوديف إلى غير رجعةٍ.

***

قلقي عليه ظلّ يلازمني.
اتّصلتُ بفاضل العزاوي في برلين. ألححتُ عليه أن يتابع حالة سركون.
سركون في غُرَيفةِ مؤيد الراوي.
ثم اتصلتُ ثانيةً. قلت له إن سركون في المستشفى.
طمْأنني فاضل عليه.
لكني لم أطمَئِنّ.

***

هذا الصباح، ذهب خالد المعالي، يعوده، في المستشفى البرليني، ليجده ميتاً...
(التفصيل الأخير تلقّيتُه من صموئيل شمعون الآن...)

***

ذكرتُ أن سركون بولص هو الشاعر العراقيّ الوحيد...
قد يبدو التعبيرُ ملتبساً.
لكن الأمر، واضحٌ، لديّ.
سركون بولص لم يدخل الشعر إلا من باب الشعر الضيّق.
بدأ في مطلع الستينيات، مجهّزاً، مكتمل الأداة، مفاجِئاً وحكيماً في آن.
لم يكن لديه ذلك النزق (الضروريّ أحياناً) لشاعرٍ شابٍّ يقتحم الساحة.
سركون بولص لم يقتحم الساحة. لقد دخلَها هادئاً، نفيساً، محبّاً، غير متنافسٍ.
كان يسدي النصيحةَ، ويقدم أطروحة الثقافة الشعرية الرصينة، مقابل الخصومةِ، والمشتبَكِ، والادّعاء.
لم يكن ليباهي بثقافته، وإن حُقّتْ له المباهاة.
هو يعتبرُ الشعرَ نتيجَ ثقافةٍ عميقةٍ وممارسةٍ ملموسةٍ.
سركون بولص يكره الادّعاء!

***

وأقول إنه الشاعرُ الوحيدُ...
هو لم يكن سياسياً بأيّ حالٍ.
لكنه أشجعُ كثيراً من الشعراء الكثارِ الذين استعانوا برافعة السياسة حين تَرْفعُ...
لكنهم هجروها حين اقتضت الخطر!
وقف ضدّ الاحتلال، ليس باعتباره سياسياً، إذ لم يكن سركون بولص، البتةَ، سياسياً.
وقفَ ضد الاحتلال، لأن الشاعر، بالضرورة، يقف ضد الاحتلال.
سُمُوُّ موقفِه
هو من سُمُوّ قصيدته.

***

لا أكاد أعرفُ ممّن مارسوا قصيدة النثرِ، شاعراً ألَمَّ بتعقيدات قصيدةِ النثرِ، ومسؤولياتها، مثل ما ألَمَّ سركون بولص. مدخلُهُ إليها مختلفٌ تماماً. إنه ليس المدخلَ الفرنكوفونيّ إلى النصّ المُنْبَتّ، في فترةٍ مظلمةٍ من حياة الشعر الفرنسيّ:
رامبو مقتلَعاً من متاريس الكومونة...
مدخلُهُ، المدّ الشعريّ الأميركيّ. مجدُ النصّ المتّصل.
أطروحةُ تظاهرةِ الطلبة، حيثُ القصيدةُ والقيثارُ والساحةُ العامّة.
قد لا يعرف الكثيرون أن سركون بولص كان يطوِّفُ مع فريقٍ، لإلقاء الشعر في البلدات الأميركية والقرى...
طبلٌ وقيثارٌ وهارمونيكا ...

***

قصيدتُه عن «السيد الأميركيّ» نشيدٌ للمقاومة الوطنية في العراق المحتلّ!

***

سركون بولص...
شاعر العراق الوحيد !
لندن 22/10/ 2007

****

لا تلتفت إلى الوراء... غادر!

نجوان درويش

«يُظهر ملاك إذا تبعته خسرتَ كل شيء، إلا إذا تبعته حتى النهاية» (س.ب)
تجد في بريدك الإلكتروني جملةً واحدةً بالإنكليزيّة: «سركون بولص مات اليوم». الخبر لم يستدع توضيحاً من المرسِل كأنّه يعرف أن بقيته عندك بالضرورة. تفتح الباب وتخرج بملابس النوم إلى شارع خال: شمس خريفية تبدو مقتصدة في مشاعرها تقلّب المشهد في ظهيرة يوم أحد عادي. («كأن الحياة يوم أحد».. تفشل في تذكّر الشاعر الذي كتبها) تستند إلى طرف المدخل الحجري فتجده دافئاً. تقترب أكثر من الحجر وتفكّر في أنك تحتضنه وأن لا ضير في ذلك.
وقتها تفهم أنّ جملة Sarkoun boulos died today قد أشعرتك بالبرد.
سركون شاعر مغامرة مفرد تتضاعف أهميته في الثقافة العربية حيث مغامرات الشعراء تكون غالباً على الورق. كأن الكتابة شيء والحياة شيء آخر. لقد كانت أمثولته الكبيرة والبسيطة أنّ الكتابة والحياة شيء واحد وأنّ المغامرة الفنية تتسع باتساع مغامرة العيش. انظروا إلى الشعراء «المستقرين» الذين تزوجوا وأنجبوا وصار لهم أحفاد، «عمّروا» بيوتاً، واستثمروا و«صعدوا» مراتب النجاح. انظروا إلى الذين دبكوا في أعراس أولادهم وبناتهم. إلى الشعراء الذين يأكلون البطيخ الذي تشقّحه زوجاتهم في الصيف، و«القطائف» وسط العائلة وهم يشاهدون «باب الحارة» في شهر رمضان. إلى آكلي المكسّرات أمام قنوات فضائية تبث من خيام مكيفة تنطح سماء الخليج.
«سركون بولص مات... اليوم» هو أحد الأيام النادرة التي استيقظتَ فيها مبكراً. إذ قلّما صرتَ ترى الشمس، فأنتَ منذ سنوات تنام في النهار وتستيقظ في الليل. منذ سنوات تتنازل عن كل ما هو نهاري بتسليم قدري وتكسب كل ما هو ليلي بغير اكتراث. مكتسبات الليل لم تعد أكثر من مساحة محيّرة بين الميلانكوليا وشحنات من الغضب السياسي كدستَها مؤخراً تكفي لتفجير ثلاث دول - من تلك «الدول» التي تبدو «فكرة الهرب» أعلى فكرة تداعب خيال مواطنيها. غضب مدروس ومدوزن توجهه نحو زمن نشاز هو زمن الاحتلال للبلد الذي بت تشعر بأنّك لا تستطيع أن تتركه؛ لأنّ تركه يشبه الهرب من ساحة معركة. (أي معركة يا دونكي - شوت؟).. الهرب قد يكون فعل الحرية الوحيد الممكن وقد يكون مجرد تخاذل؟ لا تملك إجابة.
تغضب لأنّ تحذير سركون وصلك في إحدى قصائده لكنك أهملت تلك «الوصية» التي قرأتها قبل خمس سنوات عند مفترق طرق وجودي: «قال لي: أنصحك أن لا تؤخر الأمر. لا تلتفت إلى الوراء. غادر./ هذه النقطة في الزمن، هذه البقعة في الأرض، هذا الحاضر الذي تستيقظ فيه: غادر./أنصحك أن تترك هذه الجثة وشأنها لأنها ماتت بل بدأت تتعفّنُ منذ مدة/ ولن يفيدها الآن لا شانيل رقم 5 ولا باكورابان..»
ولكنك بقيت تدور حولها كالجرو رافضاً أن تصدق. تتبين في داخلك غضباً ذاتياً خاصاً على الاحتلال هذه المرة. تفكّر في أن المذكور قد منعك من الذهاب في المغامرة إلى أقصاها كما حسبت دائماً أن شاعراً مثل سركون قد فعل. مغامرة «أن لا يكون لنا أهل أن لا يتعرف علينا أحد» كما يصفها مغامر آخر هو نوري الجراح. مغامرة أن يموت الشاعر بلا ورثة.
تفكّر في أنّ هذا كان خيارهم منذ البداية... فلماذا نستوقفهم ونتعرف عليهم وندلي بشهادات؟ الأحرى أن نسهر عند أكلة البطيخ والقطائف الذين «ثمّروا» و«عمّروا»! الذين سيتحدثون الليلة بإعجاب - أمام أصهارهم - عن موت شاعر يدعى سركون بولص!

****

مات "شاحذ السكاكين"

فاروق سلوم
(العراق)

رفض سركون بولص مرضه منذ أن أحسّ به. تشمّع الكبد جرّاء نظرة الشاعر إلى الكون: لقد كان يرى كل شيء في وحدة الوجود تشتغل على هدم بنية الشاعر لا تأسيسه. وغالباً ما كان يقول: الكون يستمد جدليته بموت الشاعر .
لقد كان ضيفاً عند صديقه الشاعر مؤيد الراوي في برلين حين ساءت حاله الصحية، فخضع لفحوص عدة أُدخل على إثرها المستشفى. وكان وهو على سرير المرض يحضّر ديوانه الأخير باللغة الإنكليزية «شاحذ السكاكين» (Knives bounder). وقد انتابه فرح عارم حين عرف قبل وفاته بيومين، أنّ أدونيس انتهى من كتابة مقدمة الديوان باللغة الإنكليزية.
وخلال «معرض فرانكفورت للكتاب»، كان سركون يتعافى ويتابع الحياة بمتعة بادية. وكان قد حجز بعد ذلك على الطائرة المتوجهة إلى سان فرانسيسكو في 27 من الشهر الجاري. لكنّه فاجأ الجميع بتداعي حاله الصحية مساء الأحد الماضي، فنُقل على عجل إلى مستشفى «اندكة» وسط برلين. وعند الفجر، أسلم الروح إلى الرب الذي عرف سركون طفلاً واختار طريقه وهو طفل، يحمل حنو الشاعر وبكاء روحه على عالم يتداعى.
واليوم، يقام القداس على روح سركون في الكنيسة الأشورية غرب برلين، حيث سيحضر الشعراء مؤيد الراوي وفاضل العزاوي وخالد المعالي وحسين الموزاني وصموئيل شمعون، الذي وصل من لندن للتو إلى برلين. وسيدفن في مقبرة برلين القديمة بالقرب من صديقه المسرحي العراقي عوني كرومي، فيما لن تتمكّن عائلته المكوّنة من أخته وأخيه اللذين يقيمان في سان فرانسيسكو من حضور الجنازة.
وبعد مناقشات، اختار أصدقاؤه أن يُدفن في برلين... المدينة التي أحبّ.

*****

-النهار

الموت سيّد عطشان بعته حياتي لأشتري عينين وفيتين

جمانة حداد

سركون بولصمات سركون بولص. مات ذاك الذي "باع حياته ليشتري عينين وفيتين".
مات شاعر شعر الليل. شعر الارتجاف. شعر المصير المعلّق تحت مقصلة سيف دائمة. شعر العزلة والهشاشة والعجز بمعناه النبيل. شعر ضرب الرأس بالجدار. شعر اللاضجيج والانتي ايديولوجيا. شعر الانتماء الى الانسان والتحرّر من أثقال الذات نفسها. شعر الوقوف على الحافة. شعر الحساسية العالية والنبرة الخافتة. شعر الشغف بالشعر.
مات سركون بولص. مات بعدما قال إن "الموت سيدٌ عطشان/ سيشرب كلَّ ما في آبارنا من نفط، وكلَّ ما في أنهارنا من ماء". أمس كتبتُ أخبره أني أحيّيه لا أرثيه. واليوم، أيضاً، اليوم خصوصاً، أحيّيه لا أرثيه. محطات كثيرة في حياة هذا الأسد الأشوري: ابن الحبانية هو، لكنه ابن بيروت ايضاً. لولب من لوالب "جماعة كركوك" العراقية بقدر ما كان وتداً من أوتاد "شعر" اللبنانية. كتب قصيدته الأولى في الثانية عشرة من عمره عن "الصياد"، وهو صيادٌ بامتياز. انتقل في الطفولة من الحبانية الى كركوك، وفي شبابه من كركوك الى بغداد، وبدأ في نشر شعره وقصصه وترجماته في مجلات وجرائد عراقية وعربية. عام 1963، وبعد رحلة مضنية عبر الصحراء العراقية – السورية، وصل إلى دمشق، ومن هناك تسلل في غفلة من حراس الحدود إلى بيروت. بيروت مختبر التجديد والحداثة والطليعية والفوران والحرية. بيروت الحرية أولاً. هنا عمل في مجلة "شعر" محرراً ومترجماً، وعندما ضاقت به السبل قرر أن يهاجر إلى أميركا. استقر به المطاف في سان فرنسيسكو، المدينة التي أحبها، وكتب عنها قبل أن يراها. هناك تعرف الى أشهر الأدباء الأميركيين، واحتكّ عن كثب بجيل "البيت" من أمثال ألن غينسبرغ، جاك كيرواك، لورنس فيرلينغيتي وسواهم. أما الرحلة الأخيرة فمن سان فرنسيسكو الى برلين، حيث أتى للعلاج، فوافته المنية صباح أمس في أحد مستشفياتها. من أبرز كتب سركون بولص: "حامل الفانوس في ليل الذئاب"، "إذا كنت نائماً في مركب نوح"، "الأول والتالي"، "الوصول إلى مدينة أين"، و"الحياة قرب الأكروبول". كما صدرت له مختارات شعرية مترجمة بعنوان "رقائم لروح الكون"، ومجموعة قصصية تحت عنوان "غرفة مهجورة" باللغتين العربية والألمانية، فضلاً عن سيرة ذاتية بعنوان "شهود على الضفاف".
مات سركون بولص. مات رغم أنف الشعر الذي لم يستطع أن يخلّصه. مات رغم أنف محبتنا له، نحن عارفيه عن كثب، ومحبّيه عن بعد. مات قبل أن تصدر مجموعته الجديدة "عظمة اخرى لكلب القبيلة". مات رفيق جان دمو وجليل القيسي وأنور الغساني ويوسف الحيدري وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي. مات شاعر الشعر بصفته شعراً معيشاً قبل أن يكون قصيدة مكتوبة. مات شاعر الشعر بصفته انتحاراً يومياً على الورق.
كتب سركون يوماً: "البضاعة الوحيدة التي تشبه الذهب هي الطريق".
لا شك عندي في أن الطريق التي يمشيها الآن، ذهبُها من صنيع خطاه.
كالسيّاب، كان مرضه الأصليّ هو الشّعر
الحوار الهاتفيّ الذي جمعني بالصديق الكبير والشاعر الكبير الرّاحل سركون بولص قبل أن يعود إلى منزله في سان-فرانسيسكو منذ أيّام، وكان قد خرج للتوّ من مستشفى برلينيّ، أعاد إلى خاطري بل وضعَ نصبَ عينيّ صورة مجسّدة لما كانه سركون في حياته وشعره دوماً، أيّاً كانت اللحظة ومهما كان من وعورة الظرف. كان يكفي أن يشكّل الشعر موضوع الكلام حتّى يتوهّج سركون وينتعش ويستضيف طاقات إضافيّة ويتعالى على تناهيه ويتجاوز ضعفه الإنسانيّ. جاءني صوته متلعثماً في البداية، بل مكسوراً، مجهَداً ويعرب عن صعوبة في تكوين الكلمات جعلتني أفكّر بإيجاز المحادثة والاكتفاء بالتحيّة كي لا أجهده في محادثة طويلة. قلتُ له إنّ مجموعته الجديدة منتظَرة، وإنّنا سنحتفل بها، وأنّ أكثر من أربع سنوات قد مرّ دون أن نحظى بفرصة قراءة جديدٍ له. وإذا بتعب صوته يبدأ بالتراجع، حتّى لقد زال في سائر المحادثة، وشرعَ سركون يتكلّم عن الشّعر كما كان يفعل في العادة: بتوهّج، بإلهام، بتبحّر ولهفة. لم يجعل من مجموعته الجديدة موضوع الكلام، بل راح يتساءل إنْ كان يجدر بكائنٍ أن يهب وجوده كلّه للكلام الشعريّ، كما فعلَ هو. وعلى الفور أردفَ تساؤله بالقول إنّه غير نادم على شيء، وخصوصاً أنّه لا يلوم آلهة القصيدة لأنّها استأثرتْ منه بحياته.
عندما طرح سركون سؤاله: "هل كان يجدر؟"، كان في الواقع يردّد حسرة جميع كبار الشعراء: يركضون لاهثين وراء حياة يسعون إلى القبض على بعض أسرارها وتدوينها في قصيدة، فتهرب منهم الحياة في اللحظة التي يكونون قبضوا فيها عليها ووهبوها زيادة معنى وفضلة جَمال. رحيل الشعراء مبكّرٌ أبداً، ورحيل سركون عن ستّين سنة ونيّف هو نوع من غدر مبرَم وغاشم تمارسه علينا الطبيعة. "غاشم"، تلك واحدة من كلمات سركون، الذي لم يكن يتوانى عن الامتياح من قاموس القدماء، ولا عن الأخذ بالمعتّق من المفردات والبناءات اللّغوية، عارفاً، باستمرار، أن يجرّها إلى سياق جديد وموسيقى جديدة. وكقارئ متمرّس للتراجيديّات الكبرى، من ملحمة غلغامش إلى آثار الإغريق، كان هو يرى في عمل القدر مشغلة غاشمة ويصرّح على الدّوام بأنّ العنف بعيد في أصوله، وأنّه، أي العنف، "متقادم". "العنف يأتينا دوماً من الأمس"، يقول سركون، وما عنف الحاضر إلاّ نسخة عن عنف قديم متكرّر. قال هذا في قصائد قديمة، وقاله في مجموعته الجديدة التي تصدر بعد أيام وستكون لي إليها عودة. ذلك أنّني قرأتها بنسخة ألكترونية نلتها من الشاعر وناشره الصديق خالد المعالي قبل صدورها، وأرى الآن أنّني قد أكون انشغلتُ بها عن مرض سركون، وبدا لي أنني وجدتُ فيها نوعاً من التكذيب لخطورة مرض سركون واستبعاداً لرحيله الوشيك. قديماً قال المتنبي: "طوى الجزيرةَ حتّى جاءني خبرٌ/ فزعتُ منه بآمالي إلى الكذبِ". في مواجهة مرض سركون والخوف من ألاّ نعود نسمع كلامه المتوهّج والعفويّ والعميق عن الشعر، ولا نرى التماع عينيه كلّما كانت القصيدة سيّدة الجلسة وساحرتها المرئيّة والمتمنّعة، في مواجهة هذا لم أفزع إلى الكذب، بل إلى الصّدق عينه، صدق سركون الذي يتجلّى من جديدٍ في جديد شعره. شعر يزداد لدينا تثميناً وحرقة وإيلاماً لأنّنا ننال الآن المعرفة الفاجعة في كونه هو شعره الأخير. في أحد حواراتنا المنشورة، قال لي سركون إنّ "مرض السيّاب الأصليّ كان هو الشعر". على شاكلة السيّاب، كان سركون هو أيضاً مريض الشعر الكبير الذي يطبِّب، بقوّة الشعر وحده، نفوساً مجروحة كثيرة.

****

رحل أخيراً إلى مدينته الأبدية "أين"

شوقي عبد الأمير

من نينوى عاصمة أشور، مروراً بكركوك وبغداد، فبيروت حتى لوس أنجلس، كتب قصيدته الطويلة القصيرة، عمرَه المنثور، شعراً وغربة.
كان سركون بولص صورة الشاعر العاشق صورته، رأيته يوماً أمام قناع الملك الأشوري سركون الأكدي الذي يشترك معه بالإسم وربما بالإنتماء عميقاً في ماضي العراق، وكان كأنه يغور داخل محاجر القناع فقلت له: "ماذا يا سركون، هل هناك شبه بينكما؟"، فانفجر ضاحكاً على طريقته: "أنا أجمل".
سركون بولص شاعر عراقي مثّل في مرحلة الستينات تجربة جريئة امتد صداها واشعاعها إلى وراء العراق وعبر عقود من السنين لقصيدة النثر عندما كانت تخطو خطواتها الأولى.
ظلّ سركون وفياً لغربته، لعشقه، لحبّه للمدن والرحيل دائماً..
ها هو يواصل رحلته هذه المرة ليس على الورق، إنما في الماوراء.

***

حوار حديث العهد مع سركون بولص، أجراه معه القاص والناقد العراقي عدنان حسين أحمد أوائل هذه السنة، ونشره في موقع "الحوار المتمدن"، ونعيد نشر مقتطفات منه اليوم في "النهار" لما فيه من إضاءة على تجربة الشاعر الراحل في الشعر والحياة والمنفى.

هل تعتقد أنك أول من عرّف بحركة البيتنكس الشعرية في سان فرنسيسكو؟

- عندما كنت في كركوك وصلت إلينا أخبار في الصحف والمجلات عن هذه الحركة، كما قرأنا بعض قصائد غينسبرغ والبيتنكس، لكنها مجرد شذرات في صحيفة أو مجلة، إلى أن أتيح لي عندما ذهبت إلى بغداد، واطلعت على قصائد غينسبرغ في المكتبة الأميركية، ثم قرأت كيرواك. ومن خلال القراءة حدثت بعض التأثيرات لأنهم كانوا الجماعة الطاغية في تلك الفترة (1964 – 1965)، لكننا لم نكن نعرف عنهم سوى هذه الشذرات أو القصائد المتفرقة المنشورة هنا وهناك. وحين وصلت إلى بيروت ذهبت مباشرة إلى المكتبة الأميركية فوجدت هناك كتب غينسبرغ وكيرواك وآخرين أمحضهم حباً كبيراً، فقلت ليوسف الخال أريد أن أعمل ملفاً خاصاً عن حركة البيتنكس لمجلة "شعر". وافق الخال مباشرة، وأعطاني مدة شهرين لإنجاز هذا الملف وقد صدر وفيه قصائد لغينسبرغ ومنكور وسنايدر وأغلب الشعراء المهمين في هذه الحركة، بل أنني ترجمت بعض أغلفة اسطوانات عملوها في تلك الفترة. كان عدداً جميلاً ومفيداً.

اعتبرتَ قصيدة "آلام بودلير وصلت" نقطة تحول في تجربتك الشعرية. هل لك أن تتحدث لنا عن معطيات هذه القصيدة من الناحية الفنية؟

- من الناحية الفنية كانت قصيدة "آلام بودلير وصلت" وثبة ثلاثية في تركيبها ومواجهتها للموضوع مباشرة منذ الكلمة الأولى ونزولاً إلى أعماق القصيدة. كنت في حالة من الإنخطاف السحري الذي يحدث بشكل نادراً أحياناً، وتكتب في تلك الحالة وكأنك هذا الشيء يُنزل عليك من الأعالي. ومن دون مبالغة أقول إن هناك قصائد كتبتها مرة واحدة، ونشرتها كما هي من دون أي حذف أو إضافة أو تعديل أو مراجعة، وهذه الحالة نادراً ما تحدث. وأنت تعرف أنا من الشعراء الذين يشتغلون على القصيدة وعلى أمداء مختلفة من الزمن، لكني أتذكر أن هذه القصيدة التي تسأل عنها الآن كتبتها في قرية اسمها شبطين، وهي القرية التي كانت يسكن فيها الصديق وديع سعادة. أمضيت هناك أياماً عدة في تلك القرية الجبلية المطلة على وادٍ مدهش. إنها بالضبط مثل عش يطل على الوادي. كان الهواء النقي يغمرني، ومن فرط التجلي وجدت نفسي في الليل أكتب قصيدتين، قصيدة "آلام بودلير وصلت" وقصيدة أخرى ضاعت مني، كتبتهما من دون توقف، وأعطيت الأولى إلى يوسف الخال في اليوم التالي. وقال لي بالحرف الواحد أنه سينشرها وحدها في مجلة "شعر" من دون أي قصيدة أخرى. وإذا راجعت ذلك العدد فستجد أنها فعلاً قصيدة العدد الوحيدة، أما بقية القصائد فهي قصائد مترجمة.

في أوقات معينة كنت تشعر بأن الثقافة غير كافية لتفسير العالم والقبض على متاهة أسراره اللامتناهية. هل لهذا السبب اتجهت للدراسة في أكاديمية الفنون السينمائية، مثلما درست قبل ذلك الرسم والنحت؟

- أنا دائما أفكر بأن الثقافة شيء جميل لكنها غير كافية لتفسير التجربة البشرية. هناك نواحٍ كثيرة وفنون أخرى كالرسم الذي أحبه كثيراً والذي كنت أساوم بينه وبين الكتابة، وقد فكرت بأن أترك الكتابة من أجله ذات يوم، والتمثيل الذي كان يسكن مخيلتي أيضاً، لكن رغبة التمثيل انتهت في داخلي بعدما إرمّد شعري. والتمثيل كما تعرف هو حلم الشباب. ومع ذلك فالسينما فن عظيم له مكانة كبيرة في نفسي. الثقافة مكونة من كل هذه الأشياء، وأضيف إليها أسلوبي في الحياة، أو طريقة سيري في هذا العالم، أو اختياري لوظيفتي، أو انتقائي للأشياء التي تستحق الاهتمام في هذا العالم. هذه الأشياء كلها أعتبرها ثقافة، لكن الثقافة قد تبدو أحياناً أنها موجودة في الكتب فقط أو في المدرسة أو في الأكاديمية، لكن الأمر ليس كذلك، فأنا أحياناً لا أقرأ ولا أكتب لشهور وبعد ذلك أمضي سنوات في القراءة والكتابة. هذه موازنة داخلية لأنك تعرف تركيبتك وما تحتاج إليه. أحياناً أرى أفلاماً كثيرة ثم أقرف من السينما. أما في الرسم فالأمر مختلف فاللوحة تظل جميلة جداً ولا تنزل من عليائها لتسقط في فخاخ القرف. عندي دائماً رسامون معينون إذا نظرت إلى لوحاتهم أشعر بالراحة والتوازن، فاللوحة كنز بصري يملأني بالرغبة في متابعة الكتابة من جديد. المسألة هي حالة يأس عند المثقف، عند الشاعر الذي يمضي حياته من جبل إلى واد، ومن وادٍ إلى جبل. هذه القفزات الروحية والخيبات والانكسارات التي تبعث على اليأس، ونحن العراقيين عندنا ما يكفي من الأثقال بحيث تحني ظهرنا ونشعر باليأس. حياتي في الثقافة تتحرك بهذا الشكل. في أميركا وأوربا هناك الكتب والسينما والمسرح وكل ما تريد، لكن الشاعر لديه نظرة خاصة فهو يختلف عن المثقف، فالشاعر هو كائن بدائي لديه معرفة عميقة بالأشياء، هذه محاولة للتعريف، والشاعر الحديث هو شخص يختار أشياء معينة في الثقافة، وكثير منها يبدو نوعاً من العلف المكتوب والمصنّع من أجل الماشية، من أجل القطيع، لكي تتواصل المسيرة ولا تتوقف القطعان عن المشي، لذلك أنا أرى العالم مثل كتل بشرية مدفوعة إلى العبودية ليل نهار، ولكي تشغل ماكنة المجتمع عليك بمواصلة فكرة التصنيع. حتى طلبة الجامعات أراهم مجرد مادة خام لتخريجهم كأطباء ومهندسين ومحامين وسياسيين يولدون من هذه الماكنة. الشاعر وحده يقف خارج الماكنة ويراها من الخارج، وهذا ضروري جداً، وقالها بريشت ذات يوم بأن الشاعر يقف دائماً خارج الأسوار، ولا يمكنه أن يكون داخل هذه الأسوار إلا إذا كان شاعراً يلتحق بالدولة أو المنظمة أو المؤسسة. هناك شعراء من هذا النوع، لكن الشاعر الحقيقي هو الذي يرى كل شيء من الخارج، ويقف على مسافة جمالية ضرورية بحيث يرى الأشياء، ويحتفظ بحرية أن يقول عنها ما يريد. هذه نظرتي الفلسفية أو موقفي كشاعر ينبغي أن يمتلك حرية الاختيار.

هل تعتقد أن الشعراء الستينيين من "جماعة كركوك" كانوا أكثر إطلاعاً على المنجز الشعري العالمي أو على الحداثة تحديداً بحكم سعة إطلاعهم ومعرفتهم باللغة الإنكليزية؟

- هذه نقطة تسجل لـ"جماعة كركوك" لا عليهم، ولكن هذا لا يعني أنهم كانوا متفوقين بهذا المعنى على الشعراء الآخرين، ذلك أن أدباء وشعراء آخرين في بغداد ومناطق أخرى من العراق كان لهم سعيهم أيضاً في هذا المجال، لكن أن تعرف لغة أجنبية في الستينات من القرن الماضي عندما كان الجو الأدبي شبه جاهل بما يجري في العالم فهذه نقطة تحسب لصالحك. إن قراءتي باللغة الإنكليزية على الصعيد الشخصي عجلت في نمو معرفتي وتطوري بأساليب جديدة، كما عجلت في معرفتي بأسماء أدبية عالمية مهمة. نعم، كنا نشعر بنوع من التفوق لأننا كنا نعرف كيف نقرأ كتباً معينة لا يعرف الآخرون كيف يستدلون عليها.

ما جدوى الكتابة، وهل يستحق الشعر أن تكرس له حياتك الشخصية، وأن تتحمل من أجله كل هذه العذابات؟

- أعتقد أن سؤالك ينطوي على نوع من الشك في أهمية الكتابة وجدوى النصوص الشعرية التي نكتبها. بالنسبة لي يستحق الشعر أن أكرّس كل حياتي من أجله. فالكتابة بالنسبة لي إجمالاً نوع من العذاب الحقيقي واللذة النهائية أيضاً. اللذة هي أنك تمضي سنوات طوالاً وأنت مستغرق في أسرار الكتابة، وبالذات أسرار الشعر لتخلق لنصّكَ قوانين خفية تشدّك إلى هذا المكان الغامض أو المنحى الباطني الذي تكون مستعداً لأن تضحي من أجله بكل شيء. أنا أمضيت أكثر من أربعين سنة في كتابة الشعر، وملازمة هذا الهم الجميل، ومع ذلك فأنا لا أريد أن أتظاهر بأنني قد كرّست حياتي للشعر أكثر من غيري لأنني موقن تماماً بأن هناك شعراء في هذا العالم ضحّوا من أجل الشعر بأشياء كثيرة لا تصدّق. هناك شعراء يمكننا أن نعتبرهم شهداء حقيقيين ضحّوا بأنفسهم من أجل الشعر، أمثال سيزار فاييخو، وهو أعظم شعراء العالم، مات في باريس من الجوع. وهناك شعراء آخرون كبار أمثال ناظم حكمت ونيرودا، عرفوا منذ البداية حجم المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم، لأن اختيار الشعر مسألة غير هينة على الإطلاق. الشعر عالم له أسرار لا تنتهي، ورهان خطير، لكن مع ذلك فهناك شعراء كثيرون قبلوا بهذا الرهان ومنهم شعراء الرومانس البريطانيين على سبيل المثال لا الحصر أمثال ووردزوورث، وكيتس، وشيللي، وبيرون، وكوليريج. وكل واحد من هؤلاء يعتبر عالماً كاملاً قد يستغرقك سنوات عديدة إذا أردت أن تدرس عالمه، وتفهمه بعمق. جون كيتس مثلاً أثّر في السياب بشكل عميق بحيث أننا لا يمكن أن نفهم السياب بشكل دقيق ما لم نفهم كيتس جيداً، لذلك ترى أن الشعر متداخل بعضه ببعضه، وأن حيوات الشعراء متداخلة أيضاً. فالشاعر الذي مات قبل ألف سنة أو أكثر كأمرئ القيس لا يزال مفعوله سارياً في شعرنا. السياب لا يزال هاجساً بالنسبة لي، وقصائده لا تزال تشدني وتثير فيّ غابة من الأسئلة. فالشاعر الحقيقي الذي يؤمن بالشعر، ولم يأت إليه عابثاً من أجل كتابة بضع قصائد عابرة ينبغي أن يكرس نفسه وحياته للشعر، ويجب أن يعتبر نفسه ذا مهمة كبيرة في التاريخ. وأن يقدّس الكتابة، ويخلص لها من كل قلبه.

ج. ح

***

يوم في حياة سركون بولص

يوم في الصين

تذكّرت أنّ اليوم، الإثنين، هو اليوم الذي أذهب فيه عادة الى السوق، لأني مع مرور الوقت، ومن طريق التجربة، أدركت أن هذه السوق التي أذهب اليها بالذات تتموّن بمنتوجاتها الطازجة بعد أن يكون الزبائن قد أتوا على كل شيء تقريباً في عطلة نهاية الأسبوع كالجراد: تبقى رؤوس اللهانة المتهدّلة، اللحم الشاحب الذي بدأ يغزوه السواد، الدجاج الأصفر بشكل يجعلك تفكر، ليس للمرة الأولى، بإمكان أن تترك هذه الحيوانات المسكينة وشأنها الى الأبد، وتصير نباتيّاً...
السوق قريبة منّي، على بعد ربع ساعة مشياً، يملكها الصينيّون ويديرونها على شاكلة الأسواق في الصين؛ حتى الموسيقى صينية بحتة، وأعترف أني أخذت أستمتع بهذه الموسيقى التي وجدتها ساذجة بل فكاهية في البداية، الى حدّ أني اكتشفت في نفسي، سرّاً، نوعاً من الشوق الى سماعها كلما أعددت نفسي للذهاب، وأفضّلها على الموسيقى الغربية التي تحس، بالمقارنة بها، كم هي مسعورة وهستيرية. ذلك أن الموسيقى الصينية هذه، كما يبدو، أصيلة تماماً وليست متأمركة، إنتاج هونغ كونغ. آلتان وتريّتان، يصاحبهما ناي رخيم، وأحياناً ربّما مغنّية لها صوت من فرط أنوثته، بالمعنى الكلاسيكي للأنوثة، أنها تذكّرني بما تخيّلته أثناء قراءاتي في الأدب الصيني القديم، عند لي بو، وبو تشو- ئي، ووانغ واي. هذا، وانتهت القصة. ما من صنّاجات، ولا طبول! ويمكنك أن ترى بوضوح كم تستمتع بها البائعات حتى يكدن يملنَ من خصورهن النحْليّة، وهنّ يشتغلن بسرعة ومهارة في أكشاكهنّ الصغيرة على آلات النقود التي لا تكفّ أجراسها عن الرنين.
فهذه السوق مزدحمة دائماً، حاشدة الى حدّ... الى حدّ أني تعلّمت كيف أمرق بين جموع النساء اللواتي يملأن الممرّات بعرباتهن، بأن أستغني عن عربة التسوّق وأحمل السلّة البلاستيكية التي يمكنني أن أؤرجحها فوق قاماتهن القصيرة، وأتفادى التورّط في أزمة مرور خانقة عليّ أن أزحف فيها خلف عشرين عجوزاً صينيّة لا يبدو أنّ أيّ واحدة منهن في عجلة من أمرها!
وما السرّ يا تُرى، قد تسأل، لِمَ هذا الإقبال الخرافي؟ ماذا عن الأسواق الأميركية الأخرى؟ وهل الصينيّون وحدهم من يتسوّق هنا؟ إذا قارنتَ السوبرماركت الأميركية بهذا المكان، مثلاً، لاكتشفت أنّ تلك الأغذية المغلّفة بالسيلوفان، المجمّدة سلفاً وقبل أن تصل الى السوق من يدري بكم من الزمن، تبدو "معقّمة"، لا دليل فيها على الطزاجة، وحتى الخضر تُسقى بشكل دائم برشائش سريّة صغيرة من الماء لتبدو يانعة! ناهيك بالأسعار، فكما في السوق العالمية، لا يمكن البضاعة الأميركية أن تنافس الصين في أي حال من الأحوال، في كل المجالات، حتى أشجار عيد الميلاد، التي فوجئت حقاً عندما ذهبت لأشتري واحدة، فاكتشفت أنها مستوردة من الصين!
لذلك بدأ هذا الإقبال الجنوني قبل أقلّ من سنة، فبدأت تظهر وجوه أخرى، أكثرها شرقي لكن بعض البيض والسود بدأوا يأتون أيضاً، بعضهم من مناطق أخرى، وحتى نائية، والكثير من الهنود، وحديثاً عربيّات محجّبات يصاحب كلّ واحدة منهن زوجها المكرّش الذي يعطيها الأوامر بصوت خافت بينما عيناه تبصبصان بشك مزمن في وجوه الذكور، ويرصد كل نظرة قد يصوّبها اليها أحدهم بالصدفة، كما حدث لي ذات مرة، بتحديقة صارمة كصقر قريش.
معرض عجائبي للشرق، وأعني الشرق الحقيقي. الشرق الذي لا يوقفه شيء عن كونه شرقاً، لا زلازل التاريخ ولا مكائد الأعداء. ويبدو لي أن الصينيين فهموا شيئاً جوهرياً وحاسماً عن المنفى، هو التعامل مع الآخرين كأنهم مجرد بيادق على لوحة شطرنج، يمكن تحاشيها إذا كنت لاعباً جيّداً، فكيف إذا كنت سيّد اللعبة؟ إنها الكونفوشيوسية، التي ستتغلب على الجميع في النهاية، لسبب بسيط هو أنها فلسفة للحياة بالإضافة الى كونها ديناً لا يد فيه لأي إله يَنهى ويأمر مثلما يشاء، كما في الديانات التوحيدية الأخرى.
وما من حلال، ما من حرام. كلّ ما يدبّ أو يزحف أو يسبح أو يطير، فهو مباح. وعندما تريد أن تأكل، فعليك أن تعرف، ومن دون وجَل، قسوة الإنسان وهمجيته في تعمير تلك الموائد، إشباع تلك البطون التي لا تني تطالب بالمزيد. لا رتوش، كما في الأسواق الغربية، تخفّف من وطأة الصدمة - ما من "تجميل"، كما قد يحدث وأنت مارّ بمطعم غربي، عندما ترى خنزيراً مسلوخاً في الفترينة، لاجتذابك الى الداخل كما أحسب، يبتسم ابتسامة ظريفة وفي فمه تفّاحة! مسألة الأكل، معضلة تحضير العلف والبشاعة المصاحبة لها والتي نتفاداها بشكل مستميت، لكي نقنع أنفسنا بأننا "متحضرّون" ولسنا حيوانات، أسطورة مليئة بالنفاق في نظر الصينيّ. هنا، تجد صفّاً من الجزّارين بسواطير هائلة ومريلات ملطّخة بالدماء، يقطّعون الخنزير أشلاء أمام عينيك، بينما يتحاورون بأصوات بشوشة وعالية، ويضحكون ربّما على نكات (بذيئة؟) يروونها بالصينية... تجد صفوفاً من الأحواض الزجاجية تسبح فيها أسماك حيّة من كل الأصناف، كثير منها لم أره حتى في الأحلام والكوابيس. سلطعونات بالعشرات متشابك بعضها بالبعض الآخر في بانوراما من المخالب والدروع، تتدافع من دون جدوى للخلاص، وتحتها، في سلال كبيرة، ضفادع مكوّمة بعضها فوق البعض بالمئات، لم أكن أدري أنها حيّة، حتى رأيت بضعة منها تتحرّك، فجأة، ثمّ تهمد ثانية.
عندما جئت الى مدينة سان فرنسيسكو، وجدتُ، بعد أشهر، غرفة رخيصة في فندق يواجه بوّابة "البلدة الصينية" التي تعلوها قوس كبيرة مكوّنة من تنّينين متعانقين، كنت أمرّ تحتها كلّ يوم لأتسكع بين المطاعم والدكاكين، أتفرّج على التحف (المزيفة غالباً) وما لا نهاية له من الخردوات والأنتيكات التي يتهافت على شرائها السيّاح، حتى أصل الى نهاية البلدة الأخرى حيث تقع مكتبة "أضواء المدينة" التي يملكها الشاعر لورنس فرلنغيتي، والتي كانت ملاذي المفضل منذ ذلك الحين، ولا تزال. وعندما كنت أجوع، بعد تصفّح الكتب والمجلات لساعات، أختار مطعماً صينيّاً للعشاء. لم يخب ظني ولا مرة، فالطباخ الصيني ساحر الأفاويه، يعرف كيف يحول قطعة لحم عادية، مع بضعة خضراوات وبضعة رؤوس من الفطر الأسود، الى احتفال مذاقيّ يندهش له اللسان ويُهيّأ للآكل أنه يشارك في مأدبة جديرة بالآلهة.

****

مختارات من شعره

سقط الرجل

في وسط الساحة
سقط الرجل على ركبتيه.
- هل كان متعباً إلى حدّ
أن فقدَ القدرة على الوقوف؟
- هل وصل إلى ذلك السدّ
حيث تتكسّر موجة العمر النافقة؟
- هل قضى عليه الحزن بمطرقةٍ يا تُرى؟
هل كان إعصارُ الألم؟
- ربّما كانت فاجعةً لا يطيق على تحمّلها أحد.
- ربّما كان ملاك الرحمة
جاء ببلطته الريشيّة عندما حان له أن يجيء.
- ربّما كان الله أو الشيطان.
في وسط الساحة
سقط الرجل فجأةً مثل حصان
حصدوا ركبتيه بمنجل.

****

نبي

أُجمّعُ نفسي
عارضاً وجهي للبرق
وأنا أهذي بانتظار أن تتركني
الموجة
على شاطئ مجهول، مقيَّداً
إلى حجر.

****

كتاب

إفتَحْ كتاب الزمن
بأصابعَ مرتجفة، واقرأ:
ها هي حياتك مشدودةٌ من شعرها
إلى وتد الأيام، كأنها امرأة
تريد أن تبوح لك
بأوّل الأسرار
وآخرها.

****

الله

شاء الله
للعالم السفليّ أن يتجلّى:
أزقّة مظلمة، حزينة
كُتب على البشرأن يتيهوا فيها
الى الأبد.

****

عود

ثمّ كانت الأيام
ودسّ أحدهم بين يديّ
هذا العود، وعلّمني كيف أغنّي
بهذا الصوت الجريح.

****

- الحياة

العراقي الذي توفي في برلين عن ثلاثة وستين عاماً
سركون بولص شاعر الترحال جعل حياته قصيدة

عبده وازن
(لبنان)

سركون بولص كان يود أن يموت في سان فرنسيسكو، المدينة الأميركية التي هاجر إليها العام 1969، وأصبحت بمثابة الوطن البديل، لكن المنية وافته في مدينة برلين صباح أمس وكان وحيداً كعادته. رحل سركون بولص الشاعر العراقي عن ثلاثة وستين عاماً كان خلالها شاعراً، شاعراً فحسب، بحياته وقصائده على السواء.
لم يمتهن هذا العراقي المتحدر من الحبانية وكركوك أي وظيفة أو عمل سوى الشعر الذي كان يعكف على كتابته غير آبه بنشره. وعندما قرر النشر كان في الحادية والأربعين، وحمل ديوانه الأول عنواناً طريفاً هو «الوصول الى مدينة أين» وصدر العام 1985 حاوياً القصائد التي كتبها في الثمانينات من القرن الماضي. لكن سركون الذي استهل الكتابة في السابعة عشرة كان كتب قصائد كثيرة لم يلبث ان نشرها لاحقاً وكأنه سعى الى قلب المراحل أو خلطها بعضاً ببعض، غير مبال بما يسمى «انتظاماً» في النشر.
وكان كل ديوان ينشره يمثل مفاجأة شعرية، فهو نادراً ما كان ينشر على رغم غزارته، مؤثراً الابتعاد عن الأضواء. فالقصيدة في نظره هي لحظة حياة مثلما هي لحظة محفورة في قلب اللغة، والشعر تجربة عيش مثلما هو تجربة كتابة وتأمل ورؤيا ومواجهة.
قبل ان يهاجر سركون بولص الى سان فرنسيسكو سعياً وراء «الحلم الأميركي» الذي راج في الستينات، عرّج على بغداد ثم على بيروت حيث التقى شعراء مجلة «شعر» التي دأب على النشر فيها بترحاب من مؤسسها يوسف الخال. وهذا الترحال بين المدن والبلدان سيكون دأب هذا الفتى العراقي الذي سمّي لاحقاً بـ «الشاعر المتسكّع» و «السندباد» و «عوليس»... لكن «مدينته» الأميركية التي استقر فيها كانت منطلقاً لأسفاره، وكان دوماً يعود إليها، لينطلق مرة تلو مرة. ومع أنه لم يسع يوماً الى تبني «الصورة» الرسمية للشاعر مؤثراً البوهيمية ومبتعداً عن الإعلام والعلاقات، فهو كان يلبي الدعوات الى المهرجانات الشعرية العالمية، لا رغبة في الشهرة وفي لقاء «الجماهير»، بل حباً بالسفر وارتياد الآفاق المفتوحة. يقول في إحدى قصائده: «سافرْ حتى يتصاعد الدخان من البوصلة». ولعله السفر أو التطواف ما أسبغ على شعره الصفة «الكوسموبوليتية» وجعله شاعراً من العالم، شاعراً عربياً وعراقياً وأميركياً. إلا ان ثقافته الكبيرة، لا سيما في الشعر العالمي، هي التي رسّخت فرادته كشاعر، وريادته التي تسجّل له وتأسيسه، هو الذي أسس قصيدة جديدة ومناخاً لم يكن مألوفاً قبله.
ولئن بدا مقتلعاً أو بلا أسلاف في المعنى الشعري، فهو استطاع ان يبتدع شعريته الخاصة القائمة على حال المنفى أو اللا – جذور، على رغم علاقته القوية بالشعر العربي، قديمه وحديثه. لكن سركون بولص تأثر مثل سائر رفاقه في مدرسة «كركوك» بالثورة الشعرية الحداثية التي أنجزها بدر شاكر السيّاب وسواه، وكذلك بالثورة الثانية التي حققتها مجلة «شعر». لكنه كان دوماً بلا «أب» شعري وبلا «مرجع» معيّن يمكن ربطه به. وساهم اطلاعه على شعرية «جيل البِيْت» (Beat generation) الأميركي الشهير في فتح تجربته على آفاق القصيدة الحديثة والمغايرة. وكان سركون أول من ترجم قصائد لشعراء هذا الجيل أو هذه الجماعة الى العربية في مجلة «شعر» نفسها معرّفاً القراء العرب بشعراء طليعيين من أمثال: ألن غينزبرغ وغاري سنايدر ومايكل مكلور. وشملت قراءاته أبرز الشعراء في العالم، بدءاً من الشاعر الفرنسي رامبو الذي ترجم له ايضاً بضع قصائد، وانتهاء بالسورياليين والشعراء التجريبيين الجدد الذين غزوا المشهد الشعري العالمي.
وإن لم ينشر سركون بولص دواوين كثيرة خلال حياته التي عاشها كمغامرة شعرية، فهو كان له أثر كبير في الأجيال العربية التي أعقبته. وأقبل الشعراء الشباب على قراءته والتمثل به، ووجدوا فيه «الأب» الذي يرفض ان يمارس أبوته، والشاعر المتجدد دوماً في تمرّده على الفصاحة والبلاغة، وفي انفتاحه على اليومي والعابر وفي استسلامه لإغراءات المخيلة واللاوعي...
تعب الشاعر «المتسكع» من السفر، أنهكته المدن التي جابها، لكنه لم يعد مثلما عاد «عوليس» الى مدينته، بل مات غريباً كما عاش، منفياً في قلب العالم.

الحياة - 23/10/2007

*****

يتبع