عبدالله حبيب
(عمان)

"ما معنى الحِداد؟
الميت في تابوته
لا يطالب بالبلاغة
الأيدي في فيء السطيحة
تهُّش ذباب الصيف العنيد
وماذا يقول المرء
عندما يموت في مكانه الآخر؟
[....]
وأنت أيها الميت
ترقد بكل بساطة
على ظهرك وتختصر الكون"
-- سركون بولص، "جُنَّاز قصير في الطريق إلى مأتم" --

(1)

في تلك الظهيرة الفاترة أضاءت شاشة هاتفي النَّقال الصامت المستلقي على المنضدة بلامبالاةِ جُثَّةٍ في قيلولةٍ معلنَةً عن وصول رسالة هاتفية نصيَّة، في الوقت الذي كان التلفاز ينقل فيه عبر قناة "الجزيرة" مصارع دمويَّة وعبثيَّة جديدة من بلاد الرافدين، بينما على بُعْدِ ضغطة زر على "الريموت كونترول" يتغير المشهد قليلاً – قليلاً فقط ومن الناحية الخارجية فحسب -- حيث تتقيأ فضائية أخرى فيضاً وافراً من تفاهات غنائية ورقصيَّة "مُعْرْقَنَة" (نسبة إلى العراق) زوراً وبهتاناً وغصباً في الزمن البغيض هذا. "رحيل الشاعر سركون بولص"، هذا ما قالته الرسالة القصيرة التي بعثها الزميل سماء عيسى.
والحقيقة أن الخبر الحزين الذي دكَّني دكَّاً لم يفاجئني البتَّة لا لأني قرأت قبلها بيوم أو بعض يوم ذلك النعي المبكر بعنوان "سركون بولص مريض" الذي نشره عباس بيضون في الملحق الثقافي لصحيفة "السفير" في ما يشبه الاستباق الفجائعي وتقرير الأمر المرير الواقع، ولكن كذلك لأن الحفيف الغامر للموت كان النغمة الوحيدة التي تحتفظ بها ذاكرتي من صوت سركون بولص في آخر مكالمة هاتفية بيننا. كان السرطان – بعد أن نجا المُخاطر الكبير هذا من عملية جراحية في القلب -- ينهش أحشاءه بالمعنى الحرفي للعبارة، وكان صوته مليئاً بالغبار والخفوت والتعب والرماد هو الذي لن تنسى حانات سان فرانسيسكو قهقهاته الفاجرة، وشتائمه المقذعة، وصراخه الاحتجاجي ضد العالم -- الصراخ الأشبه بقصيدة "عويل" الشهيرة لألن غينسبيرغ التي نقلها إلى العربية في ترجمة لا تقل شهرة. وحين حاولت بأقصى ما يمكن من اللباقة والكياسة سؤاله عن وضعه الصحي إذا به يناور سؤالي ويظلل الفناء ولو إلى أجل مسمى بتحويل الحديث إلى مجرى آخر هو انكبابه على ترجمة "النبي" لجبران خليل جبران. "ولكن هذا الديوان الخالد تُرْجِمَ كثيراً من قبل يا سركون!". "بلى ولكن جميع الترجمات السابقة غفلت عن البُعْد النيتشوي في "النبي". وترجمتي ستعيد الاعتبار لذلك البُعد للمرة الأولى". هذا الإشراق كان الصعود الاحتضاري الأخير لسركون على هضاب رحلة بالغة بين لغتين، وثقافتين، وعالمين، وجرحين. كان من المثير حقاً أن شخصاً يحتضر يضم إلى روحه جبران ونيتشه معاً. من قال ان أمام الشاعر خيارات كثيرة في المقام الأول؟!.

"برميل من البارود"

سيكون من النافل والمفروغ منه القول ان سركون بولص، ومنذ انتمائه إلى "مجموعة كركوك" (أول وآخر مجموعة ينتمي إليها خارج انتمائه لعصابة الشعراء الملاعين منذ أول يوم حدث فيه التاريخ ولغاية الآن)، قد خلع على الشعر العربي في مرحلة حداثته الثانية معطفاً غوغوليَّاً لن يتمزق أبداً؛ ذلك ان الناسج البارع قد ادَّخر مصير التمزق لروحه هو فحسب وذلك على خطى الشعراء العظام الذين يصفهم شيلي (الذي ترجم الراحل العزيز بعضه) بأنهم "مُشَرِّعو العالَم غير المعترَف بهم".
لقد كان سركون بولص شاعراً عظيماً نفته الأوطان، وعذَّبته المنافي، وطاردته أنياب ومخالب وألسنة الوحوش الآدمية، ونبذه النقاد وتجاهلوه، وأسكنه كثير من الشعراء عبر أكثر من جيلين في أرواحهم وكؤوسهم وكلماتهم (وان كان بعضهم لم يعترف بإقامة الشاعر في الثالثة). لكن مجرد قول ان سركون شاعر عظيم لا يكفي لوصف هذه الظاهرة الفريدة التي من لحم ودم ووجع وأشعار ورؤى؛ ذلك ان هذا الآشوري السحيق (يستخدم الأرقام الآشورية في مجموعته "الأول والتالي" وتُنَقِّطُ المرجعيات الميثولوجيَّة والثقافيَّة الآشورية مجمل أعماله) كان شاعراً عظيماً بمعنى خاص جداً، واستثنائي جداً؛ أي انه عاش الحياة ومات لأجل الشعر. لقد عاش الشعر في الحياة، والحياة في الشعر، والحياة شعراً، ولم يقترب قيد أنملة من أي ما من شأنه أن يساوم علاقته المصيريَّة بالشِّعر. وحين كان وقع فردتي حذائه القديم كالكرامة والكبرياء يصدر من على آخر رصيف في العالم كان الشعراء القائمون بأدوار الحِجَابَة (من "حاجب" بمعنى "بوَّاب") وواجبات تنظيف الأحذية والملابس الخارجية والداخلية والتاريخ والمجازر والسجون لدى المؤسسة الثقافية والسياسية العربية يرتجفون. يتذكَّر المرء هنا أحد مُشَرَّدي مونتاين الذي صرخ وهو شبه عارٍ في عزِّ الشتاء: "أنا كُلِّي وَجْهٌ" ليثق حقاً انه لو كان في وسع مخلوقٍ أرضيٍّ أن يكون شعراً بالكامل فإن سركون أحد المرشحين لذلك بامتياز شديد.
لم يجف ثرى الراحل بعد. وليست هذه مناسبة للحديث عن مآثره العظمى على الشِّعر العربي (فاستيقظوا أيها النُّقادُ الجهابذة لأن الشاعر قد مات). لكني سأشير إلى انه لن يتوقف الحديث النقدي عن جماليات الصورة الشعرية. وفي ما يخص تعالقاتي مع الشعر تأسرني دوماً الصورة المحسوسة (وليس الحسيَّة بالضرورة – في بالي مفردة “sensuous”)، ذلك ان هكذا صورة تعمل على التَّيقن من وجود الشعر على الأرض، ومن مادته، وعناصره، على الرغم من أجنحته التي بحجم سبع سماوات طباقاً، من دون أن يعني ذلك موقفاً ميكانيكياً أو مانويَّاً ضد الصورة التجريدية المُجَرَّدة التي تتطلبها التجربة. وأعتقد أن سركون بولص –خاصة في تجاربه الوسطى– واحد من أفضل الشعراء العرب في نحت وتجذير الصور المادية أو المحسوسة. فعلى سبيل المثال في قصيدة له عن لينين (من مجموعته "الحياة قرب الأكروبول" إن لم تخني الذاكرة) نجد هذه الصورة البديعة التي يمكن لك فعلاً أن تراها باليد وتلمسها بالعين:

"كان قصيراً مثل برميل من البارود
ينحدر فوق حصباء الليل
نحو أسوار القياصرة".

وحين بُحْتُ لسركون بإعجابي الشديد بهذه الصورة قال انه اذا كانت تلك الصورة قد اعجبتني فإن قصة كتابة القصيدة ذاتها قد تعجبني بنفس المقدار بل ربما أكثر. لقد كان الشاعر في زيارة إلى سويسرا، وهناك دلف إلى أحد المقاهي اعتباطاً ليكتشف بالمصادفة بعد قليل انه إنما كان يرشف قهوته في نفس المقهى الذي عمل فيه لينين نادلاً متخفيَّاً بهويَّة مزوَّرة في فترة العمل السري الذي قاد لثورة أكتوبر 1917. وأمام هذه المفاجأة التي انبثقت محسوسة من الزمن أخرج الشاعر على الفور أوراقاً من حقيبته وكتب القصيدة في دفعة واحدة من دون أي شطب أو تعديل ليضمنها، بعد سنوات من ذلك، مجموعته الشعرية حيث نشرت القصيدة كما هي، وهو المعروف بأناته وتنقيحاته وتنقياته الصارمة لنصوصه بحيث انه ينشر بعضها بعد ثلاثين سنة من كتابتها للمرة الأولى. لقد كانت قصة القصيدة قصيدة بحد ذاتها. سأتذكر أيضاً أن سركون، وخاصة في تجاربه الشعرية اللاحقة، أحد أكثر الشعراء العرب براعة ومفاجأة في استخدام الفاصلة في المقطع الشعري. هكذا أدلى بدلوه ذي الصبر الطويل في جدل تقطيع السطور الشعرية في قصيدة النثر العربية.

ظل سركون وفيَّاً مخلصاً من الناحية الروحية والأخلاقية لأبُوَّاته الشعريَّة، معترفاً بجمالها وجميلها عليه، وهي أبُوَّات تشمل فيما تشمل امرؤ القيس، وأبو تمام، وبدر شاكر السيَّاب، وسيزار فييخو، وبابلو نيرودا (الذي ترجم بعضه إلى العربية)، وأقطاب جيل البِيْت الأمريكي الذين ترجم أهمَّهم في بيروت قبل أن يلتقي بهم ويصادقهم في نيويورك وسان فرانسيسكو. غير ان ذلك لم يمنعه من النظر الى تلك التجارب الكبرى نظرة نقدية من مسافة قرائيَّة مسؤولة وواعية، فهو مثلاً يتتبع بعض جذور السيَّاب الشعريَّة ليجدها ضاربة في رمز الشعر الإنجليزي الرومانسي جون كيتس. وقد كان سركون يصرح بهذا الرأي في جلساته الخاصة فحسب، ولم يدل به علناً على حد علمي إلا مرة واحدة فقط في حوار صحفي أجريمعه في أواخر حياته، وكل ذلك من أجل أن لا يساء فهمه، خاصة وان الذين يحاولون الاصطياد في الماء العكر أكثر من الطحالب في الوسط الثقافي العربي.

أود محاولة القول أيضاً ان فقيدنا العزيز لم يكن من حيث شاء أم أبى بمنجاة من العواقب الوخيمة للتراجيديا العراقية الهائلة الحافلة بالدم والتشظي والرعب والبارانويا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى (كي لا نذهب أكثر في التاريخ) وحتى الآن. لم يرحم التاريخ العراق، وكشف العراقيون عن انهم يجدون صعوبة في أن يرحموا بعضهم البعض إن في السلطة أو في المعارضة، في الشعر أو في النثر (وليست هذه محاججة جوهرانيَّة، بمعنى essentialist، في الشأن العراقي المعقَّد والصعب بأي حال من الأحوال). لهذا سيكون من اللاإنساني أن نطالب سركون بولص بأن يكون الملاك العراقي الوحيد. حسبه وحسبنا هنا ان أخاه الأكبر المخضرم سعدي يوسف قد وصفه بعد رحيله بأنه "الشاعر العراقي الوحيد".
وفي عنفوانه الثقافي الصاخب لم يكن الراحل الحبيب بعيداً عن ما يمكن تسميته بـ "التَّهوُّرات الشِّّعرية" التي عبَّرت عن نفسها، مثلاً، في حوار صحفي مطوَّل معه يدلي فيه بتصوُّر مثير للجدل في أحسن الأحوال عن "مونادولوجيا" لايبتنز. لكن ألا يكفي ان سركون كان يقرأ فلسفة لايبتنز الذي بالكاد يقرأه الفلاسفة المتخصصون في الغرب نفسه؟.

طارِدُ الجلادين

حين أصدر سركون بولص مجموعته الشعرية الأولى "الوصول إلى مدينة أين" في 1985، أي بعد أكثر من ثلاثين سنة من معاقرته للشعر كتابة وترجمة، تلقفناها -- نحن جيل الثمانينيات في عُمان – تلقف الهشيم للنار على توزُّع مناطقنا وحساسيتنا الجغرافية والسياسية والجمالية؛ فقد كان من الواضح لنا على الرغم من حداثتنا (بجميع معاني الكلمة) اننا بصدد لغة شعرية طريَّة وجديدة، واننا بصدد شاعر استثنائي ينبغي الإنصات له جيداً. وبالنسبة إليَّ فقد ظللت أردد لسنوات طويلة المقطع التالي:

"أيها الجَلاد
عُدْ إلى قريتك الصغيرة
لقد طردناكَ اليوم
وألغينا هذه الوظيفة"

الوارد في المجموعة كمن يردد تعويذة ساحرة سحرية. لقد أذهلتني، في غضاضة العمر والتجربة، درة الشِّعر العميقة، وبهذه البساطة الاستثنائية حد الهشاشة، على مقاومة الجبروت والطغيان في زمن كان من الواضح فيه أن الذين دعوا إلى تغيير العالم نحو الأفضل بقوة السلاح – في الستينيات والسبعينيات في معظم الأرض -- إنما كانوا متفائلين أكثر مما ينبغي بعض الشيء. وأظن لغاية الآن ان جلادي العالم لم يتلقوا صفعة بليغة وموجعة كتلك التي وجهها لهم سركون بولص في هذا المقطع البسيط والخارق. وفي ما يخصني أيضاً كان عليَّ بعد سنوات من ذلك أن أحاول بصورة بارادوكسيَّة للغاية كشف أوجه التباين والتغاير بين مقطع بولص هذا وما كتبه بودلير عن إدغار ألن بو حول أن شعر الثاني كان الصفعة الأكبر التي تتلقاها فكرة التقدم لغاية الآن. وقد حدث ذلك بيني وبين نفسي فقط.

بعد قراءتي لـ "الوصول إلى مدينة أين" تعرفت إلى سركون هاتفياً وبالمراسلة الكتابيَّة في 1987. ومنذ تواصلنا الأول أذهلني اتقاده، وحيويته، ومعرفته الموسوعية بالشعر الأمريكي وموهبته في تطويعها لصالح ذائقته الشعرية العربية، وقدرته غير العادية على التحاور مع التجارب الشعرية الجديدة للشباب وفهم قلقها واستياءآتها، وسخريته المريرة – هو الذي كان قد جاوز الأربعين من العمر – من "شِعر العواجيز"، و"المنقرضين"، و"الشعراء الفكاهيين" – والأخير تصنيف شامل جامع مانع يضم كل من لا يعجب شعره سركون بولص!. وعليَّ الآن قول ان سركون كان نافذتي الأرحب في الإطلال على الشعر الأمريكي.

على ان لقائي الأول المباشر بالراحل حدث في 1989، وهو لقاء يستحق الذكر بشيء من التفصيل لأسباب واعتبارات أتمنى أن تتضح وجاهتها عما قليل. كنت حينها أقيم وأدرس في مدينة سان دييغو. وقد زارني هناك الزميلان محمد الحارثي وحمد صالح المخيني، حيث قررنا القيام برحلة بالسيارة إلى مدينة سان فرانسيسكو لمشاهدة أطوادها الكبرى مثل خليج سان فرانسيسكو، وجسر البوَّابة الذهبيَّة، ومكتبة "أضواء المدينة"، ومكتبة جامعة كاليفورنيا في مدينة بيركلي المحاذية التي تتوفر بها فصلية متخصصة بابن عربي منشورة بعدة لغات في كل عدد، و..، و..، وطبعاً سركون بولص!.

وصلنا إلى هناك عند منتصف الليل تقريباً بعد رحلة متعبة بعض الشيء من أقصى شمال كاليفورنيا إلى أقصى جنوبها، وأخذنا نطوِّف في المدينة بحثاً عن فندق تسمح ميزانيتنا بالمبيت فيه، حتى انتهينا بعد طول بحث إلى نزل قال لنا موظف استقباله ان ليس لديه غرف شاغرة لتأجيرها، ولكن لديه قاعة مؤتمرات يمكن أن تتحول بسهولة إلى غرفة نوم مريحة يستطيع تأجيرها لنا بسعر معقول إذ ان الفندق غير مرتبط بحجوزات إقامة مؤتمرات أو عقد اجتماعات فيه خلال الثماني والأربعين ساعة القادمة. راقت لنا الفكرة خاصة وان القاعة كانت مريحة ونظيفة فعلاً وجيدة التأثيث، بل ان أسرَّتها مخبأة في الجدران كي لا تخدش عيون المؤتمرين حين يأتمرون (أو يتآمرون)، وكي يسحبها النزلاء حين يريدون أن يناموا (أو يأرقوا). المجد كل المجد للعقل الأمريكي البراغماتي!.

وفي الصباح المتأخر الذي كان لنا موعد مسبق في ظهيرته مع سركون، وحين أعدنا الأسرَّة إلى مهاجعها في تجاويف الجدران، اتضحت تفاصيل القاعة – التي شاهدناها بسرعة في انهاكنا الليلي الفائت -- أكثر كاشفة عن مكان مثالي لإقامة أمسية (أو أصبوحة، أو أُظهورة، أو أُعصورة، أو أُغبوشة أو ما شئتم من أوقات) شعرية يؤمها نحو عشرين شخصاً (وهذا عدد لا بأس به لكل من يحترم الشِّعر!). هكذا، إذاً، بادرنا إلى رسم خطتنا الشعرية الرهيبة والبدء في تنفيذها انتظاراً لموعد الظهيرة مع الشاعر؛ فأعدنا ترتيب المقاعد المتناثرة في القاعة وصففناها في خطين مستقمين يشكلان مكان الجمهور. وأزحنا المنصة الخشبية المتحركة لتقبع أمام ومقابل مقاعد الجمهور الشعري المُفتَرَض. ولإضفاء طابع سوريالي يليق حتماً بسركون بولص أعدنا سحب أحد الأسرَّة من جُحْرِه الجداريِّ وأرقدنا عليه ثُلَّةً من كؤوس الماء والعصير والنبيذ الفارغة في تشكيلات فنيَّة سلَّطنا عليها وعلى المنصَّة الخشبيَّة الأنوار المتحركة التي تحفل بها القاعة ممتازة التجهيز الضوئي. كذلك تلاعبنا باللوحات التي تزدان بها الجدران، فقلبنا بعضها رأساً على عقب. باختصار شديد: كان الترتيب الإخراجي والجمالي للمشهد سوريالياً وباذخاً ومنطوياً على تطويع واستعمال كافة العناصر المتاحة في القاعة جماليَّاً – لقد كانت تلك نسختنا المرتجلة، لكن البارعة أيضاً، من "البريكولاج". أليس هذا ما يفعله البشر في الأنثروبولوجيا والأفلام السينمائية الموسيقية؟!.

وعند الظهيرة رنَّ جرس الهاتف حاملاً معه صوت سركون: "لقد وصلت. أنا هنا في بهو الفندق!". "سأنزل لك حالاً. انتظرني!". ونزلت لأقابل الشاعر واحتضنه للمرة الأولى. "تعال معي إلى فوق لأقدِّم لك صاحبيَّ!". وصعدنا إلى حيث أعلم ولا يعلم سركون بولص ما ينتظره. طرقتُ باب القاعة طرقاً خفيفاً وانتظرت قليلاً قبل إدارة أُكرة الباب (كانت هذه هي الإشارة السريَّة التي اتفقت عليها مع محمد وحمد). وحين دخلنا كان حمد صالح واقفاً خلف المنصة وهو يقرأ مباشرة نصوصاً من مجموعة سركون "الوصول إلى مدينة أين"، بينما كان محمد يدخن باستغراق وهو يصيخ السمع لحمد غير عابىء على الإطلاق بدخول سركون ودخولي إلى القاعة في هذا المقلب الشعري. أما أنا، وتنفيذاً للخطة، فقد اتجهت بمجرد دخول المكان بخطى حثيثة، متخليَّاً بالكامل عن ضيفي الذي رافقته من بهو الفندق، إلى أحد مقاعد الحضور، تاركاً سركون وقد أسقط في يده عند الباب من الداخل. وحسب الاتفاق أيضاً، كان عليَّ أن أتظاهر بأني لست معنيَّاً بشعر سركون بولص، ولا بحمد صالح الذي يلقيه، ولا بمحمد الحارثي الذي يستمع إليه، بل سحبت لفافتي وأشعلتها وأخذت أحدق في سقف القاعة مختلساً النظر إلى سركون الواقف مُسَمَّراً وحائراً ومرتبكاً قبل أن يتقدم بطيئاً ومذهولاً ومستطيراً نحو أحد المقاعد بقربي. لم يكن أمامه بعد قليل سوى أن يهتف بما يشبه نفاذ الصبر او الاحساس بالوقوع في شراك خديعة بما معناه: "ما هذا؟!" أو "ما الذين تفعلونه بي أيها الأشقياء الذين أراهم جميعاً للمرة الأولى؟!". أما أنا فقد اكتفيت بهز كتفي بلامبالاة وبرود كمن يقول: "لا أدري"، أو "ليس لي علاقة بهذا الأمر"، أو "وما شأني وشأنك أصلاً حتى توجه إليَّ هذا السؤال أيها الأحمق؟!". وعند هذه اللحظة بالذات كان حمد صالح يُطَعِّمُ قراءته لأشعار سركون بادخال اسم الشاعر مباشرة في النصوص والتوجه إليه بصرياً وصوتياً بهذا النداء المتكرر: "يا سركون بولص!".

(2)

"يا سركون بولص!": إذ أتذكر في هذه الظهيرة هذا النداء في تلك الظهيرة قبل ثمانية عشر عاماً فإن كلمةً تترقرق في عظامي هنا في مسقط وهي تنحدر عبر القارَّات لتناديك في قبرك البعيد المُعَلَّق من هضاب كاليفورنيا مثل غيمة وثنيَّة.

(3)

..."يا سركون بولص!"...

عن "الوطن" العُمانية