سعدي يوسف
(العراق)

سعدي يوسفلا يمكن الكلام عن الماندولين ، إلاّ بلغة الماندولين . أعني أن اللغةَ المعروفة (أي التي نعرفُها)
ليست أداةً للكلام عن الماندولين . والسبب بسيطٌ (جداً ؟) … السبب أن ألـ ـ مـا ـ
نْــ ـ دو ـ لِــيْـ ـ نْ ، هي موســيقي . خشبٌ يُـنْـبِـتُ موسيقي .
لا تَـقُلْ لي رأساً إننـي مرتبكٌ أو مُتَلبِّكٌ … No , no, please ! . أنا بكامل هدوئي.

كنتُ في عدنٍ …
كنتُ خلّفتُ أرواحَ نجدٍ إلي يَــمَنٍ
كنتُ في عدنٍ
دَندَنَ العودُ : دانَــي ودانَي …
ومِـن حَضرموتَ الأغاني
وقد كنتُ في عدنٍ !

غريبٌ أمْرُكَ معي ! أقولُ لكَ إن قصّتي مع الماندولين حَقٌّ . بمعني أنها ليست كما تفهمُ أنتَ الشِعرَ .
أي أنني أتحدّثُ عن ماندولين حقيقيّــة ، من لوحٍ ودمٍ . ماندولين نائمة بارتخاءٍ في صــندوقٍ مبطّـنٍ بمخملٍ أزرق. أتستزيدني؟ حسناً ! أقولُ لكَ إنني ابتعتُها من شـابٍّ كان تدرَّبَ عليها ، في ألمانيا الديمقراطيّـة ، ثمّ هجرَها ، هنا ، إلي العود (لا مشكلَ في الأمرِ . فمن حقِّـه أن يعزف علي الآلةِ التي تُـطعمه خبزاً).

أَمّـا أنا فـطعامي أنتَ تعرفُهُ :
قلبُ الشِفَلّحِ
والحَلْفاءِ
أو ، تَـرَفاً ، رحيقُ ما أنبَتَ البُرديُّ والقصبُ …
كأننا ، الشعراءَ ، النَّـوءُ والسُّحُبُ !

الهامُّ ( مَـن يدري ؟ ) ، أن الشابّ قبِلَ ، بعد ترددٍ هيِّـنٍ ، أن يدرِّسَني الماندولينَ التي ابتعتُـها منه . الأجرُ علي قَدْرِ المشَقّة ( لم يقُلْ هو ذلك … ). كان يأتي في الضحى العدنيّ الرطبِ مبتسماً
دائماً . يفتح الصندوقَ ، ويُخرجُ الماندولين من نعاسها في المخمل الأزرق. ويقول لي : نبدأ …
نتدرّب علي :

آه ، يا زين ، آه يا زين …
آه ، يا زين العابدين
يا وردْ !
يا ورد مفتّح بين البساتين..

يعلِّــمني كيف أُمسِكُ بمثلّث البلاستيك الدقيق الذي يصل بيني وبين أوتار الماندولين ، مثل ما يصلُ الراهبُ بين الـمرءِ والله. أمضي معه ( طبعاً هي قصّــةُ أسابيعَ ، وإلاّ كيف ؟ ) …
أبلُــغُ : يا ورد …
يا أُمَّ الله المقدّسة !
وبعدَها كيف أمضي ؟
يا ورد / مْـفَـتْ / تَـحْ / بين / ال / بسا/ تين …

لكنني سأفِـرُّ من عدنٍ إلي البحر المهدَّدِ بالرصاصِ
سأتركُ البيتَ المعرَّضَ للقذائفِ، حيثُ أوراقي تَـطايَـرُ
في هواءِ السُّــمِّ والبارودِ …
خلَّفتُ الحقائبَ كلَّها ؛ وهــي الخفيفةُ . وارتقيتُ
السُّورَ مرتبكاً :
تركتُ الماندولين !

لندن 27/10/2004

******

تَـعْـشِـــيـقٌ

ليس بالمعني الدقيقِ، القولُ:
إنّ امرأتي (أعني فتاتي) هجرتني فجرَ هذا اليومِ...
حقّـاً ، خطفتْ ســروالَها والصُّـدْرةَ الصوفَ ، من الكرســيّ
ثمّ اندفعتْ ، مُـطْـبِـقةً باباً ، لكي تهبطَ كالبرقِ
علي الُّسَّلمِ...
كانَ المطرُ استجمَعَ ما يَـهوي به فوقَ الزجاجِ؛
الريحُ
لم تتركْ علي الأشجار إلاّ بضعَ أوراقٍ
كأن الأرض َ كانت، منذُ كانت، ورقاً مبلولاً ومبذولاً...
أقولُ : المرأةُ ـ القطّــةُ
حقــاً غادَرَتْـني ... وهي لم تعبأْ بما يعصفُ
لم تعبأْ بما لا يوصَفُ : الرعدِ ، وهذا الوابلِ الــمُـنْـهَــلِّ ...
والرجفةِ؛
طولَ الليلِ كانت طائراتٌ تَـعْـبـرُ الأعصابَ نحوَ البصرةِ .
الريحُ هديــرٌ مَــعـدِنـيٌّ
شــاحناتٌ هي إيكاروسُ ليليّــاً
ومَــعني القولِ ...
لم أعرفْ لماذا لم أقُلْ للمرأةِ : اسْــتَــأني رجاءً !
ولماذا لم أَقُــمْ من مضجعي أَتبَـعُــها ...
أنا شخصٌ ساذجٌ
في منتهي التهذيبِ ...
يشـــتدُّ هديرُ الطائراتِ
الريحُ لا تحملُ إلاّ الطائراتِ
الطائراتِ
الشاحناتِ الجُــنْــدَ في الليلِ إلي البصرةِ .
إن امرأتي أطبقتِ البابَ
لكي أُصغي إلي صمتي وحيداً ...

لندن 24/10/2004

السفير
2004/11/04