باسم الأنصار

نص

باسم الأنصار
(العراق/الدينمارك)

( لم أكن أنا الذي يكتب، وإنما كان يملى عليٌ .. )

ـ رامبو ـ

تمهيد

باسم الأنصارخرج إلى الحياة صدفة،
ودخل إلى مملكة الصمت،
فرأى الكلمات التي لم يرها من قبل .
تأمل ليعرف،
فقرر أن يكون أصغر
من ثقب الإبرة،
واكبر من الأهواء،
لذا دون الكلمات الملقاة عليه من
فم المجهول،
واختفى ..

* * * * *

( إعلم يابن آدم،
أن الوجود، عدم متعين ممزوج بالمجهول،
وان العدم، وجود مستتر ممزوج بالمجهول،
وان المجهول، شئ مجهول .
الوجود ليس إلها وإنما وجود،
والعدم ليس إلها وإنما عدم،
والمجهول ليس إلها وإنما مجهول .
للوجود صفات خاصة به لذا
صار وجودا على الرغم من امتزاجه بالعدم والمجهول .
وللعدم صفات خاصة به لذا
صار عدما على الرغم من امتزاجه بالوجود والمجهول .
وللمجهول صفات خاصة به لذا
صار مجهولا على الرغم من امتزاجه بالوجود والعدم .
لاحياة للوجود من دون العدم والمجهول،
ولاحياة للعدم من دون الوجود والمجهول،
ولاحياة للمجهول من دون الوجود والعدم .
حاصل جمع الوجود والعدم والمجهول
يساوي واحد .
وهذا الواحد أزلي ابدي .
يحيا بنظام دقيق ممزوج بالصدفة .
قد لايعي الإنسان والعالم،
بل انه قد لايعي نفسه ذاتها .
وربما يعي كل شئ .
العالم انبثق من الواحد بالصدفة .
والصدفة انبثقت من نظام هذا الواحد سهوا،
وربما لرغبة دفينة في أعماقه )

أطلال مكان مهجور منذ آلاف السنين . صمت هائل
يستبيح المكان، وينغرز في كل مسامات جدرانه،
أعمدته، تربته، سقوفه، أبوابه، ونوافذه المقضومة
بأنياب الزمن . ثمة ثقوب متناثرة في سقوف المكان
أهدت لجدائل الشمس، فرصة الدخول لتفاصيل
المكان بيسر .
كنت نابتا في سرة المكان لوحدي، وبصري يجول
في كل الأرجاء بإمعان . لم أفكر بالتحرك خطوة،
فالمكان سحرني بصمته وثرائه،
وحفز الأمنيات في أعماقي :
أمنية الغرق في الأسرار،
أمنية اللجوء إلى نكهة الزمن الرائح،
أمنية الوقوع على الغاز الأطلال المنحوتة بأدوات الراحلين
عن العالم .
الراحلون مجهولون .
ورغبتي في معرفة ذواتهم كانت بحجم السماء،
لذا لجأت إلى المكان .
فالمكان،
نص يحمل نزيف صانعه .
والنزيف،
رؤى الكائن الجمالي .
والرؤى،
حقيقة المجهول .
أذن فملامح المكان تجسد حضور الراحلين .

(على المرء ان لايسعى باتجاه الصانع لمعرفة ماهيته،
بل عليه التنقيب في طبقات منجزه البرانية والجوانية
ان أراد ذلك)

أمشي ببطء في المكان،
فالبطء، امتلاء وتأمل .
أتمعن في تفاصيله الثرية، أتفحصه بأناملي، ببصري،
بأنفي، وحتى بلساني، وأبذل قصارى جهدي لسماع
تأريخه، أو لسماع هسيس الصمت المطبق عليه .

(علينا ان نتخيل إحساس المرء وشعوره، حينما يكون
مقذوفا لوحده في وسط عالم مهجور غارق في الصمت .
الكلمات فقيرة، لا تمتلك القدرة على تجسيد الأحاسيس
كلها، لذا علينا اللجوء إلى الخيال أو إلى فرشاة الألوان
أو الموسيقى، أو الرموز والإيماءات لاكتشاف إحساس
المقذوف في وسط ذلك العالم المهجور)

استوعب ثراء الأطلال بأدواتي الحسية وأتلذذ به للحظات،
بيد أن التطامن لم يجد موطنا له في قلبي .
فثمة أشياء خفية، متوارية في باطن الأطلال، مازالت
تتزرع في أعماقي الرغبة / رغبتي في الكشف .
أعيد تفحص المكان بحواسي كالمرة السابقة،
أتلمس،
أبصر،
أشم،
وأتذوق،
ولكنني لم أنل المرتجى، فأصاب بخيبة أمل كبرى .
لاشئ جديد يثري الخيال أو يروي حلمي بالمعرفة .
المعطيات ذاتها التي ارتشفتها في محاولة الفهم الأولى
فالجأ إلى التأمل مفكرا في وسيلة أخرى، تعينني على
ارتشاف المسكوت عنه، وتساعدني على إزالة القلق
المستبد بي .
فأصمت من دون حراك،
وأصمت،
وأصمت،
وأغرق في الصمت،
إلى ان أتوحد معه كتوحد الصوفي بالذات المطلقة .
فينساب صوت مجهول، شفيف جدا إلى مسامعي،
رويدا رويدا، كان له وقع الندى في نفسي .
أتحرك كالمجنون متفحصا تجاعيد المكان بأناملي وبصري،
رغبة في الانتشاء، وفي أمساك اللحظة المنتظرة،
غير ان الصوت يهرب بلمح البصر عن مسامعي،
كمن يهرب من ظلال الغيلان هلعا .
تستبيح جيوش الارتباك مدني،
وتغزو رغبة الكشف، صحرائي تارة أخرى .
فمغريات الصوت ليست لها حدود، وكان لزاما علي
السعي باتجاه الظفر به والنيل من أسراره المستفزة .
أحس بالمبهم من الشعور،
وأفكر بالأمثل من سبل الاكتشاف،
فتستعمرني رغبة عارمة في ألانفصال عن المكان بصريا،
لاستدراج الصوت إلى عوالمي المتعطشة له .
الخشية لازمتني لإقدامي على هذا الانقطاع،
فالصوت قد يشعر بالإهمال مني، ويلوذ بالهرب .
ولكن اللذة كل اللذة في الإقدام على المغامرة،
وفي الخروج على الخوف المستبد .
أغمض عيني بوجل، والجأ إلى الصمت بهدوء اخرس،
وألوذ بأعماقه مجددا، فيتسمر جسدي من دون حراك
في وسط الأطلال، ويصبح كأحد أعمدتها الخالدة .
تمط السكينة عنقها، فأعانق جسد الحيطة والحذر .

(علينا ان ننظر إلى هذا المرأى من الأعلى
كآله يترقب لحظة غامضة .
فمرآى يضم جسدا ساكنا وأطلالا مهجورة
وصمتا هائلا، لابد أن يفجر المعنى المخبوء
في أعماق المكان)

وبتأن ممزوج برغبة الحضور إلى عوالمي،
يدنو الصوت المجهول الشفيف مني، فيستسلم قلبي
لارتعاشة مبهمة لم أدرك ماهيتها .
ربما هي ارتعاشة اللذة / لذة الحضور / حضور الصوت .
ينتابني شئ غامض، هادئ، صامت حد الصمت، ثم
يلفني ويلف المكان .
فجأة،
يلتقي الصوت، بظلام العينين .
فأحس بمتعة هائلة لا تعرف النهاية،
من المحتمل لتدفق الصوت بانسيابية الينابيع في دواخلي .
اشعر بوجود لغة سرية، خفية بيني وبين المكان .
لغة من الصعب وصفها أو الإمساك بها .
لذا اقرأها بتمهل وعمق، وأجرؤ على تسميتها بلغة الصمت .
اجل،
أظن انها لغة الصمت .
حينئذ،
أدرك ان لغة الصمت،
هي لغة الجسور الأثيرية الممتدة بيني وبين من يرتكب
النصوص / الأمكنة / العوالم .
لغة الحوار السري،
لغة الفضح والاكتشاف / اكتشاف أسرار الوجود المفروشة
إلى الأبد .

(الصامتون،
يمضغون الحكايا والأسرار والصمت :
حكايا الألم واللذة،
أسرار الغياب والحضور،
وصمتهم إزاء الأرض والسماء)

هناك،
وفي غمرة الاحتفاء بالصوت، يظهر نور متراقص
في مملكة الخيال، يضئ فسحة صغيرة منها .

( أذهب يابن آدم،
إلى بؤرة النور المبتغى)

لم أتوان عن التسلل إلى الفسحة بخفة العصافير .
أمد كفي إلى وتد الضوء، وأمسكه برفق، ثم أهدي
ساقي كمية لا باس بها من الحراك .
أقوم بتمزيق حجب الظلام المتكدسة من حولي بأشعة
الضوء، متجها نحو غاية لا يعرفها سواي ..
(أصنع يابن آدم،
خلاصك بيديك،
ودعك من انتظار لطف الآخرين عليك .
خلاصك بسعيك إلى الاكتشاف،
وليس بالانتظار) .

أغوص بمشعلي في قرارة الظلمة، وصدى الصوت
المجهول يظل يتردد في أذني . أرى بابا مغلقا،
لم أتردد عن السعي لفتحه، فأخنق مقبضه المصنوع
من الذهب وأحاول كشف ما خلفه من مجاهيل .
ينكشف لي مرآى محيرا ومطلسما شرح صدري .

بحيرة نار،
نهار يسبح فيها،
يخرج منها،
يجلس على الشاطئ،
ويرنو إلى الأفق :
ـ أيها الضوء لم أعد أرى ...

أشعر بأن ذلك ليس نهاية المطاف،
فالمجهول سيقودني إلى مجاهيل أخرى،
وكل باب أفض سره، سيدلني على قيامة من الأبواب
المغلقة . ولكن لاضير من محاولة أثبات الظنون .
أواصل المسير، فأرى بابا آخر،
أقتحمه بالطريقة ذاتها،
فأجد بابا مغلقا آخر،
أفتحه،
فأرى عدة أبواب مغلقة،
أفتحها،
فتتناسل الأبواب بغزارة ..
أتيقن بأن الأبواب المغلقة لانهاية لها .
أقرر من دون تردد مغادرة هذا العالم،
والعودة إليه كلما رغبت بفض بكارة المجاهيل،
والأسئلة .
أفتح جفني بهدوء، فأجد جسدي،
مازال قابعا في سرة أطلال المكان المهجور،
منذ ألاف السنين .

* * * * *

( أعلم يابن آدم،
أن العالم يسير من دون غاية،
يمشي من دون معنى .
العالم يمضي نحو اللاغاية،
ويمضي نحو اللامعنى .
اللاغاية،
غاية أيضا ولكنها من نوع آخر .
اللاغاية،
غايات متعددة وليست واحدة،
لذا هي لاغاية وغاية في الوقت ذاته .
غاية العالم،
فكرة الإنسان، تصوره وابنته .
قد تكون غاية العالم ذات معنى،
وقد تكون من دون معنى يتضمن المعنى .
بينما غاية الإنسان البحث عن نبتة المعنى .
لاضير من تصور غاية العالم،
ولكن الضير في جعل التصور يقين .
ان تكون للعالم غاية واحدة، ذلك يعني
ليس للإنسان حرية .
فتحديد الغاية يجعل العالم قدريا،
بينما حركة العالم ليست قدرية .
اللاغاية، تعني حدوث العالم بالصدفة،
غير ان الصدفة لاتعني العبث والفوضى .
ثمة دافع للصدفة، ولكن ذلك لايعني
بأن الدافع محدد .
الصدفة،
وسيلة الخالق لخلق العالم،
ولكن ذلك لايعني بالضرورة أن الخالق يعي العالم،
ولايعني العكس أيضا
وفي الحالتين لاوجود للغاية)

الجأ إلى الرصيف بعد منتصف الليل، أو بعد منتصف
الزمن، مدفوعا صوب اللاغاية، وهاربا من ثرثرة
الأسرة حول اليقين والمطلق :
يقينية الكلمة والفكرة، ومطلقية القيم والإنسان .
أتساء ل عن دوافع قرار الهروب من الأسرة وعلة ارتمائي
بأحضان الرصيف، فأدرك بأن ثرثرة الأسرة هي التي
اتخذت القرار، وذلك بدفعها لي لاتخاذ القرار وتنفيذه .
وأدرك ان لقائي بالرصيف كان من دون غاية أو قصدية .
فهل بمثل هذه الصدفة وجد العالم ؟
وهل هذا هو معنى اللاغاية ؟
أمشي على الرصيف ساهما، وبشئ من اللذة وكأن لي
مع الرصيف علاقة خفية لايعرفها سوى الليل .
فالرصيف،
وطن أعزل يحتضن غايات المارة السرية والعلنية،
ويلهم الأقدام رغبة التسكع .
الرصيف،
كتف الشارع الذي يحمل آهات الجوعى والمنبوذين،
وكلمات الرائحين والغادين .
بينما الليل،
ملجأ مجانين الشك والسؤال ،
والهاربين من أخلاق النهار،
والباحثين عن الغاية والمعنى .
فلجوئي إلى الرصيف والليل، ليس طارئا، وإنما لأنني
أنتمي إليه منذ القدم .
أواصل السير في الطرقات الفارغة ألا من خيمة الصمت،
واهبا الفضاء أغنياتي الذائبة كذوبان العمر،
فترتد أليٌ كزهور بعمر الزهور :

آه أيها الطائر،
كنت كمغن يصدح صوته الجميل،
لجمهور لا يود الاستماع إليه .
كصرخة مدوية في صحراء فارغة .
كشمس ترسل نورها لعالم يحب الليل فقط .
لا تحزن ياطائري الوحيد،
فأنا مازلت أراك واقفا
على تلك الشجرة المشرقة
أمام نافذتي،
على الرغم من رحيلك عنها
منذ زمن طويل،
طويل
جدا ..

امشي بمحاذاة الأشجار المرصوفة على كتف الرصيف،
وأهبها أنظاري الهادئة، فأكتشف بأنها مزوقة وملونة
بمختلف الثمار . أمد أناملي الناعمة أليها برقة خوفا عليها
من نحت الخدوش عليها، ثم اقطف أحدى أفكارها الصغيرة .
فالثمار،
أفكار الشجر .
والشجر،
أفكار الطبيعة .
أمضغها بهدوء وامتص مذاقها بتأن، فتنتشر في فمي
مرارة الأفكار .
ومن أين للأفكار حلاوة ؟
الأفكار المغلفة بالمرارة تنتج مرارة .
والأفكار المغلفة بالحلاوة تنتج مرارة أيضا .
أفتش بين الأغصان عن زمن العصافير المسفوحة وعن
أيام الطيور المتكلسة، فأرى غايات الإنسان وآلامه
تشتعل من دون هوادة . لم أفكر بإطفائها، لان ذلك يعد
خروجا على طبيعة العالم والإنسان .
لم أفكر لحظة بالحياة من دون الم أو غاية، غير إنني
أفكر بمضاجعة جسد الحياة الذي أمامي وليس الذي
نتخيله، وأسعى إلى غاية لاتحلق في السماء وإنما إلى
غاية تمشي على قدمين .
أطلق زفيري في الفضاء، فتطير على متنه أسراري
وغايتي في التطهر من رغبة البقاء في الحياة إلى الأبد .
أصبح أكثر إشراقا ولمعانا كلما اطرد عني الرغبات
والأمنيات الخالدة .
أكون أكثر خفة ورقة كلما أبعدت عن قاموسي مفردات
الأحلام والملذات الأبدية .
أرسل فراشة أحلامي إلى سماء العدم، فتذوب إلى حد
التلاشي، وتصبح جزءا من اللاشئ الخالد، الذي احلم
بالعيش فيه طوال حياتي .
أملأ صدري بهواء المعنى ذي المعاني الكثيرة، رافضا
الرضوخ لمعنى محددا وغاية واحدة للتاريخ .
فالتاريخ يملك غايات عديدة ومعان ليس لها حدود،
وله سلطة على الإنسان تحركه أحيانا حسب مايريد، مع
انه نتاج الإنسان ومن صنعه، فأراقب تاريخي من الأعلى،
مستخدما بصيرتي لمعرفة حركته واتجاهاته المرنة،
ولإزالة أدران التكلس عنه وكل ألوان الرضوخ لتاريخ
الآخرين المغلف بالتابوات والرؤى الجاهزة .
تتملكني رغبة قوية بإنهاء التسكع والجلوس على
الرصيف، لأراقب العالم من نقطة ثابتة، ربما
ستجعلني أمحو كل ما أنتجه رأسي من تصورات
ورؤى عنه . غير أنني سرعان ما أنسى غايتي،
بعدما سقط بصري على صور المجانين التي كانت
تزخرف وجه الرصيف وتهديه جمالا مغايرا لم يكن
الرصيف يحلم به من قبل .
فصور المجانين تتبرع بنعمة الحكمة لكل من يحتفظ بها
وتدون كلمة الشعر الأزلية في عقول العقلاء .
كثيرا ما نسي العقلاء بأن العالم قد خلق بجنون عاقل .
ألملم صور المجانين بأناملي المدماة، وأتفحصها مليا
فتسقط دمعتي اليتيمة على احدهم . تسيل دررهم
الملونة من رؤوسهم المشرقة بأحضاني، فأتلمسها
بحذر بأنامل جنوني، فأكتشف الاحجيات الأبدية .
تسبح درر المجانين في عيوني كزوارق ورقية مليئة
بصناديق مغلقة ..

مجنون،
حقول خضراء،
صندوق مغلق يقبع في وسط الحقول،
يفتح المجنون غطاء الصندوق،
فيرى بحرا لازورديا يغمر جسد عشتار،
وفصيلا من الملائكة يحلق حولها،
ويدلق مياه الشمس في عينيها .

أفتح بوابة قلبي وأدس الدرر في أدراجه السرية،
مفكرا بالعودة إليها كلما حاصرني العالم بنظامه
وعقله الحاد . ألتفت خلفي نحو الأشجار المرصوفة
على متن الرصيف، وألتقط أوراقها الخضر المتساقطة
تحت أغصانها الوارفة، وأقرأ كلمات النار المدونة عليها :

الورقة الأولى :
الغاية،
سجن يسرق حرية العالم .

الورقة الثانية :
اللاغاية،
صرخة العالم بوجه التابوات .

الورقة الثالثة :
المعنى،
روح الإنسان والعالم .

الورقة الرابعة :
اللامعنى،
معنى ابدي .

مجنونة هي المدونات الناطقة بالأسئلة الخبيثة، لأنها
تسعى إلى زحزحة اليقين الراسخ في العقول والقلوب .
ليس المهم ان تكون المدونات هذه صائبة، فهي أحيانا
تكون شطحات راء اعزل، فالمهم هو انها تقترح
المغاير الذي يبث القلق في النفوس المطمئنة .
أعصر الأوراق بكفي بما فيها من مدونات، فيتدفق
ماء مرتبك من أناملي، يطهرني برقة من ذنوبي،
المرتكبة منذ آلاف السنين :
ذنب البقاء في المدينة من دون راية،
ذنب أيامي البعيدة عن الصمت،
ذنب اللهاث خلف الفضيلة،
وذنب الابتعاد عن بحيرة الموسيقى .
يجد الماء سبيله تحت قبة الليل المسكون بالانتظار
ويتدحرج في الشوارع نحو البعيد من دون غاية،
وبعيدا عن رغبتي . أراه يتلألأ بضوء القمر المبتهج
بتمرده وانفصاله عني . يحفر أثره في ذاكرة المدينة
الضيقة، ومعلنا بقائه بها إلى الأبد ..
يجوب الأزقة والطرقات، كعاشق تائه يبحث عن
مملكة الحب، أو كهندوسي يتوق إلى الفراغ الكبير،
يدخل اقرب معبد مهجور، بعد ان ألقى اشمئزازه
منه بعيدا عنه . يشعر بالغربة في باطن المعبد،
فالمعابد لليقين، بينما هو رمز الشك والاحتمال .
يفتش عن كتب المعبد المقدسة . يعثر عليها مبتهجا
ويصنع منها طيورا ورقية مهداة إلى السماء .
يرتقي أعلى منابر المعبد، ويطالب عبر مكبرات
الصوت، العالم الغافي في دهاليز اليقين :
ان يتوجه إلى طفولته الميتة،
ان يغادر طقوسه المهينة،
أن يتوجه إلى محاريب القطيعة والخروج،
أن يصبح خبيثا متمردا على الغاية والمعنى .
تنهال عليه حمم الوحوش الكاسرة من كل حدب
وصوب، فتطفئه بنيرانها، غير انها لم تستطع
إطفاء خطاه المحفورة في ذاكرة المدينة .

* * * * *

( إعلم يابن آدم،
أن الإنسان فكرة،
لكنه لم يقرر ان يكون فكرة،
وهو لم يمتلك الحرية في اتخاذ القرار
ليكون فكرة،
مع أنه يمتلك الإمكانية
على صياغة السؤال،
التي تعبر عن انه كائن مفكر .
أن كون الإنسان فكرة،
لايعني بالضرورة انه منتج
من قبل كائن مفكر .
مثلما لايعني انه لم ينتج
من قبل كائن مفكر .
أفكار الإنسان غير قادرة على التفكير،
بالرغم من كمون السؤال فيها .
ذلك لأنها خالية من الحرية
هو الذي يفكر بها مجددا
لينتج منها فكرة أخرى .
الأفكار،
تسرق براءة الإنسان،
مع أنها هي التي جعلته إنسانا .
الأفكار،
صرخة الإنسان بوجه العالم،
رغبة الإنسان في الحرية .
في البدء،
كانت الطبيعة فعل،
والإنسان رد فعل .
الآن،
الإنسان فعل،
والطبيعة رد فعل .
الإنسان ابن الطبيعة .
الإنسان ورث الزلازل والهدوء من الطبيعة .
الإنسان ابن مفكر لأم غير مفكرة .
ربما تكون الطبيعة مفكرة،
ولكن تفكيرها يكون من نوع آخر .
الإنسان، كائن مستيقظ .
والطبيعة، كائن نائم .
الإنسان، نص حر .
والطبيعة، نص مقيد)

احمل حقائب الرحيل، وأسير في أحدى الدروب
الذاهبة إلى الحياة برحلة كرحلة الإنسان المنطلقة
من يقظة المهد إلى نوم اللحود .
الرحلة،
شجرة لبلاب ممتدة على جدران الاكتشاف .
الرحلة،
افتراق ولقاء،
غياب وحضور .
للرحلة، عطر الأشجار المخلوط بالعوالم الجديدة،
رائحة الغربة المبللة بالدهشة،
نكهة الحرية،
ونشوة الخطيئة الأولى .
آدم زعيمنا في ارتكاب السؤال،
رائدنا في الخروج على الله،
دليلنا في درب الجحيم .
أجوب الصحارى والمدن، الجبال والسهول،
البحار والأنهار، الحقول والوديان، بينما صوت
الرحلة يبقى منطلقا في داخلي معلنا عن مغادرته
لكل المحطات المليئة بملائكة اليقين .
أرى الصحراء كسجادة جرداء،
وارى الجبال كرغبات ساخرة،
والسهل كلسان،
والبحر كشيخ ينطق بالأسرار،
والنهر كشاهد اخرس،
والحقل كامرأة،
والوادي كوليمة دائمة للجبال .
أفكر بالدهشة والإشراق في رحلتي، وأتأمل في
عمق ما أصادفه وفي جذور الأشياء ولا اكتفي بالظاهر
منها حتى وان كان أخاذا .
أنا مدينة لا يخدعها حصان طروادة .
آه من روحي التواقة إلى دهاليز الجواب، لقد جبلت
على عذاب السفر والترحال في عوالم الوجود والعدم .

(إعلم يابن آدم،
في مرحلة الجنين يرث الإنسان جراثيم السؤال
والقلق، وفي مرحلة الولادة تتضخم هذه الجراثيم
وفي مرحلة الطفولة يرث الأفكار، فتتلوث براءته
بها، وفي مرحلة النضج يسعى إلى المعرفة لطرد
الأفكار التي تخنقه ويبقي على الأفكار التي تبث
الديمومة فيه، غير انه في مرحلة الشيخوخة يحاول
ان يتخلى عن كل الأفكار رغبة منه للعودة إلى
براءته النقية)

نبتة،
ماء،
أيادي كثيرة .
تقوم الأيادي بصب الماء
على النبتة من كل صوب،
فتموت .

أجلس في إحدى الطرقات البعيدة عن المدن كمومياء
شهد كل القرون الغابرة، من خلل ثقب الموت .
تلك القرون التي انتصرت فيها الطاعة على العصيان،
الجواب على السؤال،
اليقين على الشك،
والمألوف على المختلف .
غير ان المهزوم في هذه المنازلات مازال نهرا في
ذاكرة التاريخ، ومازال فرسا ربيعيا يعدو في البراري
الفسيحة، وصوته مازال لايعرف الخريف .
المهزوم يولد غريبا ويحيا منبوذا ويموت وحيدا،
غير ان ذكراه تنتشر كالضوء في العالم بعد رحيله .
فيالهناءتي بك،
وبصوتك المأخوذ من حنجرة الله .
أتطلع في وجوه الأشياء التي تمر بي كمن يبحث
عن ضالته أو توأمه في الانكسارات والهزائم .
أشاهد الكثير منها صائم عن الصمت رغبة بالثرثرة،
والقليل منها صائم عن الكلام رغبة بالرقص والغناء،
فأتأكد بأنني لست لوحدي .
الكلام من دون سؤال كإناء مثقوب، فلماذا الثرثرة ؟!
أرى في البعيد طاحونة هواء عملاقة، ترسم بهوائها
على صفحة الفضاء، صرختها بوجوه الملائكة والأخلاق .
أتمتم في سري :
الأخلاق،
خطيئة البشرية .
الأخلاق،
ثياب بالية ترتديها الأجساد القذرة .
الأخلاق،
لغة الأقوياء المفروضة على الضعفاء .
الأخلاق ابنة الإنسان والتاريخ، لذا هي متغيرة .
الإنسان،
ماكنة تصنع الجمال بقدر ماتصنع الخراب لنفسها .
الإنسان،
رغبة في الحرية مثلما هو رغبة في العبودية .

(إعلم يابن آدم،
السيادة تحمل بذرة العبودية .
السيادة رغبة وليست حاجة، مثلما
العبودية رغبة وليست حاجة .
العبد يحمل رغبته بالعبودية، خوفا من الحرية .
ويحمل رغبته بالحرية، حبا بالدهشة .
الحرية، فطرة ملوثة بالفكرة .
الحرية، حاجة ورغبة في آن واحد .
الحرية، حاجة منسية لدى البعض .
الحرية، نار مقدسة معروضة للسرقة .
الحرية، بحر وحشي متلاطم الأمواج،
السباحة فيه ممكنة وليست مستحيلة،
بيد أنها سباحة مجنونة)

أستمر في التحديق بطاحونة الهواء، فأراها مشغولة
بخلق النسيم للكائنات العاشقة لكل ماهو مغاير ومخالف .
النسيم،
رئة الكلمة الخبيثة المنبثقة من أفواه المجانين .
فهل للنسيم من غاية ؟
أشعر بأن طاحونة الهواء تهرس ضحاياها في
أحشائها من اجل ان تستمر في الحياة .
آه،
أتذكر حبيبتي كلما رأيت الطواحين .
فالطاحونة،
امرأة تنتظر حبيبها الغائب في أودية المعنى منذ
سنين طويلة :

حبيبتي لاتكوني فراشة،
أخشى عليك من ضوء
كلماتي .
حياتك،
زهرة نابتة في فم
تمساح .
الماء الذي تريديه
لن تجديه !
ألا يكفي انك تنامين
بأحضان الهواء ؟!
سنسافر معا إلى
بيوت الموسيقى
ربما سنصادف النغمات
التي أكلتها الديناصورات
قبل قرون وقرون،
أو سنغادر إلى الجبال
المؤدية إلى وادي
أول كلمة في التاريخ ..

أحمل وجهي صوب الأفق، فأراه ملطخا بالضوء .
كان الضوء يومئ للزهور بمسرة،
يومض للحقول،
يتلألأ للأنهار،
ويرسل نهاراته إليها، بيد أنه في الوقت ذاته،
كان يرسل الحيرة إلي .
أرى رحلات بيض كثيرة تمر أمامي،
كانت تسير واثقة وبانتظام،
بينما رحلتي كانت ممعنة بالوحدة والحيرة .
وهذا كان مدعاة إلى ان أقيم احتفالا خاصا
لأحبتنا الشياطين فقط .

(الشيطان مختلف، والملاك مألوف .
الشيطان عصيان، والملاك طاعة .
الشيطان شك، والملاك يقين .
الشيطان سؤال، والملاك جواب)

وما أن أودع الشياطين الأحبة، حتى
أهبط إلى أحد المنخفضات الدافئة .
أجد نبتة المعنى،
أقطفها، وامضغها بنهم هائل،
وحينذاك،
أصاب بداء الضوء .

* * * * *

(إعلم يابن آدم،
أن الموت، فجر الأبدية .
أبدية اللاحياة واللاموت،
أبدية الخروج إلى المجهول،
أبدية المختلف اللامسمى،
أبدية لامسماة .
الموت،
خروج من الحياة،
وخروج من الموت نفسه .
الموت،
كالخروج من غرفة محاطة بالفراغ .
الموت تشتت وبقاء،
تشتت الروح والجسد،
وبقاء المجهول المستتر في الروح والجسد .
الموت، جسر بين الحياة والمجهول .
الموت، غربة / غربة الإنسان عن نفسه المعروفة
في الحياة .
الموت، لقاء الإنسان مع نفسه المجهولة في المجهول .
الموت، تجعل الإنسان آخر بعد ان كان ذاتا،
ولكن هذا الآخر يدرك الذات لأنه كان يعيش في أعماقها
في الحياة) .

الكوخ،
محراب قديم يحوي دفء الثلوج وصقيع النار،
يسربل الكلمات الغامضة في أوردة الروح،
ويمنحها قدرة الكشف،
والنشوة .
لذا،
آثرت البقاء فيه وحيدا،
قريبا من الحطب والنار .
للحطب، نكهة العصور الغابرة .
وللنار، مذاق الابتهالات المقدسة .
ألقي قطع الحطب الواحدة تلو الأخرى،
في موقد النار،
كمن يلقي تأملا مشتعلا بالأسرار،
في فم المجهول .
إلقاء يحفظ نكهة الشجر /
شجر الغابات المليئة بالطواطم المبجلة .
ويحفظ رائحة النار الغامضة،
نار الكائنات المنذورة للحكمة واللذة .
احمل وجهي صوب النافذة، فأشاهد
الليل الملفوف بالشتاء ينصت لتهجدات القديسين،
القادمة من البعيد :
قديسو الكلمة المتمردة على الموت،
وقديسو الرحلة العاشقة للموت،
فأدرك بأنها ليلة الخروج إلى المعنى .
أجلس قرب الموقد على كرسي هزاز،
أعتاد على هز أيامي السابحة بالسؤال،
فيشرق السؤال مني،
ويسيح على الكرسي بهدوء جم،
متجها صوب النار،
فيذوب بموجاته الشفيفة،
ويصير عنقاء .
أحس بأن النار تدعوني
إلى الانصهار بها،
كلما أدس بصري في موقدها .
أشعر أن ثمة فما يناديني،
ويدا تومئ لي من جسدها،
كلما غرقت بتأملها .
النار،
جحيم مترع باللذة .
النار،
شيطان طاهر .
النار،
فردوس مبجل،
وهذا وحده مدعاة لإرسال
روحي لها كقربان أتوسل به لهيبها .
فتغرق روحي بها،
تغرق،
تغرق،
وتغرق إلى ان أمسك اللحظة المرتجاة .

كوخ صغير،
برد شديد يلف عنق الكوخ،
ثمة امرأة عجوز تجلس فيه،
قبالة موقد نار ،
كانت تعلم حفيدها،
كيف يلقي سنواته القادمة في
فم النار .

أفارق الكرسي الملطخ بالدهشة /
دهشة موسيقى النار .
فالنار تمتلك إيقاعا أكثر صخبا من الحياة،
على الرغم من صمتها الداعي للحذر .
أحذروا النار،
لأنها تصيب المرء بمس من الواقع،
ان لم يعزف على أوتارها بجنون .
أتجول في المكان ذهابا وأيابا،
مفكرا بأسرار النار والثلج،
الحياة والموت،
الوجود والعدم،
الخلود والأبدية،
فالجلوس أمام موقد النار يجعل المرء
كاهنا قادما من أقرب مجرة للإله،
ويرميه في فضاء الكتابة المنفلتة /
كتابة موته الأول والأخير .
الموت، رجل الحياة الزائل .
لذا سأضاجع الحياة بعبث، انتقاما منه .

(إعلم يابن آدم
ثمة موت آخر في كنف الحياة .
انه موت السؤال،
موت الحماقة،
موت المعنى،
وموت الله )

أدنو من نافذة المنزل التي لم تعد تصلح
للانتظار والترقب، لأنني لم أرد ذلك .
فنافذتي نذرت للثلوج والأمطار والشمس .
الثلوج،
لسعة السماء النافرة .
والأمطار،
دموع السماء على مصائرنا المجهولة .
والشمس،
شمس من دون لغة .

(إذهب إلى البراكين .
أسبح بمائها الندي،
ولكن لاتظن بأنك ستخرج منها خال من العفاريت .
للخطوات الواسعة، رهبة .
وللكلمات المائية، ضوء قمر .
الطرقات ملآى بالحجارة
والذكريات .
المدينة ملآى بالأفاعي الأسنة،
كنا نداعبها في طفولتنا .
نحمل الحجارة ونقذفها في الهواء .
ننتظر أن تصبح طائرات ورقية،
لكي نلهث خلفها كالمجانين .
كنت تود معرفة حدود الممكن،
فأنت عاشق الأمطار .
الأمطار التي لاتزيل الغبار
لاتستحق الانتظار .
فأصبر،
فذات يوم سينزل المطر
من فمك)

أرى الثلوج المتساقطة تغطي كل شئ،
الثلوج تسقط،
تسقط،
تسقط،

(فعلى الرغم من أن الثلوج تعيش
في السماء دوما،
ألا انها في النهاية،
تموت على الأرض)

الثلوج تسقط،
تسقط،
تسقط وتغطي شجرتي البلورية
وتخفيها عن الأنظار،
ألا ان الشجرة تبقى واقفة في
رأسي .

(الثلوج،
نحلة تلسع وتموت .
الثلوج،
كبش فداء السماء للبشرية .
الثلوج،
نار بيضاء)

أمعن النظر بالثلوج من خلل النافذة .
اشعر برغبة قوية في البكاء .

آه
من تلك النار البيضاء،
تلسعني ببرودتها،
كلما فكرت
بالموت .

السماء لاتريد لنا الموت، خوفا من الفضيحة /
فضيحة اكتشاف حقيقتها بعد الموت،
ولكي نعرفها يجب أن نكتشف الحياة .
الاكتشاف، يفتح لنا الباب الموصد بيننا وبين السماء .
لذا قررت مغادرة المنزل،
والبحث عن المخفي في العالم .

* * * * *

(إعلم يابن آدم،
أن قيمة الحياة تكمن في السؤال،
وليس في الجواب .
فكل شئ معرض للموت إلا السؤال .
السؤال قلق، والجواب طمأنينة .
السؤال تحول، والجواب ثبات .
السؤال حياة، والجواب موت .
السؤال شك، والجواب يقين .
فأمش يابن ادم،
في درب الشك، ولاتكن خائفا .
فالخلاص من الخوف،
يأتيك حينما تتطهر من الرغبة /
رغبة الحصول على المآرب .
المآرب ستخلق لديك الرغبة في
الخلاص .
لاتفكر بالخلاص .
مم الخلاص ؟
سر في درب الروح ،
وانحت تمثالك بنفسك لنفسك،
فذلك سيجذب الآخر إليك .
لاتسع إلى الآخر، فأنك ستصله
حينما تكن مع نفسك .
أحذر، فالآخر سم قاتل
أن سعيت أليه .
أسع إلى روحك فسترى الآخر .
فأنت هو الآخر،
والآخر هو أنت،
ولكن إذا وسعت ذاتك على مقاس الآخر،
أو إذا فتحت أبواب ذاتك للآخر ) .

أخرج بعيدا عن منازل القوم وجحورهم الصغيرة .
اذهب إلى حيث الصحراء الملقاة حولنا . أغذ السير
تحت لهيب الشمس صوب مملكة العزلة .
فالعزلة تطلق العنان للخيال .
والخيال، درب الوحيد إلى العالم،
ونافذة العقلاء على الجنون .
أبحث عن واحة أستظل بظلال أشجارها الوارفة،
لكي أطلق العنان لرأسي الذي يصرخ بالرغبة،
تلك الرغبة التي لم أجد دربا يؤدي إليها .
رغبة غير مسماة .
ربما لأنني أخشى اللجوء إلى تسمية رغباتي العديدة .
أنا أرغب إلى مالانهاية، واللغة قاصرة على ابتكار
أسماء الرغبات . أرغب إلى مالانهاية، ولكن الرغبات
المؤقتة فقط . لا ارغب بالرغبات الدائمة، لأنها قاتلة .
أرى تلة صغيرة تقع بالقرب منها مجموعة شجيرات،
أدنو منها واحتمي بظلها . اجلس هناك بصمت وهدوء .
ادع بصري يحلق في الفضاء الفسيح، واترك مخيلتي
تفارق المكان، وتطوف في آفاق السؤال . أيقن بأن الآفاق
المفتوحة، حاضنة الوحي .
الوحي، سرقة عظمى ينير طريق الخلاص
للمكبلين بالخوف .
الوحي مسروق من فم المجهول، وليس هدية منه .
المجهول يعطي الوحي ولكن بعد ان يستفزه المتأملون .
المتأملون، يقترحون السؤال وليس الجواب،
وان طرحوا الجواب فبالظنون .
فالعالم،
نص لايمكن فك شفراته كلها .
ولايمكن الإجابة على أسئلته كلها باليقين .
المتأملون يعشقون الحياة، ولايدعون إلى الموت .
لان من يؤمن بالموت لايحترم الحياة .

ناقة من ذهب،
واحة صغيرة محاطة بأشجار
من ماس .
تقترب الناقة من الواحة،
وتشرب من مائها .
فتتحول إلى شك .

أغادر الشجيرات وافياءها، حاملا معي
معاول الشك بحثا عن أصنام اليقين .
أتوجه إلى اقرب كهف .
الكهف، بحاجة إلى :
كف يحب الاكتشاف،
شمعة قليلة الإنارة،
ذهن أصفى من ماء الزلال،
وقلب أوسع من الكون يحمل السؤال والشك .
الكهف، أرشيفنا الذي لاتمحوه أعاصير النبوءات
الكاذبة، وأسحار الكهنة المعمدة بالسذاجة والغباء .
في الكهف، أنين الأسئلة الأولى وأرواح الأولين
الحالمين بالخلود / الخلود المبتكر من قبل مخيلة
البدائيين وأحلامهم .
فنوم الأولين، خلق الخلود الهش .
النوم خلق الحلم،
والحلم خلق الوهم / وهم بقاء الروح بعد انطفائها وبعد
تواري الجسد عن الأنظار إلى الأبد .
خطيئة الأولين، ليست بأسئلتهم الخالدة،
وإنما بتصوراتهم التي كدست قيامة من الحواجز
أمام الإنسان ومنعته من الانطلاق في فضاء الحرية
الرحب الخالي من الأوهام
والخرافات .
لا ادري، لماذا ينتابني مثل هذا الإحساس كلما لجأت إلى
صمت الكهوف، حيث الظلام الدامس المحيط بشمعتي
الصغيرة ؟! .. ربما هي لعنة السؤال الممزوج بالقلق .
ولجوئي إلى الكهف، هو للاكتشاف / اكتشاف ذاتي،
وليس لرغبة أخرى .

(الرغبات تزرع الألم في القلب .
تخلق العناء والشقاء،
تفرض غاية عليك تحقيقها بشتى السبل .
تحقيق الرغبة لايكون بخلقها،
ومن ثم السعي إليها بغباء .
الرغبة تتحقق بانجازها في إطار الذات،
بممارسة الحياة كما هي، ولكن إذا كانت مشفوعة
بالتأمل .
وهذا لن يتحقق من دون اللجوء إلى لغة الجمال .
لارغبة، لاغاية، ولاحلم .
ممارسة الحياة كما هي وبجنون، سيلقي علينا ثمار
الرغبات والغايات والأحلام تلقائيا .
انها دعوة إلى الحياة من دون عناء)

كثيرا ما كنت أرسل بصري إلى الآفاق البعيدة من فتحة
الكهف، كلما فارقني نور الروح، أو كلما فشل الصمت
الممزوج بظلام الكهف وضوء الشمعة الصغيرة،
بإضاءة درب الروح .
مع أن الشمعة، سهم في قلب الظلام،
درب الضياء الأبدي،
وبداية كل البدايات .
للشمعة، روح الحيرة،
نفحة الروح،
ونكهة السحر .
تسحرني رقصة النار حتى وان كانت صغيرة،
كنار الشموع .
رقصة النار تداعب طفولتي المنسية في أرشيف
حياتي،
وتخلق المسرة الغامضة في قلبي،
وهذا هو سرها .
أنظر للآفاق البعيدة بشغف يفارق الريبة .
فالآفاق، واسعة، فسيحة، وبلا حدود .
أتذكر بأنها اشتراطات المكان التي تعطي إمكانية
الكشف للرهبان .
فالأفق الفسيح، يفتق الذهن،
ويزهر القلب بورود اللذة .
غير ان الكهف تلك الليلة كان بخيلا معي في استفزاز
غيوم التأمل ودفعها إلى إلقاء المطر علي لإرواء خلجاتي
البائرة لحظتئذ .

أذهب إلى البراكين .
أسبح في مائها المشتعل باللذة،
ولكن لاتظن بأنك ستخرج منها
خال من العفاريت .
للخطوات الواسعة، رهبة .
وللكلمات المائية، ضوء قمر .
الطرقات ملآى بالحجارة،
والذكريات .
كنا نداعبها في طفولتنا،
ونحمل أحجارها ونقذفها في الهواء .
ننتظر ان تصبح طائرات ورقية .
نستطيع اللهاث خلفها كالمجانين .
كنت تود معرفة حدود الممكن،
فأنت عاشق الأمطار الشهير .
ولكن تذكر،
أن الأمطار التي لاتزيل الغبار،
لاتستحق الانتظار .
فأصبر،
فذات يوم سينزل المطر
من فمك ..

خيمت سحب الحزن في سمائي،
وأمطرتني ببرد السأم والضجر،
وجعلتني أفكر بمغادرة عزلتي والانضمام إلى
ضجيج وصخب العالم مجددا . ولم لا ؟
فكثيرا ما كان الضياع في أروقة العالم الأرضي
معينا جبارا لي ولصمتي .
فأنا أبن الحياة واللذة الحسية، ولم أكن غريبا
يوما ما عنها، إلا في لحظات خلوتي في جنة العزلة .
أغادر المكان ، متوجها إلى حانة قديمة، تعج بالنشوة
والمرح الجنوني .
أرى امرأة بجمال الفجر،
تجلس على إحدى الطاولات لوحدها،
وأشاهد كأسا مليئا بخمر الشمس،
مخنوقا بكفها .
كانت المرأة موشحة بثياب السكينة والغياب المؤقت،
بفعل الخمرة الممسوسة بالسحر .
لحظات، ثم تنهض من كرسيها متجهة إلى الخارج،
ولكن بعد ان ألقت خمر الشمس بوجوه الحاضرين الاي،
أرسلت بصري إلى طاولتها،
فرأيت عليها،
ألف سؤال وسؤال ..
تنطلق صعادات الفرح في خارج الحانة،
وترسم طواويسا من نور في السماء .
لم تكن الصعادات تحمل لذة الفرح، بقدر ماكانت تعلن
عن الخوف .
أشاهد عبر نافذة الحانة، أطفالا يرسمون أحلامهم،
تحت هذا الخوف، وارى عصافير صغيرة،
تفترش أرصفة الحياة،
تبيع حماقاتها إلى أكلة لحوم البشر :
ـ خذوا هذه الحماقات، فأنها تطهر الدماء ..

هذه الغيلان الملفوفة بالسواد،
تطلق القبور من أفواهها إلى
جسد النهار ..
حبيبتي تمشي بكل رشاقة بين القبور،
ترسم طيورا قادرة على بث الحياة،
في القبور من جديد .

أطلب من مغني الحانة، ان يغني أغنية الضياع،
فالغناء، لغة الضياع الجميلة .
أرقص رقصة طفولية . ألهو كالفتيان . وأشرب
كقبطان رأى كل شئ،
ثم اخرج من الحانة كليل مشع
يحمل المجاهيل في خلجاته الملغزة .

* * * * *

(أنظر يابن آدم،
إلى قلبك وسترى العالم
من نوافذه .
أذهب إلى القلب،
وعش في نوره الساطع،
فأنه سيرسم لك حقول الأبدية .
أعلم يابن آدم،
أن نور القلب هو فكر العقل،
هو نافذتك على المجهول،
روح الجمال،
قلب الروح،
سر الوجود،
وباب الغياب .
الغياب متعدد الوجوه،
فثمة غياب الوعي في اللاوعي،
وهذا غياب الكهنة والشعراء،
وهناك غياب الجسد في الأمكنة البعيدة،
وهو غياب المنفيين والغرباء عن أوطانهم،
وكذلك هناك غياب الروح في المجهول،
وهو غياب البشرية كلها،
وثمة غياب العقل في الحضيض،
وهو غياب الممسوخين والسلاطين)

أفكر بالدخول لأعماق الغابة، بحثا عن المعنى والمجهول .
فكثيرا ما سمعت بأن الدخول إلى أحشاء الغابات، يلهم
الروح قدرة الخلق، ويصبغها بندى الأسئلة حول العتمة .
فالغابات،
شموس مظلمة تستحق الارتماء تحت ظلالها،
وتستأهل حكايا الأمهات والأجداد التي تخبرنا عن أسلافنا
الغائبين في أفواه التنانين الساهرة على حراسة قصور
السلطان .
ذات يوم توسلت بأمي لتسرد أسطورة الغياب :

ـ أي ياولدي، كان ياما كان في قديم الزمان ،
كان احد أجدادنا الخالين من الغبار، يعشق الخلود بجنون،
فخرج ذات مساء، من مدينتنا ودخل أروقة الغياب،
بعدما أخبره احدهم بأن الذي لن يجد التأريخ في النور،
فعليه البحث عنه في الظلام .
وبعدما دخل هناك،
رأى على جدرانها الذهبية عبارة مكتوبة بالدم :
(اللجوء إلى القلب،
أفضل وسيلة للدخول إلى عالم الأسرار )
وما أن خرج من هناك، حتى ألتهمه تنين بحجم الجبل،
خوفا من الفضيحة ..

أمشي في طرقات الغابة المعبدة بالألغاز، مدفوعا
بهواء التأني، ومغمورا بشمس النهار، بينما ريح
المسافات الخضراء كانت تداعبني برقة . أشعر بوجود
أغنية ندية تنام في صدري، كطير يقف على غصن
الحياة، فأطلق لها العنان من فمي، فترقص الكثير من
طيور الماء في فضاء الغابة طربا .
الأغاني،
سر الروح التائقة إلى الخلود،
تحمل القلب على كف الموسيقى، وتلقيه في الضفة
الأخرى من المجهول، فيصبح القلب، قلبا ليس كالقلوب .

أنظر إلى جذوع الأشجار الطويلة، الشبيهة بنساء امازونيات
نذرن أعمارهن للوفاء بعهودهن المباركة في وضع جزيرتهن
في أحداقهن .
فأرى على جذوع الأشجار :
كلمات الغائبين والمنتظرين،
كلمات العاشقين والمفقودين،
محفورة على الجذوع، بأظفار الأمل النازح من
عيون المنتظرين .
فعلى جمرات الارتباك كان يقف المنتظرون،
بانتظار الجواب الذي أذاقهم مرارة الهزيمة .

خذي حبة السنين،
وأرمها في دربك الذاوي .
الصلاة لم تكن للراحلين إلى
بركان الصباح .
أتتذكرين جار القمر ؟
أتتذكرين نهر الشمس ؟
أتتذكرين لحن الايام المقضية بالقلق ؟
أتتذكرين ؟
أتتذكرين ؟
أحمر،
احمرار الرحيل نهرك الفيروزي .
أبيض،
بياض الليل زمنك النائح على الكلمة الذبيحة .
أخضر،
اخضرار القلب نارك العميقة .
أسود،
سواد النهار سموم الصحراء المحاطة بك .
فلم كل هذا الغياب ؟!
الهناك ليس مختلفا عني،
فأنا الهناك، والهناك أنا .
أريتك وجهه الدافئ،
في قلبي المسكون بالأخطاء،
أخبرتك، بأننا سنرحل معا،
فلم كل هذا الغياب ؟!
لهفة الخروج إلى المجهول ؟
رغبة مغادرة الأرض الملطخة بالهزيمة ؟
لذة اكتشاف مالايأتي ؟
أفكر بالرحيل،
ولكن ليس قبل أن
أغرس شجرتي الوحيدة
في شتى أنحاء العالم .
الذاكرة لن تخون،
ونحن ذاكرة السماء الأبدية،
بينما ذاكرتنا،
هي ذاكرة الشجر .
فلم كل هذا الغياب ؟!
سأرحل إلى الجزر الغارقة بالآلهة،
سأقرأ كتب الماء المدونة بالنار،
سأنام على الغيوم المترعة بالشهوة،
سأغني أغنية الصبا في بهاء الوادي،
ولكن قبل أن أبحر أبحاري الأبدي،
أليك،
ألي،
إلى الهنااااااااااك ....

أسمع موسيقى الطبيعة الخفية، ملهمة الصم والبكم
المصابين بداء الغناء والموسيقى، فترتعش رغبة
الرقص في قلبي، وتحفزني للمضي قدما في أعماق
الغابة كبوذي يبحث عن شجرة يحتمي بظلها، لتستفز
لديه رغبة الوصول إلى اللارغبة المدهشة .
فالدهشة، كل الدهشة باجتياز جدران اللحظات المنتظرة .
لاتنتظر، فالدهشة تقبع بعدم انتظار أحلام الأبدية .
الدهشة، برفض المكتسبات الدائمة،
وبارتقاء قمة لحظات الآن بعبث .
لم تكن الدهشة يوما من معطيات الرغبات، وإنما هي
من تجليات النور القابع في أعماق القلب .

بركة ماء غطاها الربيع،
زنبقة صغيرة تتوسط البركة،
إوزة بلون الحليب تسبح لوحدها فيها،
كانت متجهة نحو الزنبقة بحذر،
تدنو منها، ثم تلتهمها بكل عنفوانها،
حينئذ،
سمعت الإوزة تنطق بالحضور
والغياب .

أهدي ساقي للهواء، وأخرج من الغابة أكثر جنونا
من العقلاء .
فجأة !!
أجد نفسي امشي وسط حقول ملونة بالأزهار . ألتفت
إلى الخلف فلا أجد أثرا للغابة التي كنت فيها . لا اعرف
كيف انتقلت من ذلك المكان إلى هذا المكان .
انه أشبه بانتقالات المرء في الحلم من مكان لآخر
من دون سبب معقول .
أمشي بلذة وسط الحقول . أرى نايا مرميا على الحشائش .
احمله، وأبدأ بالعزف .
أعزف :
موسيقى طفولتنا،
أنغام المعنى،
هسيس الصمت،
ولحن النشوة .
يسافر الناي بروحي إلى المتواري .
أعزف لاطرد الغايات من قاموس حياتي،
وأصوغ النغمات الشجية للماء الدافق من الزهور .
الموسيقى، بياني الخالد .

تهتز شراشف النافذة،
كلما مرت موسيقى الزمن بالقرب منها .
آه،
جرحك ينزف نغمات قيثارة سومرية،
وتسبح في عينيك زوارق أسطورية .
الله يابن آدم،
لموسيقاك الخالدة،
عن الطيور المهاجرة
من مرافئ الحياة،
إلى بساتين الموت ..

أنظر إلى الجهة الأخرى من الحقل، فأرى حبيبتي
تقف أمام لوحتها الصغيرة،
وتخنق بكفها فرشاة ألوان ترسم،
شمسا مضرجة بالدماء،
فراشات حمقاء تسرق رحيق الأزهار .
أرسم عربة بسعة الرغبة،
تحمل أدوات الهدم والبناء،
وتتجه صوب الماضي المقدس . أتوقف عن العزف،
بعدما نادت عليٌ حبيبتي .
أتوجه إليها . أقبلها، واحضنها ..

امرأة خضراء،
رجل ربيعي،
خيول قمرية تجري نحوهما .
يرتقيان صهوتيهما،
ثم ينطلقان صوب
الشمس ..

اعزف في الناي، وحبيبتي تغني، أغنية الله الأزلية .
نغني سوية، ونرقص كالأطفال، ثم نجلس تحت شجرة
تفاح في الحقل .
تلتهم حبيبتي تفاحة آدم، بينما اعزف أنا مجددا
لحن الأخطاء الكبرى .
فراح الناي، يطلق الفراشات المسكونة بالمتعة من فمه ..

* * * * *

(إعلم يابن آدم،
أن شجرة الحكمة تنبت دوما،
في أرض من يخون الوصايا .
تلك الوصايا المنسوجة بيقين مطلق .
الحكمة تعارض اليقين،
وتعشق الاحتمال .
فأحرث يابن آدم،
تلك الأرض،
ودع مياه النهار،
تسيح في مساماتها،
فأنك ستجني ثمار الخطأ،
والخروج والنشاز .
فأن تكون ناشزا،
أجدى لك من أن تكون
مألوفا، وشجرة الحكمة
لاتنتج سوى ثمار العصيان والتمرد .
فأحرص على التهام تلك الثمار،
ففيها ستتذوق حلاوة الخروج
على العالم .
كن خبيثا، أحمق
ودعك من الركون إلى الطمأنينة .
الطمأنينة، قاتلة، مخدرة،
وتفرش الوهم أمامك وكأنه الحقيقة .
أعلم يابن آدم
أن الخلود الذي تبغي
لن يأتيك عبر البقاء
في مكان من حياتك .
فمن الغباء ان لاتبحر،
ان لاتسافر إلى الجزر المجهولة .
فالخلود لايعني البقاء إلى الأبد
كما أنت، إنما هو السفر الدائم .
الخلود، حيوات متعددة لانهائية
سواء في الحياة أو في الموت .
الخلود،
انتقال مستمر للإنسان الخارج من
الحياة والموت معا،
من مرحلة إلى أخرى .
أنه انتقال أبدي مستمر
في حاضنة الأبدية )

أبحر في بحر فسيح، هادئ، أحمر، ميت، على متن
سفينة ملأى بالمجانين، حيث نوارس الوصايا تحلق
فوق رؤوسنا بغباء، ان لم تكن تلاحقنا عنوة ورغم أنوفنا،
بعد أن قررنا امتطاء سفن الرغبة الحبلى بالحكمة البهية .
أتأمل السفينة طويلا، فأدرك بأنها هدية الإنسان للبحر،
مثلما البحر هدية السماء لليابسة .
فالبحر بحاجة لمن يعلن عن خلجاته الثرية،
ولمن يلون صفاءه بحبات السفن المتطلعة
إلى الاكتشاف وسبر أغوار ظلماته المنيرة .
البحر صائم عن الكلام، لأنه احترف الفعل والصنيعة،
لذا هو بحاجة لرفيق يشاركه الخلق بصمت .
أحدق بالوجوه، فأراها تتطلع إلى البعيد بصخب صامت .
أحمل أنظاري صوب البحر،
فأرى موجة تحاول الهرب
إلى الجهة الأخرى من العالم .
تحاول أن تصبح بحرا منفردا .
وبما أنها لم تستطع العيش بعيدا عن البحر،
لذا قررت ان تبقى مع رفيقاتها الموجات،
ولكن بعد أن ارتدت لونا مختلفا .
سمعت الريح المحلقة في الفضاء تغني فرحا .
لقد اكتشفتْ الريح بأنها ريح قلقة،
وترغب بالصراخ الأبدي .
تتهدل وجوه البحارة وتتمايل أجسادهم،
بفعل خمرة السفر والرحيل .
احدهم، يرمي بنصف عمره إلى البحر،
اعتقادا منه بأنه سيضمن الأبدية .
البحر ينطق بالحكمة والمجهول .
البحر خالد، لأنه متحول .
ولأنه يصرخ ويهدم، ولايحب الهدوء السكينة .
وان هدأ، فالهدوء لديه هو الذي يسبق العاصفة .
البحر،
ثورة،
صرخة،
صمت،
ويملك طيبة لايملكها إلا الأنبياء .
الله أيها البحر،
انك تسع العالم كله في صدرك .
يصرخ الآخر وهو ثمل :
سأسافر من مدن التابوات إلى الأبد،
سأسافر لأزرع القرنفل في الحقول،
سأسافر لأعزف موسيقاي إلى العالم .
سأسافر،
وأسافر،
إلى أن أسافر إلى الموت،
وأنا على قيد الحياة ..

( آه أيها السكارى،
إنكم أبناء المعنى الشرعيين )

يصرخ البحار الأكثر ثمالة في السفينة :
سأزخرف شلالات وحدتي على جسدي،
سأمشي على الشطآن عاريا ألا من أسمالي،
سأهشم قناديل الفحم المتدلية في بيوتات الله،
سأعزف موسيقى حياتنا على أوتار الجنون،
ولكن ليس قبل أن ازرع لغما ورديا في مؤخرة العالم .

أضحك مع نفسي وأرسل بصري مجددا إلى البعيد،
فأرى في الأفق جزيرتين :
الأولى :
تغص بعلامات الاستفهام .
والثانية :
مغطاة بحشائش اليقين .

( إياك يابن آدم،
أن تدنو من شواطئ الهدوء والطمأنينة،
فهناك ستعيش في جنة الفناء
والموت .
توجه يابن آدم،
صوب الجزيرة المرتبكة بالأخطاء،
وخذ معك نهار القمر،
فأنه قنديل دروبك المعتمة،
وأرتقي ليل الشمس،
فأنه سيهديك موهبة التأمل .
ستصل يابن آدم،
إلى ذلك المكان،
وسترى جحيم الخلود )

أهبط في جزيرة الأخطاء والاستفهام، ويهبط معي
الآخرون . أفترق عنهم، واترك لديهم وصيتي الأخيرة .
طلبت في وصيتي ان يحرقوا جسدي ويرموا رماده
في البحر ان وجدوني ميتا ذات يوم في الجزيرة .
أسير بين الغابات وحيدا مع الصمت .

أثقب الظلام بجسدي،
فأغرق في بحر الأسرار الغامضة .
أرتقي الهواء وحيدا،
وأسبح في بحر التأمل .
فأرى الحياة عارية من كل شئ،
ألا من الموت ...

أسير في درب طويل، وملتو كأفعى، تظلله افياء
الأشجار الطويلة بحنان .
أرى الأحجار الصغيرة تتناثر
فوق تراب الدرب الهادئ، كأسئلة .
وأرى الحشائش الصغيرة النابتة في خاصرة الدرب
شامخة كالدهشة .
آه أيها الدرب،
أشعر انك تقودني إلى الأبدية .

( إيه يابن آدم،
أذرف دموعك المبللة بمياه الخلود .
أذرف كلماتك المسكونة بالأسئلة .
سر نحو القلق الذي جعلك كطفل يبكي
على ثدي أمه .
فالزمن قد مضى،
ولن يأتيك مجددا .
أمض نحو الشمس والقمر،
نحو الزهور والشجر،
نحو النهر والبحر .
وغب هناك،
واصرخ صرختك الكبرى،
التي سيبقى صداها إلى الأبد )

اخرج من الغابة من الجهة الأخرى، فأرى جبلا
اخضر يقف أمامي كنهد امرأة قادمة من السماء .
أرتقي بقلق قمة الجبل الأخضر، شاهق العلو .
أرسل زوارق بصري الشفافة إلى الكون من هناك .
أشعر أن روحي المتعطشة للحكمة تستوعب العالم
ببحاره وأرضه .
أغمض عيني طويلا، واستنشق حفنة هواء شديد النقاوة،
فأشعر بالغياب والرحيل إلى العدم،
فأتلو على الوديان والغابات والبحر ما أرى
في صفحة العدم :

روح تسبح في بحيرة الشمس،
طيور متلألئة تحيطها من كل مكان،
ثمة زورق فيروزي ينساب بهدوء
فوق مويجات البحيرة .
وثمة أشجار ترتصف بعناية حول البحيرة .
المكان ملئ بالصمت ..
لحظات،
ثم يقفز نور من أعماق الروح،
ويحلق في فضاء المجهول إلى الأبد .

أفتح عيني مجددا، وامشي فوق الجبل . أحس برغبة عارمة
في البكاء .
فالبكاء، غيوم تمطر حزنها .
أفكر بسر الأسرار،
فأدرك بأن السر الأعظم عصي على الإدراك .

الصخور ملقاة
في طريق الأسماك .
الزهور تتنفس
حزن النايات الهادئة .
الأمطار غزت بحارك المنسية،
وأيقظت مرجانك النائم .
الأمطار رغبتك الدفينة،
فصرت زهرة لاتعرف النوم
أبدا ..

ألتفت هنا وهناك، فأشاهد أطلال مكان مهجور منذ
آلاف السنين، ويستبيحه صمت هائل .
أتذكر بأنه المكان الأول الذي بدأت فيه رحلة الصمت .
أتحسسه بحواسي كلها بهدوء جم،
ثم أجلس في احد زواياه الدافئة،المستسلمة للشمس،
وحينذاك رحت أبكي،
بكائي الوجودي
الأخير ....

قاص وكاتب عراقي مقيم في الدنمارك
اصدر مجموعة مسرحية بعنوان رجل الصفصاف في بغداد عام 1997
اصدر مجموعة قصصية بعنوان نحيا ويموت الوطن في الأردن عام 2003
بكالوريوس في إدارة الأعمال ـ الجامعة المستنصرية 1994
عمل في مجلة ألف باء العراقية كمصحح لغوي عام 1996 ـ 1997
شارك بتأسيس مجموعة سومر الثقافية التي قدمت الكثير من الاماسي الفنية والأدبية المختلفة في الدنمارك عام 2000

basimalansar@hotmail.com


إقرأ أيضاُ