عناية جابر
(لبنان)

عناية جابرالإثنين:
لديّ ذكرى مُبهمة عن الموسيقار الراحل وليد عقل (عن أحاديثنا، عن وجهه الجدّي، عن أصابعه النحيلة والطويلة، عن الموسيقى يعزفها على البيانو في الأسمبلي هول، وتعوم بشكل ناعم في فضاء المسرح). مات وليد عقل منذ سنوات. تبدو الذكرى مُضافة الآن عن رجل، ينهض من قبره، ويوسع له مكاناً بين الأحياء. ذكرى متأخرة، للتأكيد على الموسيقى.

الثلاثاء:
الأسبوع الماضي، كنت مع بسّام حجار في مستشفى الجامعة الأمريكية. بسّام أجرى عملية استئصال ورم خبيث في الوجه. كانت ناني (زوجة بسّام) تروح وتجيء في أروقة المستشفى كنحلة مذعورة، وكان هو مُمدّداً على السرير يبتسم إبتسامته المتأنقة.
إبتسامة لا تخطر على بال أحد ومن المُتعّذر تصوّرها. إبتسامة كأنما زُرعت فوق الورم وتحته وتوزّعت باقي الوجه حتى أصبح وجهه كلّه، إبتسامة منفوخة. إبتسامة أعتمت كل ساعاتي المشرقة. جلست على الكرسي بجانب سريره أردّ عنه ضوء النهار الهاجم من الشرفة الكبيرة، لأنني حسبت أن الضوء يُزعج إبتسامته.

الأربعاء:
تلفن الشاعر حسن عبد الله يسألني الإعتذار بدلاً عنه من القيّمين على المهرجان الشعري في دمشق (يُعقد بعد أيام قليلة) بسبب من ارتباطه بتلبية دعوة سابقة الى مهرجان آخر لا أدري أين. طلب إليّ الإعتذار بدلاً عنه لأنه لا يعرف استعمال الانترنت ولأنني شريكته من لبنان في تلبية الحضور، وكنت على كل حال قد سبقته الى الإعتذار عن حضوري بكل الإحترام اللازم للقيمين على المهرجان، بسبب من انشغالات طارئة. أتبعت رسالتي بأخرى ثانية معنية هذه المرّة باعتذار حسن. تنتظرني الآن فترة قلق مبرّحة بشأن العملية الجراحية التي استجدّت لحسن ووجب إجراؤها على وجه السرعة: نقطة سوداء على الرئة ظهرت في الصورة (قال لي حسن على التلفون) نصحني الأطباء باستئصالها. حين طلبته ثانية للإطمئنان على صحته قلت: أطلب حسن عبد الله، هل هذا رقمه، أريد الكلام مع حسن. أجابني صوته المهدود: من المفروض أنو أنا حسن. قلت: أنا عناية يا حسن، أجابني 'هيدا واضح'.
لن أعوده في المستشفى. لم اعد احتمل.

الخميس:
تقييمي للأصدقاء من وجهة نظر خاصة، تفضيلية (الصديق الحقيقي ضحكة عالية مُجلجلة) يقول قلبي (الحياة مزحة فادحة، طويلة او قصيرة لكن منفصلة بشكل كبير عن الوجود الذي يتكلمون عنه). لا أريد أن يمرض أحد وكلّ مساعيّ في كسب ودّ الحياة تبوء بالفشل. مرض محمود درويش ومات في أمريكا، ولن أسامح نفسي ابداً، لأنني كنت في أمريكا حينها، ولم أعلم خلف أيّ حائط أبيض، لفظ أنفاسه الأخيرة .

الجمعة:
بينما كانت الرواية تحكي عن جريمة غامضة، كان فعل المُهدئ يسري في جسدي. كتبت على طرف الصفحة وكيفما تسنى لي (لأنني كنت نصف نائمة) أنني أريد أن ألمح وجه ذلك المجرم، ولو بنظرة خاطفة. غرفتي تهتز في بيروت وسط هذه الأحداث الغامضة والوحشية التي يسردها الكاتب. صفات رائعة للمجرم أحياناً: إنه ذكي ووسيم
(يقول الكاتب). كان ينقصه ان يكون حنوناً أيضاً!

السبت:
كسرت الريح الليلة الماضية عمود النور في حيّنا، وهو عمود متين وصلب. لم تُصب أيّ من السيارات المتوقفة تحته. تساءلت كيف يمكن لعمود كهرباء ان ينكسر ويبقى مُضيئاً. أرجع الى فكرة المزحة تلك. العمود المكسور والمضيء يحتاج الى مفردة جديدة غير مستعملة. لا يمكن أن نستعمل في وصفه مفردة ملتبسة، متكتمة على ماضيها احتراماً لانكساره وبقائه مضيئاً. على الأقل نحتاط في مفرداتنا وفي هبوب الريح والإنكسارات، وفي أحاسيسنا التي تُشبه الروايات الفرنسية .

الأحد:
والآن، لأني أرى 'العلاقات العاطفية' غير قابلة للتصديق، بكل ما في الكلمة من معنى، ربما هذا هو السبب في حالة التشوّش التي تُصيب قواي العقلية، وتؤدي الى هبوب الريح وتتسبب بموت وليد وبابتسامة بسّام ومرض حسن. أحاول في ليلة مقبلة أن أكتشف رابطاً، كما لو أن كل الأشياء في صميم طبيعتها، دائرية.
الفوضى لم تعد محبوسة، وأحتاج الى مُساعدة من نوع ما. كتبت على باب غرفة مكتبي تنويعات على المُزاح. صبي القهوة في الجريدة قرأها، نظر إليّ وهزّ رأسه.

القدس العربي
21/11/2008