عناية جابر
(لبنان)

عناية جابرلا أحد يضيع في بيروت. مدينة صغيرة تقطعها طولاً وعرضاً في ساعة. ربما في القاهرة يتيهون. في الرباط، في الخليج. في البلاد الأوروبية يتيه الناس. أماكن كثيرة في العالم تحتاجك الى خرائط لكي لا تضيع فيها. لكن بيروت الصغيرة، بيروت التي يعرفها أغلبكم، وأعرفها عن ظهر قلب، هناك دائماً منافذ الى ما تقصده، وحلول تظهر في الأفق. أتذكر ضياعي في كندا، ووقوفي حائرة عند سور شلاّلاتها في نياغارا، ألعن جمالها المزيّف الذي أوقعني في التيه. بسبب من الجمال المزيّف في أمريكا أيضاً، وفي فرنسا وايطاليا واليونان واسبانيا، من السهل أن تضيع طريقك إذا كنت لا تحمل خريطة، ولا تنتبه الى إشارات المداخل والمخارج.

لا مداخل أو مخارج وما من خرائط بشـأنها في بيــروت. هذه ميزة الأرحام والأحضان. بيروت حضن كبير. حضن، هو ما يبحث عنه كل الناس، تستلقي فيه دافئاً ساخناً مُهدهداً. حضن يسع مُقيمين وأجانب، كبارا وصغارا. أبرياء وأشرارا .
في وقع خطوك على الأرصفة هنا، تقول في سرّك: هذا ما أبحث عنه. تسير في رحابة غير مرئية، وتسير في الجمال الخامل. جمال بيروت خدرٌ وخامل، واجمل الجمال ما خمل.

سماء رمادية بدأت تســــتقر الآن. تُفكــر أن تبـقى في البيت، تســتر حضورك الجسدي عن الشــوارع. تُفكر أن تقضي النهار في غرفتك لا تفكر بشيء. أو تبقى في غرفتك تفكر بذلك الشيء من دون أن تعرف أنك تفكر به. تبدو فكرة فاجرة قليلاً، وكأنه لا يمكنك حقاً في بيروت أن تبقى في البيت إلاّ لأمر جلل يحدث خارجه. إلاّ إذا آلمتك بيروت، وما عُدت تُطيقها. في الحقيقة، بيروت تؤلمنا بالفعل، آلاماً خفيفة، وخزات مُعذّبة سرعان ما تزول، وليست الآلام التي تجعلنا نهجرها. حروبها الأهلية، وحروب إسرائيل عليها لم تقدر على لمّنا من طرقاتها وشوارعها نقطــعها غربية وشرقية، على وقع صوت المدافع وأزيز الطائرات وما تمنّ به علينا البوارج.

كلنا هنا يفترض أن بيته نقطة وسط من بيروت. من الطبيعي أن يفترض كل منا هنا، أن بيته نقطة وسط، منه ينطلق الى شارع الحمراء، فعين المريسة ويُكمل في الطريق البحري الى الأشرفية، ولا يذهب صُعداً بعد، بل يبدأ ينزل لجهة مستشفى الروم حتى يجد منفذاً الى البربير، فالبسطة، فخندق الغميق. هذه ليست بيروت كلها، لكن لا أحد يضيع في بيروت. تُكمل بالتفاتة عارفة الى مستديرة بشارة الخوري، السوديكو، رأس النبع فلا يحتاجك كثير وقت للوصول الى الضاحية الجنوبية، تُغادرها عن طريق المطار، بئر حسن، فالبسطة والمصيطبة وتنفذ من جانب بيت صائب سلام الى كركول الدروز .

هذه ليست بيروت كلها، لكن لا احد يضيع في بيروت. تبقى جهات، تتفرّق وتتباعد، وتفضي إليها زواريب، أو هي تستسلم لك من تلقائها كاشفة عن مداخلها كشفاً يبلغ الرحم لنا، ولك أنت ايضاً الغريب المحمي بحضن ساخن، فلا أحد يضيع في بيروت .

يهطل مطر غزير، في الشتاء وقد حدث أخيراً، تتابع تجوالك بلا مبالاة، تاركاً جسدك يترنّح في زواريب وأزقّة، كما لو انك تربط بين الفواصل لتكوين شكل معيّن للمدينة. صوتان في داخلك، أو مزاجان مختلفان. الأول يحاول أن يكون متماسكاً، والثاني مفككا، إعتباطيا يتيح لك التفكير دون غاية مُعيّنة .

في التجوال في بيروت، شيء من حبكة الروايات. هناك أشياء في هذه المدينة، يُريدها القدر بعناد. أشياء تحدث وتبدو ملائمة للقدر وليس بالضرورة ملائمة لنا، مقيمين وعابرين. مدهوشون نحن، ومفتونون بهذا الإدراك المتأخر. لم يعد يُفزعنا قدر هذه المدينة حتى .

المظهر الأوروبي لكافة الأوتيلات على البحــر، أوتيل الريفييرا تحــديداً، يبدو في غير محــله في بيروت المتوســطية. يبدو كأنه خارج من كتاب إيطالي مُصوّر. تجلس في أحد أركانه المشرفة على البحر ترنو الى المارّة على مقربة كما لو انهم أطياف، كما لو انهم يدخلون ويخرجون من قصص في رأسك .

لا أحد يضيع في بيروت. أستغرب أحياناً، أن تقع الكلمات في سياقها الصحيح رغم كل الألم. يمضي الوقت، وانت ترنو الى البحر. هناك أشياء قليلة أخرى يمكن رؤيتها من ركنك، مثلاً السماء الممتدة فوق الماء وفوق الصخور والبنايات والمارّة والمتريضين وبائعي الكعك والعاشقين. ليست سماء ساكنة بل في تغيرات صغيرة دائبة، وتقلقلات تدريجية في السحب، تُعقّد المشهد .

لا أحد يضيع في بيروت. ما عليك إلاّ ان تسير، تصل بمحاذاة سور الجامعة الأمريكية من بابها الأساسي في شارع لبّس، تدخل حديقتها الوارفة، وتلفى نفسك سعيداً بأن تكون وسط العشب والأشجار .

القدس العربي
05/12/2008