عناية جابر
(لبنان)

عناية جابرهناك كتب تُحبها لقيمتها الأدبية و وأخرى لقيمتها الفكرية، ومنها لرشاقتها.. الخ. بيد أن كتباً ولأسباب لا يعلمها إلا الله، تقع في غرامها من النظرة الأولى من شعورك أنها تُسديك منفعة شخصية. لا أستطيع الغوص هنا في تفسير معنى " المنفعة الشخصية " من كونها شخصية فعلاً، ومن مُراوحة " منفعتها " بين قارئ وآخر، كما يحدث أن لا نفع منها بالنسبة لقرّاء آخرين. المسالة شائكة على ما يبدو ومتذبذبة عند هذا وتلك بحسب التلقيّ والذائقة والحساسية.

آخر كتاب قرأته منذ أيام ووقعت في غرامه من اسدائه لي الخدمة الشخصية الماتعة التي ذكرت جاء تحت عنوان : " يوميات القراءة " وعنوان فرعي : تأملات قارئ شغوف في عام من القراءة، لألبرتو مانغويل والترجمة لعباس المفرجي،والكتاب صادر عن دار " المدى ".

الكتاب كما يبين العنوان هو وقفات للكاتب حيال كُتب علمّت في روحه. الحكاية أن مانغويل في الخامسة والخمسين من عمره، قرّر إعادة قراءة بعض من الكتب المُفضّلة لديه وتسجيل ملاحظاته على عوالمها المتراكمة والمُعقدة من الماضي بوصفها انعكاساً للفوضى السوداوية للحاضر. ملاحظات على مقالة كانت نُشرت في صحيفة يومية، او مشهد مُعيّن يستعيد حادثة شبه منسية، او كلمات قليلة مكتوبة يمكن ان تكون باعثة لتاملات طويلة. " يوميات القراءة " مروحة عريضة من الملاحظات وهجين من المذكرات الشخصية، والكتاب العادي، والمؤلّف المشتمل على ملاحظات وتأملات وأدب رحلات، وصور وصفية لأصدقاء ولأحداث عامة وشخصية مستلهمة كلها من قراءات مانغويل.

ما فعله مانغويل في كتابه، يؤكد أن فعل القراءة هو في نفس الوقت فعل مُحادثة. تماماً مثلما يُبتلى المجانين بحوار وهميّ يتردّد صداه في مكان ما في أذهانهم، فان القراّء يتورطون أيضاً بحوار مُشابه، يستفزهم بصمت من خلال الكلمات التي على الصفحة. في الغالب لايدوّن القارىء ردود أفعاله، لكن مانغويل أمسك بقلمه هنا، وشرع بكتابة الهوامش على النصوص. هذه الهوامش هي كتابه، وهي الكتابة الظل التي توسع من النص الأصلي وتنقله الى زمن آخر، وتجعل من القراءة عامة، تجربة مختلفة.

يفترض علماء الطبيعة بان الكون قبل نشوئه كان في حالة طاقة كامنة، حيث لاوجود للزمان والمكان أو في (ضباب الامكانية) كما يحلو لمعلق ما ان يدعوها، الى ان حدث الانفجار العظيم. هذا الوجود الكامن يجب ألآ يُفاجىء القارىء الذي يكون كل كتاب بالنسبة اليه كائناً في حالة من الغموض حتى تُبادر اليد الى فتحه والعين الى مُطالعته وتوقظ الحياة في الكلمات. يوميات القراءة لمانغويل هي محاولته (الناجحة برأيي) لتسجيل مثل هذه الايقاظات.

يقتبس مانغويل من مول : القناعة تقتضي نقصاً مُعيناً في الفضول, عليه يُسجّل مانغويل هامشاً يقول فيه : " أتذّكرأني بعد مُغادرتي بوينس آيرس عام 1968، صرت مقتنعاً بأني ّسوف لن أُقيم أبداًأكثر من سنتين متواصلتين في نفس المكان. لذا قضيت فترات من سنتين في كلّ من برشلونة، باريس، لندن، ميلانو و تاهيتي........ ثم استقريت في كندا، وبعدها تغيّر كل شيء. يغمرني الان، فجأة، شعورا باليقين بان هناك امكنة سوف لااعيش فيها، أشياء سوف لاأفعلها, أدوار سوف لاألعبها: موكب كوني فخم أُقصيت خارجهُ.

فرح لايوصف.

تحت عنوان : منتصف الليل يقول مانغويل : أختُرعت كلمة نوستالجيا في 22حزيران 1688 بوساطة يوهانس هوفر، طالب طب الزاسي، اذ قام بجمع كلمة "

عودة وكلمة (ألم) في أطروحته الطبية لوصف المرض الذي يُعاني منه الجنود
السويسريين بسبب ابتعادهم عن جبالهم.

كينيث غراهام أستاذ في وصف الراحة. قبل كتابته ريح الصفصاف حلم غراهام بأنه في ما يُشبه الغرفة، أليفة واثيرة جداً, منزوية والعالم حولها منسي، لكنها مغمورة بمشاعر السكينةوالسلام. كل شيء فيها كان متواضعاً، متواضعاً جداً: لكن كل شيء في الحجرة كان ملكي وأكثر من هذا كان كل شيء ملائماً تماماً. يلاحظ مانغويل بأن غالباً ما تملّكه هذا الشعور ( كان كل شيء ملائماً ). في رواية البيكاريسك من القرن السادس عشر، لاحظ البطل أن هناك بيوت غير سعيدة ومريضة الجذور، تعاستها تُعدي ساكنيها. عكس الأمر صحيح للأمكنة التي تكون سعيدة. السعاد ة برأيي هنا، مع يوميات القراءة لمانغويل.

من اليوميات الأفضل التي قرأت، بالاضافة الى يوميات كافكا وسانت أوغستين وكاترين مانسفيلد وفرجينيا وولف وجوليان غرين. قراءات ذكية ومُلهمة.