عزيزتي عدنية. ماذا قالت لك الأسفار في نزهة حياتك التي نُظمت للفلسطينيين اليائسين، وكيف استطاع أحدكم أن يفهم ما كان يقوله الآخر؟ باريس كانت تتحدّث الفرنسية، ولندن تتحدث الإنكليزية، وأنت تهمهمين باللغة الغريبة التي تفهمها كلتانا فحسب. لغة مختلفة جداً، وأنين يطلع من الروح. كان يجب أن يشبه هذا، الإصغاء الى نشيج وضعت موسيقاه عرّافة ذات ذقن موشوم. لكن عندما تكتبين لي: "هذا الصباح المقيت"، لا بد أن يحضر ذلك الصباح المقيت إليّ هنا، وهذا الأمر تفهمينه وأجده أنا صحيحاً أيضاً، لأنني منذ قرأت رسالتك، وأياً تكن المخططات التي كنت وضعتها لصباحي البيروتي، فإن "الصباح المقيت" الذي كتبت، هجم ومدّد رجليه على نهاري كله.
* * *
توقفّت عن النقر على أزرار "الكيبورد"، وفركت مفاصل أصابع يدي اليمنى. كنت أشعر بألم في مرفقي وكتفي لأني كنت أنقر بقوة. من الجانب الآخر من المكتب، تعالى سُعال أحد الزملاء عبر الباب المفتوح، وكعادتي حين أسمعُ سعالاً، أتمنى الصحة والشفاء السريع لصاحبه، وشيئاً يُمكنهُ من تلطيف بؤس صدره. كان وليد يسعل كي لا يعرف أحد أنه يبكي. تأملتُ سارحة الدهان المتشقق في سقف المكتب، وعندما أحضر صبي القهوة فنجاني، سألتهُ أن يُحضر لوليد في المكتب المُلاصق، شاياً أخضر مغلياً.
* * *
تساءل أحد الأصدقاء في رسالته : ما المشكلة؟ استمتعي بالحياة قليلاً، ودعي الهموم جانباً. كتب يريدني أن أجيبُهُ فوراً. تأملت استقامة حروفه بشيء من العطف في البداية، ثم ما لبثت أن شعرت بالغثيان. لاأعتقد أن الغاية من الصداقة هي إدخال السرور الى نفوس بعضنا البعض. كتبت له ذلك وأضفت: ربما هناك غايات اخرى من الصداقة. حسناً، ساعديني على كتابة رسالة مثالية لك، أعرف أني سخيف ولكنّي لست عدوّك.
* * *
على موقع "غوغل" وجدتني أبحث في أرشيفي عن مقالة لي غير ضجرة. أيها السيد العزيز، مقالاتي (للأسف) أقل ضجراً هذه الأيام، كما لو أنني خسرت الى الأبد، رغبة كانت تتوقّف عليها حياتي.
* * *
جالسة أمام شاشة الكومبيوتر، حيث عليّ إنهاء مقالتي في الموسيقى، بدل التلهّي بكتابة الرسائل، ضربتُ بقبضتي على طاولة المكتب بعنف، فارتجّت الأشياء. كان هذا عبارة عن لعبة، لأعرف أيّ الرسائل أغضبتني أكثر. كل هذه الترهات التي عشت معها، أظل أعيش معها طيلة حياتي.
بعض الإلغاء لن يُغيّر شيئاً، ولم يتبق على الشاشة سوى رسائل أربع. لم تعد الرسائل التي أغضبتني موجودة، إذن بمن يتعلّق الأمر؟
* * *
وجدت مقالة أحدهم عن "رامبو" جميلة جداً، ولكن يجب عمل شيء للشعر، فهو لم يعد أفضل الجنون. ثم بعد تفكير: "ماذا أراد المحترم رامبو أن يقول لنا؟"، بدا السؤال جدياً بشكل غريب، وقلت في سرّي دون أن أرفع نظري عن صورة الشاعر: "لقد تحدثنا .... تحدثنا فقط، لا ضير من السؤال، ثم انني لا أنتظر جواباً" .
* * *
مسحتُ عينيّ ورشفتُ من فنجان قهوتي. أقرأ الآن هذه الكلمات المكتوبة على الـ"بانو" بحروف حمراء على خلفية سوداء: "على الزملاء المحترمين إقفال باب المكتب بالمفتاح حين المغادرة ". إنه عصر الأبواب المقفلة بالمفاتيح ـ قلت ـ وكلما أقفلت باباً تدّعي أنك تمنح المكان كامل خصوصيته، ومفتاح البيت ومفتاح المكتب، مفتاحان ضروريان، من جملة المفاتيح الضخمة لأبواب لا نعلم عنها شيئاً. غادرت وتركت الباب مُشرعاً.
القدس العربي
23/10/2009