(لوحات مختارة لعارف الريّس في شتورا)

لور غريب
(لبنان)

(عارف الريّس متكئاً على عصا السنين
أمام لوحته "بديعة مصابني")

معرض جديد لعارف الريّس، لكن هذه المرة في شتورا (إلى 7 أيلول)، وفي الهواء الطلق، داخل حديقة مقهى إميل حنوش، طريق شتورا الدولية.
نحو ثلاثين لوحة تشكل شبه دائرة في ساحة مكللة بالأشجار العتيقة، توزع ألوانها الزاهية ولا تخشى أشعة شمس آب ولا تتلافى المقارنة بينها وبين تراقص انعكاسات نور الشمس فوق رؤوس الأشجار. ولسنا أمام أعمال جديدة للفنان أو إزاء لوحات نفذت تعبيرا لفكرة ضاغطة وموحدة، بل نشاهد أعمالا من فترات متفرقة، وليست استعادية إذ اختيرت من مخزون محترف عارف الريس، وتنطوي على أحلام الطفولة وحكاياتها: "بساط الريح" (1960 و1966 و1966)، أو على تأملات روحانية ورومانسية: "أمومة" (1958)، أو على تخيلات كونية تسبح في فضاء تجريدي: "تأليف كوني" (1966)، أو على تجسيدات درامية: "الرحيل" (1968)، إلى موضوعات متنوعة كالمناظر الطبيعية: "منظر من الطائف" (1986) والطبيعة الصامتة: "زهور" (1971)، والتكوينات الهندسية المتناغمة: "تأليف" (1987)، والاجتهادات الحروفية: "كلمة الله" (1987)، والمتاهات "متاهات عام 2000" (1999)، والتآليف العقلانية: "تأليف" (1987)، إلى لوحات تتضمن الكثير من الفكاهة: "بديعة مصابني" (1974)، "زهرات شارع المتنبي" (1972). ولا نغفل المناظر التي تنطوي على قدر من التأمل الهادئ والتي عرضت في "غاليري جانين ربيز" عام، 1996 فضلا عن الجدارية (92*200) التي رسمها لبيروت عاصمة الثقافة العربية عام.2002

(الرحيل)

(الرحيل)

متابعو معارض عارف الريس منذ بداياته وأول معرض فردي له عام 1948 في الجامعة الأميركية، بيروت، يتيح لهم هذا المعرض استعادة ذكرى أعمال قديمة للفنان، علما ان أقدمها يعود إلى، 1958 ولم يتوقف نشاط عارف الريس إذ أقام آخر معارضه في "إسباس إس.دي.". والمتعة التي نشعر بها ناتجة من الاختيار الذكي للوحات التي تمثل المراحل السعيدة في مساره الفني: "منظر صحراوي" (1982)، "بساط الريح" (1960)، "بيروت عاصمة الثقافة العربية" (1999)، "الجمعة العظيمة" (1999) وسواها. وهذا الانتقاء لا يعني ان ما بقي في المحترف أو لدى جامعي الأعمال الفنية أدنى قيمة منها، لكننا لسنا في معرض تناول الإنتاج الكامل لعارف الريس، وخاصة إننا رافقناه في العديد من معارضه الكثيرة حيث ثمة دوما الجديد والمتفاعل مع الأحداث الكبرى هنا وهناك، فضلا عن التزامه بالقضايا المصيرية للشعوب المضطهدة والمتألمة، وله اختبارات في كل ما هو حديث تقنيا وفنيا، وجرّب كل الأساليب من الأكاديمية إلى التجريدية اللاشكلانية مرورا بكل المراحل التي عرفتها الحركات الفنية في العالم.

(من اليمين: "بساط الريح"، "الجمعة العظيمة" واجتهادات هندسية)

(من اليمين: "بساط الريح"، "الجمعة العظيمة" واجتهادات هندسية)

من القضايا الإنسانية الكبرى في معرضه عام 1968 في "لوريان لوجور" إلى نقاء الطفولة وسحرها في المركز الثقافي الفرنسي في 1997 - 1998 حيث كانت تحية منه لـ"الأمير الصغير" رائعة أنطوان دو سانت اكزوبري، وقال يومذاك: "في داخلنا جميعاً أمير صغير، ونحن نغار منه (...)". يقفز عارف الريس كالبرق من المأساة المفرطة، إلى رقصة الأزهار الإيقاعية، إلى الشؤون السياسية والاجتماعية، إلى التضادّ بين الأسود والأبيض ومواجهة الإنسان للزمن. ويقدّم أحياناً الموضوع على حساب الجمالية. غزارة إنتاجه وتنوعه واختلافه لا تخدم دوماً مكانته الفنية، بل على العكس يشتت الاهتمام به وتحرج البعض الآخر. غير انه لا يسعى إلى إرضاء الجمهور أو إغرائه أو استمالته. يرسم على هواه ويعالج الموضوعات من زاوية خاصة به متفاعلاً معها. له ردود فعل عنيفة تترجم أحيانا بالألوان الوقحة والصارخة والمعجنة والمتراكمة على نحو غير احترافي كأنها "فشة خلق" أو تنفيس عن غضب.

(منظر من الطائف)

(منظر من الطائف)

يطرد الفنان شياطينه، ليتطهر ويستريح. لكن لا سكون إلاّ يُغتصب ولا هناء إلاّ يخترق ولا ثبات إلاّ يتزعزع، صعوداً وهبوطاً على سلم الاولويات، ثم تنطفئ الشعلة ويقع في حال انعدام الوزن و"تقطيع الوقت" واللهو بالهوامش والتداعيات حتى تحين لحظة الابتكار فيدخل مجدداً حالة الخلق المتميز. ولأنه رسم ونحت وحفر وخربش وألصق وزاول المهنة في أسمى تقنياتها وفي أسخف تفاصيلها، جمع آلاف الأعمال في متحف أو في منزل أو في ساحة عامة أو حتى لدى تاجر صغير في قرية أو مدينة. لا يدع عارف الريس الآخرين لا مبالين. فنان لا يساير ولا يكف عن إطلاق ضحكته العالية العفوية والاستفزازية.

 

(تأليف كوني)

(تأليف كوني)

لا يسع الزائر العبور في سرعة أمام لوحة عارف الريس لأنها تستوقفه طويلاً متمنياً لو يبقى عندها ولو يفجر كل أسرارها ويقتحم خصوصياتها، كي يدرك مثلاً كيف حوّل بديعة مصابني إلى كاريكاتور مؤسلب وتضخيم لطيف ونظرة تدمي القلوب. وبين لوحة "الجمعة العظيمة" و"بساط الريح" مرّ أكثر من ثلاثين سنة مليئة بالنجاحات والإخفاقات والتفاعلات. ويقف عارف الريس اليوم أمام لوحته "بديعة مصابني" متكئاً على عصا وفي عينيه الكثير من التصورات والتخيلات والخيبات والنشوات.

جمع في شتورا نخبة من إنتاجه الذي امتد لأكثر من خمسين عاماً، وكم بدت بعيدة السنوات التي يطلق عليها "المرحلة الأفريقية" والتي نشرت منها صور في موسوعة "الفن العالمي المعاصر" (باريس، 1958) يرافقه نصّ للفنان الفرنسي جورج سير الذي عاش في بيروت وتوفى فيها.

(متاهات العام 2000".(دانيال خيّاط))

عارف الريس (مواليد عاليه 1928) كان فناناً عصامياً حين أقام معرضه الأول في.1948 وبعد بضع سنين في أفريقيا قصد باريس للالتحاق بأكاديمية لاغراند شومبير متردداً هناك على محترفات فرنان ليجيه واندريه لوت وأوسيب زادكين، وعام 1959 نال منحة مكنته من الذهاب إلى فلورنسا لدراسة الفن. شارك في عدة معارض عالمية منها: بيينالي ساو باولو (1973)، بغداد (1974)، معرض الاونيسكو في مونريال (1978). كما أقام معارض منفردة في روما ونيويورك ومكسيكو وباريس وفي معظم العواصم العربية، ونال جوائز عديدة محلية وعالمية.

(زهرات شارع المتنبي)

 (زهرات شارع المتنبي)

صفات عارف الريس الجميلة متعددة، منها الصراحة والودّ والعقل المنفتح والساخر. ثقافته واسعة جداً ويمكنه ان يتحدث لساعات طويلة في موضوعات شتى ولا نملّ. فنان يعشق كل أنواع الفنون كالمسرح والباليه والتأليف والنحت، إلى الرسم بالتأكيد، جريء الرأي ولا يتردد في إعلان مواقفه مهما كانت النتائج. انه من فنانين قلة لا يزالون يحاولون التجدد والتحديث. في الخامسة والسبعين من عمره لكنه شابّ في قلبه وروحه. صداقته مهمة، فنّه مهم، ونتمنى ان يتابع العمل بصرف النظر عن السنين التي تعبر بلا عودة.

 

النهار" -الثلاثاء 2 أيلول 2003