(أطفالٌ لبنانيون يرسمون في "مسرح المدينة")

لور غريب
(لبنان)

أطفالٌ لبنانيون يرسمون في "مسرح المدينة"ثمة أصوات تتعالى من تحت الأرض في "مسرح المدينة"، في شارع الحمراء. أصوات تريد أن تحيا، وان تتحدى، بقوة الطفولة، كل الأصوات الأخرى، أصوات التشرد والدمار والموت. انها أصوات الصغار يلهون في إحدى الصالات، تعبيراً عن الحياة التي من شأنها أن تحيا لا أن تموت. ثمة في صالة فسيحة ثانية، مجموعة أخرى من الأولاد تتحلق حول طاولة تستضيف علباً من الأقلام الملونة، وأنابيب زيتية ومائية، وأقلاما من الشمع، وفراشي من كل القياسات.

في هذا المسرح الجميل، يجتمع الصغار ليعلنوا حروبهم البيضاء والملونة ضد الحرب الهمجية. هنا بعض فتيات يجلسن حول شرشف كبير من البلاستيك، يزاولن هواية الرسم بصمت. هناك بعض صبية وبنات صغيرات الصبيان يتسابقون ليغطّ كل منهم فرشاته في قنينة مبتورة من الوسط، تحوي مياهاً لم يعد يعرف لونها الأساسي من فرط ما داخلتها ألوان أخرى.

أعمارهم بين الخامسة والثانية عشرة، لكنهم جميعهم أطفال وضدّ الحرب. علي اكبر هو الأكثر ثرثرة. يرسم لكنه أيضاً يتفرج على ما يرسمه شقيقه هاني. يقول ان والده سمّاه علي اكبر تمييزاً له، لأنه هو أيضاً يحمل اسم علي. دائم الحركة، يتنقل بين هذه الطاولة وتلك، من دون أن يستطيع جلوساً. يرسم ويحكي ويقفز، ويضحك أيضاً لأنه يريد أن يعيش.

هنا ولد صغير "يجلغم" بيده الألوان المطحونة البراقة، كأنه يستعيد بخربشاته ذكريات البالونات في الأعياد. في الجهة المقابلة، ثمة فتى يرسم على ورقة بيضاء قمتين متساويتين. يلونهما بالأخضر الفاقع. تبدوان للوهلة الأولى أقرب إلى نهدين. أتكون التلتان إذاً تعبيراً عن أمومة منشودة يطالب بها هذا الفتى. أراه ينظر إليهما طويلا ثم يمزق الورقة ليعود ويرسم النهدين او التلتين. إنهما جبلان يحتضنان طفولة معذبة.

أطفالٌ لبنانيون يرسمون في "مسرح المدينة"هؤلاء الصغار يصنعون بلاداً تحت الأرض. هم يضيئون المسرح وصالاته. بعيونهم أولاً. بأصواتهم ثانياً. بألوانهم ثالثاً. بأجسادهم المتلاعبة والمتراقصة رابعاً. وبأرواحهم في كل حين.

حركة الدخول إلى الطبقة السفلية من المبنى، كما حركة الخروج، لا تتوقف. قيل لنا ان المحترف يفتح أبوابه يوميا ما بين العاشرة صباحا والثانية بعد الظهر. نصادف الأطفال الآتين الذين ترافقهم امهاتم. الصغار يجلسون أو يتحلقون أو يقفزون، في حين أن الأمهات يراقبن فلذات أكبادهن في أحوالهم الشعرية، مباشرةً إلى الخلف، او يتباعدن في حالة انتظار.

أطفالٌ لبنانيون يرسمون في "مسرح المدينة"أعود قليلاً إلى الرؤوس الصغيرة، أتفحص الأوراق المرسومة لعلي أستطيع أن أستقرىء الدلالات والمعاني. هنا يرسم محمد بالأحمر رجلا فاتحاً يديه كخيال صحراء او كتائه لم يعد يعرف أين الاتجاهات الصحيحة للخروج من جحيمه. هناك تلك الفتاة الصغيرة، ذات الجدائل الشقراء، تغطّ فرشاتها بيدها اليسرى. يدها اليمنى مصابة، يلفّها رباط حول عنقها. هي ترسم وردة حمراء تغلّفها تكويرات خضراء لتذكّر بالأوراق الطرية التي تساعدها على النمو. ثم وردة ثانية في جوارها. ثم تختار بيدها الانتقال إلى تلك الشمس التي تطل من الزاوية اليمنى. انها منشغلة جديا بمنظرها الطبيعي الذي يشعرنا كم أن الأطفال يلاحقون عواطفهم الحسية التي تواكب تصوراتهم وتخيلاتهم الآنية.

من حين إلى آخر يطل شاب ليسأل: "مين بدّو ورقة؟". ترتفع أصابع او تبقى الوجوه مسمرة على أوراق مغطاة بالأزهار او البيوت او الدبابات او الانفجارات. ما أراه لا يصدَّق. ففي جوار الأزهار والتلال الخضراء، ثمة دم وقنابل وانفجارات وعلم لبناني بالأحمر والأخضر. ثم هناك أيضا طيارات تحلق فوق مساحات بيضاء، وتحتها أولاد وبيوت لم تهدَّم بعد. كأن "الرسامين لم يشاؤوا متابعة الصور المطبوعة في الذاكرة الحديثة لكي لا يشوهوا صورة البيوت الآمنة التي تحفظ وحدة العائلات وحميمياتها. كل الإشارات الحربية مختصرة في الرسوم المعلقة. بعض الرسوم لم يشأ أصحابها استحضار المأساة أو أنهم لم يشهدوها. كأنهم يريدون فقط ان يتذكروا الحياة السابقة الرغيدة فحسب. كأنهم لا يريدون سوى أن يتذكروا رموز الفرح والسعادة. أو أنهم يريدون إعلان حق هذه الطفولة في الحياة السعيدة للحظة شعرت كأني أمام أطفال جاؤوا إلى المدرسة بثيابهم المكوية وروائحهم المعطرة. هم يدعون الواحد منا ليمرر يده على رؤوسهم الصغيرة ويتلاعب بخصلات شعورهم او على الأقل لإشعارهم بأن الكبار يحبون أطفال لبنان. فلتحرسهم العناية الإلهية.

اترك الأطفال يرسمون. أتقدم من الحائط الكبير حيث أنعم النظر في بعض الرسوم. انها تروي مأساة مثل مجزرة قانا او تلون دبابات للعدو. كتب احدهم اسم اولمرت، ورسم آخر نجمة.

نعم، الحرب مرّت من هنا، وقد تركت بصماتها الوحشية على الذاكرات والأيدي الطرية. لكن هذه الحرب لن تنتصر. الطفولة وحدها تنتصر. أحييكم أيها الصغار. أحيي رسومكم التي لا يحمل بعضها تواقيعكم لكنها تحمل مشاهداتكم ومخاوفكم، لكن أيضاً ضحكة العيش رغم عبوس الدمار وحلكة الموت.

laure.ghorayeb@annahar.com.lb

النهار
السبت 12 آب 2006