ترجمة وتقديم
فوزي محيدلي

خورخي لويس بورخيس مع أن شهرة خورخي لويس بورخيس تقوم على إبداعه في فن السرد، لا سيما القصة القصيرة، إلا أنه لطالما كتب الشعر وأنهى حياته يقطف من ورود هذا البستان. وهو بأي حال بدأ الكتابة مؤمناً بأنه شاعر.
كان يتوقع للولد خورخي أن يغدو كاتباً، كون والده المحامي جرّب قلمه في الكتابة مرات، ومع شح وتقدّم عمى ذلك الوالد ظهر تفاهم مضمر ضمن العائلة أن الإبن سيتابع محاولات الوالد (بالطبع كان العمى وراثياً لأن بورخيس الإبن سيخسر بصره لاحقاً). بدأ خورخي الكتابة في عمر السادسة، فحاكَ قصصاً من نسج الخيال متأثراً في ذلك بسيرفانتس. حين بلغ التاسعة ترجم عمل أوسكار وايلد «الأمير السعيد» الى الإسبانية، وحين تم نشرها في إحدى المجلات باسم خورخي بورخيس ظن الناس أن الوالد هو الذي ترجمها. ولا بد هنا من الإشارة الى أن كلاً من والدي بورخيس كانا يجيدان اللغة الإنكليزية، سيما وأن جده لوالده كان متزوجاً بسيدة إنكليزية.

بعد زيارة الى منطقة السهول قرب نهر الأورغواي حاول كتابة الشعر لكنه ما لبث أن اعترف بفشله.
عام 1914 جمع الوالد أفراد عائلته، لا سيما أن الوالد بدأ يعاني ضمور البصر، وسافر بهم الى أوروبا فحلّوا أولاً في باريس ليستقروا من ثم في جنيف، وهناك التحق الصبي بالمدرسة. لاحقاً في كالفين كوليدج حصل أول تذوق للصبي لطعم الرمزية، وذاق طعم أعمال فيرلين، رامبو ومالارميه. كما واكتسب هناك حبه الذي لن ينضب للفيلسوف شوبنهاور، وتقديره لشعر ولت ويتمان. عام 1923 شعر بورخيس الإبن بالاستعداد لإصدار مجموعته الشعرية الأولى «توقد بوينيس آيريس» التي موّل طباعتها والده. ما لبثت العائلة أن عادت عام 1924 الى الأرجنتين ووجد الإبن أنه باتت له شهرة ما في الوطن كشاعر. في غضون سنة 1933 صدرت له أولى قصصه القصيرة التي تحمل مستوى بل شكلاً فنياً وكانت بعنوان «رجل ناصية الشارع».
نظم بورخيس الشعر عبر سنوات حياته. مع إصابة بصره بالضعف راح يركز على كتابة الشعر، خصوصاً وأنه كان بمقدوره حفظ قصيدة كاملة في ذاكرته.
تتناول قصائده التشكلية المتنوعة الاهتمام ذاتها كما التي في أعماله السردية، إضافة الى تناوله المسائل التي ظهرت في أعماله النقدية وترجماته. وعلى سبيل المثال فإن اهتمامه بالمثالية ظهر في عمله السردي «تلوّن في تلوّن»، كما في مقالته «دحض جديد للزمن» وفي قصيدته «أشياء»، كما وأن خيطاً مشابهاً يمر في قصته «أطلال دائرية» وفي قصيدته «الى غوليم».

يشكل الشعر قلب أعمال بورخيس الميتافيزيقية، الصوفية، بل والعالمية الانتماء. وكما ذكر بداية فإن الأعمال الأولى المنشورة لبورخيس كانت قصائد كما وأن الشعر هو ما عاد إليه في سنواته الأخيرة. وقد اعترف الرجل بديمومة وأهمية الشعر لديه في قصيدة له لعام 1960 بعنوان «آرس بوتيكا»: «أن ترى في الموت نوماً، وفي الغروب/ ذهباً حزيناً هكذا هو الشعر الذي هو خالد ومسكين. الشعر/ يؤوب كما الفجر والغروب».
على مر العقود تأمل بورخيس في الزمن، استحضر الأمزجة العديدة لمحبوبته بيونيس أيريس، كما وكتب عن النمور، المرايا والقمر، غالباً كاستجابة لتأملات شعراء كبار وروائيين من الماضي.
في محاضرة له ألقاها عام 1977 قال بورخيس «الحدث الجمالي هو واضح، مباشر، لا يحتاج الى تعريف تماماً كما الحب، طعم الفاكهة أو طعم الماء. نشعر بقرب الشعر منا كما دنو امرأة، أو كما نشعر بجبل أو خليج. إذا ما شعرنا به مباشرة، لماذا والحال هذه تخفيفه بمزيد من الكلمات، التي ستكون، من دون شك، أضعف من مشاعرنا؟».

كما وكتب عام 1977: «الحقيقة هي أن الشعر ليس في كتب المكتبات... الشعر هو في لقاء أو مقابلة القارئ مع الديوان، بل أنه اكتشاف الديوان.
ثمة أناس بالكاد يشعرون بالشعر، وهؤلاء هم مكرسون لتعليمه».
عام 1977 كتب بورخيس في مقالة بعنوان «الكوميديا الإلهية»: «في الحقيقة الشعر الجيد يجب أن يُقرأ بصوت عالٍ. القصيدة الجميلة لا تسمح بأن تُقرأ بصوت خفيض أو بصمت. إذا ما قرأناها في قلبنا، أي من دون صوت، فإنها ليست بقصيدة فعّالة: القصيدة تتطلّب اللفظ أو النطق. لطالما يُتذكر الشعر أنه كان فناً شفوياً قبل أن يغدو فناً مكتوباً. يُتذكر على أنه في بداية الأمر جرت معاملته كأغنية.
يتميز شعر بورخيس غالباً، والقصائد الصغيرة خصوصاً، بالبساطة، المهارة البلاغية والقدرة الاستحضارية للأحداث والمعلومات، ما حول قصيدته وحسبما يعرّف هو القصيدة أو كتابتها الى «سحر صغير»: كتابة قصيدة مثابة المحاولة على إبداع سحر صغير».

[الشريك في الذنب
يصلبونني ويجب أن أكون الصليب والمسامير.
ناولوني الكأس ويجب أن أكون شراب الشوكران السام.
خدعوني ويجب أن أكون الكذبة.
أضرموا فيّ النار ويجب أن أكون الجحيم.
يجب أن أمدح وأشكر كل لحظة من لحظات الزمن.
مطلق شيء يغذيني.
الوزن المضبوط للكون، الإذلال، بهجة النصر.
عليّ تبرير ما يجرح مشاعري.
حسن حظي أو سوء طالعي لا أهمية لهما.
أنا هو الشاعر.

[تتعلم
تتعلم
بعد فترة تتعلم الفرق الواهي
بين الإمساك بيد وبين تكبيل روح،

وتتعلم أن الحب لا يعني الاتكاء
وأن الصحبة لا تعني الأمان.

وتبدأ بالتعلم أن القبل لا تعني اتفاقات مبرمة
وأن الهدايا ليست وعوداً

وتبدأ بتقبل هزائمك
مع رأسك مرفوع وعينيك مفتوحتين
بسمو إمرأة، وليس بحسن طفل،

وتتعلم بناء كل دروبك على يومك الحاضر
لأن أرض الغد غير جديرة بالثقة بالنسبة الى الخطط

بعد فترة تتعلم...
إنه حتى أشعة الشمس تحرق إذا بالغت في الاقتراب.

لذا تقوم بزرع حديقتك وتزيّن روحك
بدلاً من انتظار شخص ما ليحضر لك الزهور.

وتتعلم أنه بمقدورك حقاً الاحتمال...
انك حقاً قوي
وأنك تطوي قيمتك بداخلك...
وتتعلم وتتعلم...

مع كل وداع تتعلم.

[سوزانا سوكا
بحب أعياه الضنى حدقت في الألوان
المشتتة للغسق. لشد ما سرها
خسارة نفسها داخل اللحن المتداخل
أو داخل الحياة اللماحة المضمرة داخل الشعر
ليس الأحمر الصرف بل تدرجات الرمادي
ما غزل الخيط الرفيع لقدرها
مع إبراز أدق التفاصيل التي بانت
جميعها في الارتعاشات، حالات الغموض والتواني
مع فقدانها عصب الجرأة لتطأ هذه المتاهة
الماكرة، نظرت باحثة عن من في الخارج،
عن الاشكال، الشغب، عن المكافحين الرعاع
(كما فعلت سيدة المرآة من قبل).
الآلهة التي تسكن البعيد متفرغة للصلاة
هجرة سوزانا من أجل النمر الأخير، من أجل النار.

[مرثاة
أواه، يا قدر بورخيس
أن تكون قد سافرت عبر مختلف البحار
أو عبر ذاك البحر المنعزل المتعدد الأسماء،
أن تغدو جزءاً من إدينبرغ، من زيوريخ، من الكوردبيتين،
من كولومبيا وتكساس،
أن تكون قد إبتَ مع نهاية الأجيال المتغيّرة
الى الأراضي العتيقة للأسلاف،
الى الأندلس، البرتغال وإلى تلك البلدان
حيث تقاتل الساكسونيون مع الدانماركيين
وامتزجت دماؤهم،
أن تكون قد تجوّلت عبر المتاهة الحمراء والهادئة
لمدينة لندن،
أن تكون قد غدوت عجوزاً في العديد من المرايا،
أن تكون سعيت عبثاً وراء التحديق الرخامي للتماثيل،
أن تكون استنطقت الطبعات الحجرية، دوائر المعارف، كتب الأطلس
أن تكون قد شاهدت الأشياء التي يراها الرجال،
الموت، الفجر المتكاسل، السهول،
والنجوم المرهفة،
أن تكون لم تشاهد شيئاً أو تقريباً لا شيء
فيما عدا وجه فتاة من بيونيس أيريس
وجه لا يريدك أن تتذكره.
أواه يا قدر بورخيس،
لعله ليس من قدر أكثر غرابة من قدرك.

[فن الشعر
أن نحدق في نهر مجبول من الزمن والماء
وأن نتذكر أن الزمان هو نهر آخر.
أن ندرك أننا نشرد كما النهر
وأن وجوهنا تتوارى كما النهر.

أن نشعر أن اليقظة ما هي إلا حلم آخر
أن أحلام عدم ممارسة الحلم وأن الموت
الذي نخشاه يدب في عظامنا هو الموت
الذي ندعوه كل ليلة حلماً.

أن نرى في كل يوم وسنة رمزاً
لكل أيام وسنوات الإنسان
وأن تحول شناعة السنين
الى موسيقى، الى صوت وإلى رمز.

أن نرى في الموت حلماً، في المغيب
أسى ذهبياً هذا هو الشعر،
متواضعاً وخالداً، الشعر،
الذي يؤوب كما الفجر والغروب.

يحدث أحياناً في المسايا
وجود وجه يرانا من أعماق المرآة.
حري بالفن أن يكون ذلك النوع من المرايا،
الذي يكشف لكل منا حقيقة وجهه.

يقال أنه بعد أن أضنَتْ العجائب يوليس،
بكى الرجل حباً برؤية إيثاكا،
المتواضعة والخضراء. الفن هو تلك الإيثاكا
هو الأبدية الخضراء، وليس العجائب.

الفن لا يعرف نهاية مثلما النهر المنساب،
عابر لكن مع بقائه، مرآة لنفس
هيراقليطيس غير الثابت، الذي هو نفس
الشخص بل وهو شخص آخر، كما النهر المنساب.

[الندم على أي من أنواع الموت
خال من الذاكرة ومن الأمل،
بلا حدود، يكاد يكون المستقبل،
الرجل الميت ليس رجلاً ميتاً: هو الموت.
كما إله الصوفيين،
الذي ما يمكن قوله عنه يجب إنكاره،
الشخص الميت، غريب في كل مكان،
ما هو سوى خراب وغياب العالم.
نسرق منه كل شيء،
ونتركه بلا لون أو صوت:
ها هنا، الباحة التي لم تعد عينه تراها،
في الهناك، الرصيف حيث يقبع أمله منتظراً.
حتى ما قد نفكر فيه،
قد يكون هو الآخر يفكر فيه؛

كما يفعل اللصوص قمنا بقسمة
غنيمة النهارات والليالي.

المستقبل - الاحد 7 تشرين الأول 2012