تعلّق القمر بأعلى شجرة الصفصاف.. وسرعان ما أتت حبيبتي

ترجمة وتقديم
فوزي محيدلي

شعر صيني لا عجب في ورود الكتابة عن الحب في ذكرى استشهاد قامة قلما ترقى إلى مستواها بقية القامات. رفيق الحريري الإنسان أماط اللثام عن حبه النوعي، بطريقة تكاد تكون ربانية بترفعها وغيريتها. حب رفيق الحريري فاض عن العائلة النواة، ليبلغ أشكال وأنماط كل من عرفه ولم يعرفه. حب الحريري لوطنه تجاوز الحجر والبشر فدفع الثمن غالياً في تفانيه، حتى نال الشهادة التي لا مثلها شهادة ولا يبلغها تقدير. كنت ترى الحريري صباحاً في باريس، ظهراً في الفاتيكان، ومساءً في نيويورك أو واشنطن، ولكن حبه الأكبر كان بيروت بل لبنان. وحبه لبلده لم يقتصر على إنشاءات البنى التحتية وطرد أوجه الحرب الأهلية بل عبّر عن حبه لبلده من خلال رفع المستوى الحضاري للبلد، بإرسال أكثر من أربعين ألف طالب لنيل الدراسة الجامعية في أرقى المعاهد والجامعات الأجنبية والمحلية. نعم الحب عطاء، وعطاء الحريري كان غير مشروط. وإذا كان الحب عطاء فمن غير قامة الحريري نتذكر في عيد الحب!

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، ننتقل تالياً إلى حب الشاعر الصيني القديم لبلده ولمحبوبته، علماً أن عُرى حب ذاك الشاعر لم يفصل بين حب الوطن، الدار، أو المكان وبين حب المحبوبة. لكن قبل الإطلالة على قصائد حب صينية أصيلة وتاريخية لا بد من نظرة على الشعر الصيني القديم أو على الشعر الكلاسيكي.

تطور القصيدة

ينطوي التطور الأسلوبي للشعر الكلاسيكي الصيني على عمليتين شفوية وكتابية غالباً ما تنقسمان إلى فترات أو حقبات معيارية، إن لجهة قصائد معينة أو لجهة أساليب مميزة لتلك الحقبات، التي عادة ما تكون مترافقة مع الحقبات المقابلة للسلالات الصينية الحاكمة، التي شكلت تحقيباً للمراحل الزمنية التقليدية للأحداث التاريخية الصينية. ما يلفت أن القصائد المحفوظة كتابياً هي ما يشكل الأدب الشعري القديم. ولا شك بوجود تقاليد شفوية لشعر تقليدية يعرف أيضاً بالشعر الشعبي والقصيدة اقلصصية التي حفظ بعضها كتابياً والتي لا يعرف ناظموها. أما المصدران الأساسيان الأوائل للقصائد المحفوظة منهما «الشي جينغ» (كلاسيكيات الشعر بين القرنين العاشر والسابع قبل الميلاد) و»التشي سي» أو «قصائد الجنوب». هذا لا ينفي أن بعض القصائد أو قطع منها ثابرت على البقاء في أشكال أخرى.

كلمة «شي» شكلت المعنى الأساسي لكلمة قصيدة أو شعر كما لوصف واحد من الأنواع الشعرية الليريكية (الغنائية) ويُربط باسم كونفوشيوس بقصيدة «الشي جينغ».
ولا بد من الإشارة إلى أن الكثير من هذه القصائد المبكرة (أبيات ثنائية)، وتتألف تلك الأبيات من أربع كلمات أو أربع مقاطع صوتية، مقفاة، وهي أنتجت تقليد البدء بوصف الطبيعة المؤدي إلى مضامين أو أبيات ذات تعبير عاطفي.

بدورها ترد قصيدة «التشو-سي» إلى كو يوان (بين 340-278 قبل المسيح) وإلى مريده هونغ يو، وتتميز بتأثيرها العاطفي الأقوى من «الشي» والمليئة عادة باليأس والوصف الخيالي. في بعض من مقاطعها قد تستعمل «التشو-سي» بيتاً من ستة أصوات مع استعمالها للمقطع الشعري الثنائي البيتين. بقي تأثير قصيدتا «الشي جينغ» و»الشوسي» عبر حقبات التاريخ الصيني.

يذكر انه خلال حقبة «السلالات الست» (220 ـ 589) شهد مسار الشعر الصيني الكلاسيكي تطورات مهمة تؤكد بشكل خاص على الحب الرومانسي، دور كل من الجندرين والعلاقات البشرية، وشهدت فترة سلالة «الجين» المنضوية إلى هذه الحقبة السداسية «أغاني منتصف الليل» الرومانسية الطابع.

خلال حقبة سلالة التانغ الموحدة للبلاد (618 ـ 907) أرست الثقافة الرفيعة مستوى عاليا لاشياء عدة بما فيها الشعر، ازدهرت مدارس عدة للبوذية (ديانة اتت من الهند) كما تمثلت في معتقدات تشان (أو مبدأ الزن) الخاصة بوانغ وي (701 ـ 761) وقد احرزت رباعياته الشعرية (جيوجو) التي تصف مشاهد الطبيعة امثلة عالمية للتفوق التعبيري في العالم، حيث ينطوي كل بيتين على صورتين او فكرتين متميزتين في البيت الشعري، من أشهر أعلام شعراء هذه الحقبة الكبير لي بو الذي استعمل كلا الاسلوبين من القديم المتحرر نسبيا والجديد المضبوط ايقاعيا. كما ظهر الشاعر توفو (712 ـ 770) الذي برع في الموزون والمقاطع السبعة في البيت ونحا صوب كتابة قصائد اكثر كثافة والماحا مع التقدم في العمر.

عبر حقبتي سلالة كل من المينغ (1368 ـ 1644) والكينغ (1644 ـ 1911) أصبح نظم الشعر الكلاسيكي مهارة شائعة بين المثقفين وقد احتفظ والحال هذه، بأكثر من مليون قصيدة، بما في ذلك التي نظمتها نساء إلى اصوات متعددة اخرى. وقد عمل رسامون ـ شعراء من أمثال شين زاهو (1427 ـ 1509)، تنانغ ين (1470 ـ 1524)

وين زنغ مينغ (1470 ـ 559) ويان شاو بنغ (1633 ـ 1690) إلى نظم قصائد قيمة وواضحة لدى جمعهم الرسم، الشعر وخط الكلمات أو الأحرف فوق الورقة بواسطة الفرشاة. لا يبدو أن الحقب الامبراطورية اللاحقة للصين قد شقت دروباً جديدة لمقاربات شعرية ابداعية، ما يجعل تلك الأعمال المحفوظة تبقى اداة تحدي وتحفز على إماطة اللثام عن ردات شعرية قديمة طالها عالم الانحجاب والخفاء.

خصائص أسلوبية

ثمة استعمال «شخصية الراوي الشعرية» غالباً في الشعر الصيني الكلاسيكي، بمعنى ميل الشاعر إلى كتابة القصيدة من وجهة نظر شخصي آخر من مثل الزوجة الوحيدة التي تركها خلفه في الديار وارتحل، او الجندي الذي أرسل للقتال وليموت في ما وراء الحدود البعيدة.
وثمة ميل إلى استعمال الشعر من اجل فقد المجتمع والأحداث. وهذا ما يتحقق غالباً عبر استعمال التصوير الرمزي. أحد الشعراء المشهورين على هذا الصعيد كان شاعر حقبة التانغ باي جويي.

هذا يحفزنا على القول أن بعض الصور وكذلك تقنية الرمزية غدت شيئاً تقليدياً بل أصبحت مفتاحاً لفهم العديد من القصائد الكلاسيكية الصينية على سبيل المثال فان ورقة شجر الخريف المتساقطة يمكن ان تشير إلى خطوة متدهورة للشاعر لدى البلاط أو الحبيبة.
وكان هناك ايضاً الالماح إلى مراجع أدبية سابقة أو إلى مادة فولكلورية شعبية سابقة ومعروفة جيداً... وتبعاً لخاصية اللغة الصينية القواعدية النحوية بل والجمالية ثمة عدم دقة حين يتعلق الأمر بالجندر، العدد، أو الحالة أو غيرها من عناصر الكلام الاخبارية التي قد يصعب تجنب عدم دقتها فيما خص تصريف بعض اللغات ولا سيما بعض اللغات الهندية ـ الأوروبية.

وثمة حث ايضا للقارئ على مشاركة الشاعر من أجل ملاقاته في منتصف الطريق لفهم الافكار العميقة للشاعر. كما يمكن للشاعر استعمال الطباق وتماثل عناصر الكلام إلى مناسبات ذاتية من مثل مغادرة الحبيبة للشاعر...

[ حالماً بزوجتي
سنوات عشر انقضت على وفاتك،
وخسر واحدنا الآخر
ليس بمقدوري تجنب خسارتي،
ولا نسيان الذكرى
ضريح وحيد وبعيد،
فيما تعجز عن وصف حزني الكلمات
إذا ما التقينا، هل بمقدور واحدنا التعرف
على وجه الآخر؟
صار مغطى بالغبار،
بشعري الذي غزاه الشيب بالكامل.

***

في هزيع الليل،
حلق حلمي،
وأعادني إلى منزلنا في القرية.
رأيتك واقفة عند نافذة
غرفتنا الصغيرة
تسرحين شعرك
صامتان، اكتفينا بحديقة،
من ثم انهمرت دموعنا.
في كل من ايام السنة،
أعرف أنَّى يمَّم حزني،
يتهادى في ليلة مقمرة
بين أشجار الصنوبر التي فوق الربوة
(سو شي)
نظمها الشاعر نحو عام 1077 بعد ان جاءته زوجته وانغ في الحلم.

[أسى
عند النافذة ثمة سيدة جميلة،
رفعت الدرفتين بعناية،
من ثم قطبت حاجبيها وجلست
غارقة في مقعدها، مستاءة
يمكن رؤية إنهمار الدمع فوق وجنتيها،
لكن لا أحد يعرف ممن تشكو
(لي بو 748 ـ 827)

[ في الربيع
تنمو أعشابك شمالاً بزرقة حجر اليشب الكريم،
شجراتنا التوت ها هنا ترسل أغصاناً خضراء تلتف كالخيوط
وأخيراً تفكرين بالعودة إلى الديار،
الآن بعد ان كاد قلبي ينفطر..
أواه يا نسيم الربيع، بما أنني أتجاهلك
لماذا تلاعب ستائري الحرير التي قرب سريري؟
(لي بو)

[ وحيداً في حضرة جمالها
من الأكثر منها جمالاً؟
مع ذلك تعيش وحيدة في واد خاو
أخبرتني عن تحدرها من عائلة طيبة المنبت
أودى بها القدر إلى الحضيض
... أجل حين شب الاضطراب في منطقة كيوان،
قتل اشقاؤها جميعاً والاقارب.
ما كان نفع مراكزهم العالية،
إذا لم تستطع حماية حياتهم؟
 
لا يحمل العالم سوى الإزدراء للحظّ العاثر،
والأمل ينطفئ كما نور شمعة.
زوجها صاحب القلب المحب للتنقل،
بحث عن وجه بديل لها كما يفعل مع حليه من اليشب،
وحين كان الق النهار يخبو
وتلتصق طيور البط ببعضها،
كل ما يستطيع رؤيته ابتسامة حبه الجديد،
فيما الحبيبة القديمة تنتحب من دون أن يسمعها أحد.
 
بدا الجدول صافياً عند منبعه الجبلي،
لكن بعيداً عن الجبل تغدو مياهه قاتمة عكرة.
... إذ هي تنتظر وصيفتها لتعود من رحلة بيع اللآلئ
لشراء ما يلزم لتغطية السقف من جديد،
تقوم بقطف بضع زهرات، ليس لتزيين شعرها،
كما تسمح لاوراق أغصان الصنوبر الابرية بأن تشك أناملها،
وناسية مقدار رقة كمها الحرير تجاه البرد،
تتكيء غروباً على قصبات الخيزران الطويلة.
( تو فو)

[ لحن الديار السماوية
فيما أنا أتنزه بين جنبات الربيع،
تتطاير بتلات أزهار اللوز في الهواء،
بعد أن أعارها الريح أجنحته
لتزين شعري.
من ذاك الشاب في الهناك.
غاية في الوسامة والجمال!
أنوي التنازل أمامه
مقدمة له يدي
لمدى العمر،
بعدها، حتى لو
تجاهلني معبراً عن عدم إكتراثه،
لا سبب يدعوني إلى النوم.
(ويي زوانغ 903 ـ 960)

[ في زيارة البوابة الذهبية
يحل الربيع مع نفحات مفاجئة،
محولاً بركة ربيعية الوجه،
إلى موج مترقرق.
تتهادى الحلوة في مشيتها فوق درب الشذا،
لتمر ساعة الانتظار،
مداعبة روح بط وقارصة مدقة زهرة لوز.
لمراقبة البط تنحني فوق الدرابزين،
فيميل دبوس شعرها اليشبي صوب الأسفل.
طوال الوقت هي بانتظار مواعِدها،
لكن لا أثر له عند البوابة.
تنظر صوب السماء فترى غراب عقعق
يناديها أن تنتظر
(فينغ يان يي) (1007 ـ 1072)

[ لحن الزعرور
في «مهرجان قنديل الزعرور «للسنة الفائتة،
بدا معرض الزهور ساطعاً كما في النهار.
تعلق القمر بأعلى شجرة الضفاف،
وسرعان ما أتت حبيبتي مساء.
إنه المهرجان نفسه هذا العام،
القمر والقناديل حضرت جميعاً
لكن مع هذه السنة، كان حبي قد رحل.
مع دموع تبلل كمَّاي، أراني فريسة الهجران
أويانغ غيو (1030 ـ 1116)

23 فبراير 2014