ترجمة وتقديم
فوزي محيدلي

شعر هاييتي شكلت هايتي البلد الثاني في العالم الجدي الذي أعلن استقلاله، بعد الولايات المتحدة، في عام 1804. وكانت أول دولة بل أمة سوداء تعلن استقلالها. حتى ستينات القرن الماضي شكلت الفرنسية اللغة الرسمية للبلاد، رغم تكلم ما يزيد عن 90 في المئة من السكان لغة الكريول عام 1961 أعلنت لغة الكريول، بموجب الدستور، اللغة الرسمية للبلاد مع بقاء الفرنسية اللغة السائدة، لا سيما بين الأغنياء والنخبة المثقفة، بل وحتى في بعض الدوائر والمعاملات الرسمية.

لا شك ان اختيار الشعراء الكتابة بلغة الكريول اشبه ما يكون باعلان سياسي قوي. وتشكل موسيقى هذه اللغة جزءاً مكملاً بل عضوياً لقصائدهم. تقول الأديبة ميريت ميولر ان للغة الكريول ايقاعاً وطاقة يمكن ان تتبدد لو اختار الشعراء الكتابة بالفرنسية.

اللغة والأدب

لطالما ارتبط بل تداخل الأدب الهاييتي مع الحياة السياسية للبلاد. وقد تطلع المثقفون الهايتيون تتابعاً صوب التقاليد الأدبية لفرنسا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، فضلاً عن تلك الثقافة الافريقية للطابع. لطالما شكل تاريخ هايتي مصدراص غنياً من الالهام للأدب، لا سيما لجهة أبطاله، انتفاضاته وطقوسه.

ثمة فرضيتان بخصوص ولادة لغة الكريول التي يرتبط تاريخها بشكل وثيق بالحقبة الكولونيالية. تقول احداها أن الكريول ولدت من ضرورة تواصل المجموعات المختلفة فيما بينها. وضمن هذه النظرية، فقد تطورت كريول هاييتي في القرن السابع عشر على ارض «جزيرة السلحفاة» حيث عاش المستعبدون الافارقة، المغامرون القراصنة والمستوطنون الأوروبيون سوية. أما النظرية الثانية فتقول أن لغة الكريول الهايتية ولدت على ساحل الأطلسي الكولونيالي البرتغالي من افريقيا في القرن الخامس عشر و»صُدّرت» من ثم عبر تجارة الرقيق.

يوجد أكثر من مئتي لغة كريول أو لغة مرتبطة بها. وهي سواء استفادت من الانكليزية، والإسبانية او الهولندية أو الفرنسية، كما هي الحال في كريول هايتي، تبقى الكريول لغة الذاكرة الجماعية، مكتنزة رمزاً للمقاومة. تتواجد الكريول في القصص، الأغاني، الشعر. ركز مناصرو الاثنية الانديانية (الهندية) الجذور لثلاثينات القرن العشرين والحركة الزنجية على الأصول الافريقية لشعب الأنتيل، مضفين عليها هوية فقدتها في كثرة الترحال والاستعمار اللاحق. لكنهم اعتبروا الكريول رغم ذلك لغة الرق.

بدورها قامت الحركة الكريوليتية، التي أعقبت هؤلاء السكان الاصليين إلى اعادة تأهيل لغة الكريول التي لم تعد معهم لغة الرق بل «تل اللغة التي ابتكرناها سوية لنواصل الحياة». إذن ثمة نقلة حدثت من الفرنسية إلى الكريوليتية..

أنطولوجيا شعر كريول الهايتية

عمل كل من الشاعرين المكرسين في هايتي والولايات المتحدة ايضاً، بول لاراغ وجاك هيرشمان طوال ثماني سنوات على إعداد انطولوجيا (مختارات) شعرية ثنائية اللغة (كريول هاييتي والانكليزية) عنوان هذا العمل «البوابة المفتوحة» جاء بمثابة مساهمة ليريكية مهمة للدراسات الأدبية والثقافية الهايتية، بمعنى أن هذا المجلد «يفتح البوابة» على العالم الالسني للغة الكريول الهايتية.

يقسم لاراغ وهيرشمان عملهما إلى ثلاثة اقسام، عنوان القسم الأول هو «الرواد» والذي يغطي قصائد نظمت بين أوائل خمسينات القرن العشرين وأوائل ثمانينات ذاك القرن والتي كتبها أوائل الكتاب الذين استعملوا الكريول على أنها اللغة الاساسية للتعبير من امثال فيلكس موريسو ـ ليوا وكلود اينوسنت، بول لاراغ وجورج كاستيرا والذين أطلق عليهم ايضاً تسمية «الآباء المؤسسون» والذين وفدوا جميعهم في النهاية إلى اميركا الشمالية كمنفيين سياسيين، بمعنى انهم شكلوا ظاهرة الدياسبورا التي شهدت على ظهور كتابة الكريول من قبل تجمعات هايتية في كل من الولايات المتحدة وكندا على مدار اربعين عاماً.

أما القسم الثاني فسمي «جمعية اليراعات« وقد حازت اسمها في المجموعة الادبية الهايتية ذاتها التي لم تزل حاضرة، والتي اسست خلال حكم الرئيس دوفاليه، من قبل ارنست ميرفل عام 1965. ولا بد من الإشارة إلى ان العديد من اعلام هذه الجماعة وبسبب انتخاب فرانسوا دوفاليه رئيساً عام 1957. وتبعاً لاسباب سياسية فروا إلى أميركا الشمالية. وما يضيف إلى فرادة هذه الجماعة ان اثنين من اعلامها الموجودين في الأنطولوجيا المذكورة وهما الشاعران ديتا وايمانويل يوجين تمتعا بتميز مرموق داخل عالم الأدب الهايتي. وكما يشير بول لاراك في الانطولوجيا فقد كانت ديتا من أوائل شاعرات هايتي اللواتي كتبن بلغة الكريول. من جهته عاد ايمانويل يوجين إلى هايتي عام 1986 بعد ان تدبرت الولايات المتحدة امر تخلي ابن فرانسوا دوفاليه وخليفته، جان كلود، عن السلطة والتوجه للاقامة في فرنسا. لدى عودة ايمانويل يوجين إلى البلاد عمل على المساعدة في اصدار صحيفة «الحرية».

يركز القسم الثالث على الأصوات الشعرية الشابة التي نتجت عن الدياسبورا الهايتية. مهما يكن ثمة شعراء من أمثال لينوس ساربرايس وباتريك سايليفن ولدوا في هايتي. لكن هذا لا يمنع ان نذكر ان بعض هؤلاء الشعراء امضوا طفولتهم او قسماً كبيراً من مراهقتهم بعيداً عن شواطئ هايتي: سابرايس ترعرع في مونتريال وسايكفين جاء إلى الولايات المتحدة بعمر 15 سنة. آخرون من امثال جاكلين سكوت وسور بارون، غدوا شعراء ناضجين وقاموا بنشر الشعر على مدى الخمس عشرة سنة الأخيرة، وكذلك فانهم كما سابرايس وسايلفين ايضا، يمثلون تشكيلة واسعة من الدياسبورا الهايتية (سكوت مقيمة في افريقيا وبارون في نيويورك).

لا بد قبل الانتقال إلى سبر الاهتمامات غير العسكرية بل الثورية في الانطولوجيا من الاشارة إلى انه ليس فقط الحكم الفرنسي ورجالاته الهايتيين ما اثار الحمية التمردية للشعراء بل ان الولايات المتحدة غدت مستعمرة للجزيرة لمدى 19 سنة ابتداء من عام 1915، ما جعلها مرتبطة اجتماعياً وسياسياً ايضاً بجارها العملاق. وهذا ما طرح مسألة الهوية امام أهل هاييتي مع انهم كانوا قبلاً ايضا في كنف الفرنسيين.

يعمل كل من لاراك وهرشمان على تصنيف معظم القصائد ـ فيما عدا تلك التي نظمتها «جمعية اليراعات« ـ استناداً إلى التجمعات الأدبية التي انتجتها. ولا بد من الاشارة إلى انه في كل من تلك التجمعات ثمة قصائد تحاول ايصال مواقف ثورية. لكن في الوقت نفسه، كل تجمع أو قسم يعمل على ايصال اهتمامات يمكن اعتبارها من خصوصيات الشعراء المتضررين فيه ضمن جماعة «الرواد» تنبلج المواضيع أو التيمات مباشرة من الوقائع الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية للرجال والنساء الهايتيين العاديين على مدار السنين الثلاثين التي يغطيها نتاج الجماعة. بعض الاهتمامات التي تبرزها هي: كابوس ديكتاتورية روفاليه، بلوى الفقر، الأمل بتحرر هاييتي من البؤس والفساد حيث «الجميع سيكونون جميلين»، كما جاء في الصفحة 51 من الانطولوجيا.

ومع ان القسم الثاني «جمعية اليراعات«، يطاول مسائل مماثلة، الا انه يختلف عن الجماعة السابقة كون الكثير من القصائد ذات جرعة اهتمام ذاتي ـ أدبي اقوى، سواء لناحية الموضوع او الشكل الشعري. ثمة مثلا قصائد «ونغول» من نظم ايرنست ميرفيل، بمعنى أنها «الونغول»، قصائد من بيتين حتى ستة أبيات وتحمل رسالة موجزة تعبر غالباً عن عدم رضى عميق من الوضع القائم. وقد تطور شكل قصيدة الونغول «الأشبه بالهايكو اليابانية خلال ستينات القرن العشرين في هاييتي على يد شعراء آخرين من مثل إيمانويل يوجين الذي استعمله لقصائد أطول.

القسم الأخير، الجماعة الثالثة، أو «الجيل الجديد»، يعكس في الكثير من القصائد حساسيات هاييتية تأثرت إلى حد بعيد بتجارب وأشكال بعيدة عن الشواطئ الهاييتية في قصيدة «ربيع» يجري الشاعر دانيال سيميدور مقارنة ضمنية بين فقراء وسكان حي هارلم النيويوركي وبين أناس هاييتي: كلا الطرفين منسيّان من قبل معظم العالم ويكافحان لنيل «قطعة من النجم، شقفة من العدالة»، ومن جهتها تنتقد قصيدة «كيف؟» لتونتونغي اللاروح لدى أهل الشمال، لا سيما قوة ذلك الشمال للاستيلاء على البلدان وتدمير الأنظمة البيئية للعالم.

في حين يمكن اعتبار «البوابة المفتوحة» نوعاً من الاحتفاء بشعر لغة الكريول، إلا أنها موجهة بالوقت ذاته لذكرى فيليكي موريسو ليوا، أب الأدب الكريولي في هاييتي، الذي توفي عام 1998. وقد أصبح موريسو ليوا خلال شبابه في ثلاثينات القرن العشرين الناطق باسم «حركة الغريوت» التي كان هدفها «إحياء إيقاع الموسيقى السوداء» من خلال البحث عن عبارة شعرية من داخل الأشكال والتقنيات الشعرية الإفريقية الجذور. وقد تطورت تلك الحركة من اتجاهات وميول موجودة ضمن حركة فنون السكان الأصليين لعشرينات القرن العشرين والتي ركّزت على الحاجة إلى النظر داخل الحدود الثقافية الهاييتية بدلاً من التطلع إلى الخارج بحثاً عن الأشكال والمواضيع الفنية. مهما يكن نحا موريسو ليوا باتجاه نخبوية تجريبية لحركة السكان الأصليين باحثاً أيضاً عن تضامن أدبي مع الجموع الفلاحية والعمالية، تاركاً تالياً «حركة الغريوت» وممهداً لما سيعرف لاحقاً بجيل 1946. وأكثر ما يعكس توجهات هذه الحركة قصيدة موريسو ليوا: «أحياناً لست ذاتي»: «ثمة جذوة ثورة تغلي في عروقي/ حصاني سُرّج/ أنا مستعد للانطلاق/ برق ثورة يطلق صوته/ إذا ما كنت تمتلك الشجاعة خذ يدي/ سُرّج حصاني/ دعنا ننطلق».

نعم شكل موريسو ليوا أباً بروميثياً (من سارق لشعلة الآلهة بروميثيوس) لكل من أتى بعده من الشعراء. هو أيضاً من بنى بوابة تؤدي إلى حرية إبداعية أكبر لكل كتاب هاييتي الذين أتوا بعده...

[يقولون
يقولون
دم الإنسان
يخصّب التربة
إذا كان هذا صحيحاً
أعيد، إذا كان هذا صحيحاً
يا أصدقائي
كيف يمكن
للرز
والذرة
النمو
في هاييتي؟
(سوزان بارون)
 
[فتاة السادسة عشرة
فتاة السادسة عشرة
واقعة في زاوية شارع «ماين»
في الحادية عشرة ليلاً
مرتدية فستاناً باهت اللون
فتاة في السادسة عشرة
تقف وحيدة
تحت الممر المقنطر
غير منتظرة الباص
غير منتظرة شخصاً معيناً
في البيت والدتها تتضور جوعاً
وعلى وشك الموت
لكن الفتاة تفضل الوقوف
هنا مع جمهور
الحادية عشرة ليلاً وسط البرد
في شارع ماين
(وودوف مايل)
 
[دماء
دعينا نذهب لرؤية الدم يسيل،
يا حبيبتي.
لمرة واحدة في العمر،
ليس دم الناس هو الذي يندلق،
لمرة واحدة في الشارع
ليس دم الحيوان ما يراق
لنذهب لرؤية الدماء تسيل،
يا حبيبتي:
إنها الشمس في حالة غروب.
(جورج كاستيرا، ولد عام 1936)
 
[ميثاق
عندما أرحل عن العالم، إجعلوا السهرة
المعتادة على جثماني جميلة
لست ذاهباً إلى الجنة ولا إلى الجحيم
لا تجعلوا رجل الدين يستعمل اللاتينية فوق رأسي
تجمعوا يا كل أصدقائي، أقيموا مأدبة كبيرة
لا تمروا بجثماني على دار العبادة
حين اموت حري بكل إنسان أن يسعد حقاً
إضحكوا، غنوا، إرقصوا، إسردوا الدعابات
لا تصيحوا عالياً، لا تصرخوا في أذني
لن أكون انتهيت حالما أموت
كل الأماكن التي كان فيها ضربات أنفة،
حيث الناس أحرار لا محالة سيتذكرونني
(فيليكس موريسو ليوا 1913-1998)
 
[أواه، يا آيدا (قصيدة ونغول)

- 1
أتوقف أحياناً
لأتطلع فيكِ، يا آيدا،
فيغزل رأسي
صحيح أن شعرك مجعد
لكن الليل يرتاح في تشابكاته
أواه، يا آيدا
تندلق أشعة الشمس
فوق كل أسى في وطننا
ويبقى الجوع وليمة الأطفال
مع خواء الأمعاء
يملأ الليل جرة
ثم يخفق ليغدو بشير حياة، رقيقاً كما ورقة
تصبح أحلام اليقظة
ورقة بنشاف لكن
يا إنسان، الظلام كثيف
أواه، يا آيدا!
متى ينبلج نور النهار؟
يكافح الزومبي لتدركهم نعمة الموت
النجوم توشح السماء، ثم تتساقط
تستفيق العصافير، تزقزق
إسهري على المنزل، يا آيدا

- 2
يستدق النجم مَبْرياً ويسقط
فالقاً جبهتي
من الصدغ إلى الصدغ
يحترق البرق
داخل أحشائي
تفقّص ألسنة اللهب
داخل فؤادي النابض
يمكنك جزي،
إقتلاعي، أن تقذفيني إلى البعيد بإصبعك
يمكنكِ حرقي
تحويلي إلى فحم
لكن العصافير لن تتوقف
عن بناء أعشاشها في جذوري
الأمل لا يذوي
بل يزهّر في داخلي
أنا شاعر
وجذوري تنمو متينة...
 
حين يتجاوز الريح القانون
أتساءل نصْلُ من سيجز كفليه؟
حين يهز المحيط تنورته التحتية
من ذا الذي سيقول أنه بلا حياء؟
حين يهجم الرعد قارعاً رقصة الفودو
من ذا الذي سينهض ليرقص؟
(إيمانويل يوجين)
 
[استفاقة الزومبي
مذ كنتُ ولداً دأبوا على خنقي،
يقبضون عليّ، يحشونني داخل برميل
لا يتسع أبداً لي
يحشونني داخل بندقية ضغط
يهرسونني كما حبة المانغا
يهرسونني كما الموزة
يرفضون السماح لي بفتح فمي
لأعبر عما في رأسي
«ليس عندك ما تقوله، أنت مجرد ولد!»
لكن حين أسير بين الناس
أرى كل من يمرّ بي
هو بشكل نفسه
إنهم يدفنوننا أحياء
إنهم يحشوننا في الأرض
كما العبيد يحجزون داخل حقل قصب السكر
حينما لا ينطوي الأمر على ضربة سوط حصان، يا والدي،
لجعلنا نسير في خط مستقيم
البديل بندقية العسكر أو المخابرات
لكن صبيحة هذا اليوم
وفيما الملح فوق لساني
لا شيء سيوقفني عن قول كلمتي!
(ألكسن آكو)

المستقبل- مارس 2014