ترجمة وتقديم
فوزي محيدلي

دونا تارتتقول عن نفسها أنها رسامة منمنمات من النوع الذي يهتم بتطريز التفاصيل، كما في قول بول فاليري «الفوضى هي شرط إنتاجية العقل». هي شديدة التدقيق حتى أن هواها يكمن في صياغة الجملة بل الكلمة المناسبة، الاستعارة اللائقة، وهي تنشغل في تحريك فاصلة من مكان إلى آخر لساعة. ترى هذه المرأة المستقلة، متأثرة بسارتر ونيتشه، أن فكرتها عن «الجحيم هي حياة منزلية محتشدة ومضايقة»، مضيفة، «بعض الناس يحبون ذلك، إلا أن ذلك هو أسوأ كوابيسي».

إنها دونا تارت، الروائية «الظاهرة» على مساحة الرواية الأميركية بل العالمية. «إذا لم أكن أكتب، أكون غير سعيدة. هذا كل ما في الأمر. هذا الشرط الأساسي لإحساسي بالسعادة». ما يقارب من عشر سنوات تفصل بين كل عمل من رواياتها الثلاث. تعلق على تأنّيها هذا «يسألني الكثير من الناس، لماذا لا تكتبين بشكل أسرع؟ وقد حاولت ذلك، لأتبين إذا كان بمقدوري الأمر. لكن العمل بتلك الطريقة لا تجعل الكتابة تأتيني بشكل طبيعي. سأصاب بالبؤس إذا قمت بتقديم كتاب كل ثلاث أو أربع سنوات. إذا لم أجد متعة في كتابة العمل، لن يجد الناس متعة في قراءته. لا أود أن أكون أشبه بمن تركب لعبة في لحظة ما. أقصد ما المعنى من فعل ذلك؟».

أتت رواية تارت الجديدة «الحسون»، بعد رواية أولى نُشرت عام 1992 بعنوان «التاريخ السري»، حين كانت في الثامنة والعشرين واستلزمت ثماني سنوات من الكتابة، والرواية الثانية «الصديق الصغير» نشرت عام 2002، استغرقت كتابتها عشر سنوات، وفي الفترة نفسها التي استغرقت روايتها الجديدة المؤلفة من 771 صفحة. «أراني أشبه برائدة فضاء أو ما شابه»، تقول تارت. «وقد وفدت إلى هناك حقاً منذ زمن طويل. إنها رحلة بحرية طويلة، أو أشبه ببعثة قطبية تعود بعدها إلى اليابسة وثم...» تقول الكاتبة العزباء هذه التي تبلغ 49 عاماً ذات عينين خضراوين تتميزان «بنظرة الصقر».

باعثها، الحبكة والأسلوب

قامت تارت بالجولة الأميركية لرواية «الحسون» ثم سافرت إلى هولندا لتعود إلى لندن حيث تقيم، ومن ثم تنطلق إلى باريس وبروكسل وعواصم أخرى ترويجاً لهذا العمل. فالرواية صنفتها الأوساط الأدبية في أميركا وأوروبا بأنها من أهم الروايات الصادرة أخيراً.

«حين يسألكِ الناس لماذا كتبتِ هذا أو ذاك، تلجئين أحياناً إلى اختلاق الأسباب» وتضيف تارت «لكن الجواب الحقيقي هو، لا أعلم السبب». وأفضل جواب يحضر في بالها هو قول راديارد كيبلنغ: «إنحرف، إنتظر، وأطِع».

مهما يكن في عام 2000، وقبل سنتين من نشر روايتها «الصديق الصغير»، قام المتطرفون الإسلاميون بتدمير النصب البوذي العائد للقرن السادس في باميان بأفغانستان. هذا حدث ما قبل صدمة أيلول 2001 (في أميركا). «وكان الأمر مدمراً لكياني الداخلي».

كل هذا ألهمها بكتابة شيء ما عن الإرهاب والفن. وحصل أن بدأت تراودها فكرة صبي مهووس بلوحة. أرادت لوحة «تستهوي صبي». بعد البحث وأثناء زيارة لها عام 2003 إلى أمستردام وقد بصرها على نسخة من لوحة «الحسون» في دار للبيع خاصة بثوذبي مرسومة عام 1654، سنة وفاة رسامها فابريتيس. شكلت هذه اللوحة الصغيرة صورة رقيقة لعصفور صغير مربوط إلى مجثمه بسلسلة.

«المرة الأولى التي رأيته في اللوحة، تعلقت به بقوة»، تقول تارت. «هذا العصفور الصغير، الشجاع والجليل المنظر يأسرك ثم تبان السلسلة... ورد في الآبانيشاد (الهندية) أن عصفوراً مقيداً بسلسلة يمثل استعارة للأنفاس داخل الجسد البشري... جسدنا هو المكان المقيّد، المكان حيث نحن عالقون. الأنفاس هي الروح باللاتينية. هذه مفارقة البشرية نحن مخلوقات ذات أجنحة على مستوى معين، لكننا محجوزون كذلك. بمقدورنا الطيران، لكننا لا نستطيع ذلك..».

تبدأ الرواية في نيويورك مع صبي في الثالثة عشرة يدعى ثيو دكر فيما هو يحاول مع والدته تجنب تساقط المطر بالدخول إلى متحف متروبوليتان إلى القسم الخاص بالمعروضات الفنية. فيما هو يتجول في الداخل تقع عيناه على فتاة يافعة اسمها بيبا فتتسارع دقات فؤاده.

بعدها تنفجر قنبلة إرهابي تُقتل والدة ثيو. يخرج ذاهلاً من وسط الدمار حاملاً خاتم ذهب دسّه في يده العجوز المحتضر جد الفتاة، ومع الخاتم أيضاً لوحة سقطت عن الجدار، «الحسون»، من رسم الهولندي فابريتيس في القرن السابع عشر.

تتبع الحبكة السنوات العشر التالية من عمر ثيو، ابتداء من مأواه الموقت لدى أسرة أحد أصدقائه الأغنياء في منطقة بارك آفنيو الراقية حيث يشعر عندهم ببرودة حياة تلك العائلة، ثم يتعقب الفتى العنوان الذي أعطاه إياه العجوز، «هوبارت وبلاكويل»، الذي تبين أنه محل لبيع التحف، واكتشف أن هوبارت، تاجر التحف، كان شريك الجد القتيل. زار ثيو الفتاة بيبا في محل بيع التحف، ومن ثم يظهر في حياته والده المقامر الذي كان يعيش مع صاحبته في الضواحي الشبحية لمدينة لاس فيغاس. بعدها ينصرف ثيو إلى لعب دور بائع مفروشات أشبه بالتحف. وبعد حياة متطرفة في بيئة والده من سرقة ومخدرات يعود إلى نيويورك ليعمل لدى هوبارت. تعقب ذلك فترة من التيه في عالم الجريمة وتهريب التحف وتعاطي المخدرات. لكن طوال كل ذلك يحتفظ ثيو بلوحة «الحسون» التي ذكرته بموت والدته وبوجوده المتقلقل، «تلك النقطة الساكنة حيث كل شيء يتمحور: الأحلام والإشارات، الماضي والمستقبل، الحظ والقدر».

التقنية والنثر الأنيق

تارت الكاتبة التي بدأت في سن الثالثة عشرة نشر قصائد في مجلات منطقة المسيسيبي وحازت على جائزة أي مسابقة دخلتها على هذا الصعيد، تعتمد طريقة الكتابة البيزنطية. تكتب بالقلم، من دون اختزال، على دفاتر ملاحظات ذات شريط معدني لولبي، مضيفة أفكاراً وتصحيحات بالأحمر، الأزرق، ومن ثم قلم الرصاص الأخضر بعدها تضيف بطاقات مفهرسة لها لمواكبة الحبكة والشخصيات. حين يتحول الأمر إلى «فوضى قوية» تلجأ إلى طباعة مخطوطتها على الكومبيوتر، لتعود وتطبع المسودات التالية على أوراق مشفرة على أساس ملون. «يمكن انتقاء المسودة ذات الورق الزهري فأعرف أنها المسودة الأولى أو أختار الرمادية أو الزرقاء، التي هي المسودة الأكثر حداثة. لذا إذا احتجتُ لشيء من متن مسودة أقدم زمناً أعلم تالياً أين أجدها (من خلال اللون). لقد أخبرني أستاذ تعليمي اللغة الفرنسية ذلك الأمر منذ سنوات عدة، وقد وجدتها مفيدة».

كما قلنا سابقاً، تصف نفسها «برسامة منمنمات ترسم جدارية بريشة من حجم رمش العين: تقوم بإنجاز عمل دقيق جداً، ومفصل جداً لكن فوق مدى شاسع وفترة زمنية طويلة. لهذا يأخذ وقتاً طويلاً».

منذ البداية يدرك القارئ سبب تعلقه بكتابة دونا تارت، حبكة طنانة ونثر أنيق، إلى شخصيات نابضة بالحياة ومسرح أحداث آسر، هو بأغلبه في مانهاتن، لكن مع انعطافات إلى فيغاس وأمستردام. يبدو أن تارت تفهم كل تلك العوالم، العالية والهابطة، وهي متصالحة مع كفاح الإنسان لحفر نوع من المعنى، فكرة عن الجمال، من جوف الموت الوحشي والمحتم.

لا عجب أن هذا العمل الذي تتساوى فيه موازين الأسى والفرح يجعل «الحسون» معلقاً داخل أفدئتنا.

بقلم ينضح بذكاء تارت نقع بالنهاية «على مضاعفة بل مفارقة»، «ترى العلامة، وترى اللوحة من أجل اللوحة ذاتها كذلك ترى أيضاً الطائر الحي» الذي يتعجّب من الوزن المادي للوح الخشبي للوحة، يتعجب الطائر المرسوم من وزن اللوحة المباغت. التفاعل ذاته ينطبق على «الحسون» كراوية.