("عيد العشاق" لسامر أبو هوّاش)

سيلفانا الخوري
(لبنان)

سامر أبو هوّاش"وحدهن"، تصرخ فيروز في مكان ما من الأغنية. صرخة طالعة من أعماق القلب، تجرح، كل مرة، قلبها. فقط حين تصرخ فيروز على هذا النحو، فقط هذه الكلمة، بالأحرف الخمسة: "و.ح.د.ه.ن" تشعر بهذا الحزن الهائل يغمر كيانها كله. ربما لو غنت فيروز هذه الكلمة فقط، لكان كافياً. أليس زمناً كاملاً من الوجع والانهيارات والخواء والتفجع والانتظار والشوق والحرقة الذي ترويه هذه الكلمة، هذه الصرخة؟ لعلها قصة حياتي، "وحدهن" هذه. تفكر جنان".
لكنها ليست قصة جنان وحدها، إنها قصة كل شخصيات رواية سامر أبو هواش الأولى "عيد العشاق". وهي بالنسبة الى شاعر وافد الى الرواية، فيها من الشعر تلك النظرة الثاقبة والرؤية المختلفة التي تتجاوز الظاهر والمرئي من حوادث الحياة اليومية لأفراد عاديين لتتوغل أكثر وابعد في مجاهل الطبيعة البشرية الشديدة التعقيد والعلاقات بين الأفراد. وفيها تلك الإشارات التي وحدهم الشعراء يجيدون التقاطها، مما يجعل الرواية أشبه ب"تفصيل" من لوحة الحياة الكبرى. نوع من "زوم ان" يقوم به الكاتب لكنه في الوقت نفسه منفتح على المشاعر الإنسانية ببعدها الاشمل والأوسع.
في رسمه شخوص روايته وحوادثها يرسم أبو هواش بورتريه لجيل يعيش عند تقاطع زمنين. فمروى، جنان، حازم ووليد يمثلون ما آل اليه جيل زياد الرحباني، هذا "الشباب الثائر والرافض للبنى التقليدية" الذي جعلته الخيبات المتكررة يلوذ في انغلاق على الذات، غارقاً أكثر فأكثر في نفسه وتساؤلاتها القلقة. لكنهم كذلك رمز لإنسان اليوم الذي يعاني صعوبة واضحة في تواصله مع الآخرين، نظره موجّه دوماً الى داخله، أسير طقوس وعادات يخاف بانهيارها انهيار أمان هش يتمسك به، حتى تبدو كل شخصية في الرواية أشبه بجزيرة منعزلة. فهذه الكائنات الوافدة الى القرن الحادي والعشرين هي في الدرجة الأولى كائنات وحيدة، مصابة بشعور مزمن بالغربة حتى في أكثر اللحظات كشفاً وحميمية. هذا كله يجعلها تعيش فصاماً بين ما يعتمل في داخلها من مشاعر وما يجري خارجها من حوادث. لكأن هوة ما شديدة العمق تفصل بين الداخل والخارج لدى كل الشخوص، قد تصل أحيانا الى الانقطاع التام. فهم بلغوا المرحلة التي أتم فيها الزمن قص أجنحتهم وتدوير زواياهم، فكفوا تالياً عن محاولة التوفيق بين الداخل والخارج، مقتنعين في واقعية شديدة المرارة بأنه لا يسعهم تغيير العالم. وفي اللحظات القليلة التي يحصل فيها تواصل ما مع من حولهم لا يستمر طويلاً، وسريعاً ما يعود كل منهم الى شرنقته فيما الأسئلة والشكوك تبدأ بتآكله. فها مروى بعد ليلة حب مع حازم وصلت حتى الانكشاف التام، تعود الى شرنقتها متسائلة: "السعادة؟ هل هذه هي السعادة؟ هل أنا سعيدة حقاً؟ وإذا كنت سعيدة حقاً فلماذا أفكر بالسعادة؟ شعرت بلمسة اغتمام تجتاح قلبها بمجرد ان خطرت لها كلمة السعادة. كانت الطريق أمامها لا تزال في بدايتها. أحست برغبة جامحة بالبكاء".
في عالم لا شيء ثابتاً فيه ولا شيء دائماً وكل شيء قابل للتبدل، للانهيار في كل لحظة ولتبديل وجهة الأبطال، حدث خارجي واحد سينجح في إخراجهم جميعاً من عزلتهم لمرة واحدة لكن مصيرية. حدث واحد يقسم الرواية جزءين، ومعه حياة هؤلاء الأشخاص الى ما قبل 14 شباط 2005 وما بعده. لكن هذا التاريخ في الرواية ليس حدثاً سياسياً بقدر ما هو عامل محفّز، معرٍّ حتى، يضيء على الحميم والشخصي. كان يمكن هذا اليوم ان يكون مثل كل عيد عشاق سابق، لكنه لن يكون كذلك. وبالنسبة الى أشخاص ينتمون الى جيل كان في مرحلة ما منخرطاً حتى العظم في "الخارج" وقضاياه، سيرغمهم هذا الحدث على الخروج من قوقعتهم الى الميدان العام، على النظر، رغماً عنهم حتى، مجدداً الى الخارج. ولمرة واحدة في الرواية كلها يضحي هناك "خارج" غير ثانوي. خارج ينجح في اجتياح "الداخل" المغلق وصدمه وخربطة أمانه الهش، ليتشرّع الداخل على الخارج وتختفي الحدود بينهما للحظة قبل ان يعود كل منهم الى داخله الحصين.
وإذ تغلق الرواية على مشهد يشي بآخَر افتتحت عليه، في إيحاء بدورات الحياة التي لا تنفك تكرر نفسها، وفي تأكيد لعدم دوام المصير الذي آلت اليه الشخصيات، تصير الرواية أشبه بالحياة: حلقة تكمل دورتها لتبدأ من جديد.
ينجح أبو هواش في "عيد العشاق" في قيادة القارئ الى ابعد، الى النقطة التي يصير فيها التماهي مع كل شخصية من شخصيات الرواية أشبه بالاستحواذ التام، في "رؤية" للحياة بعيدة عن كل تبسيط للمشاعر أو تسطيح لها، حيث لا مكان لأي يقين. فالحب ليس حباً والكره ليس كرهاً والنفور يخفي مشاعر أخرى. كذلك هي الحدود بين النجاح والفشل، بين الحزن والسعادة، حدود شديدة الهشاشة وسريعة العطب.
في الواقع ليست "عيد العشاق" رواية حوادث بقدر ما هي رواية شخصيات ومشاعر، يرسمها الكاتب في واقعية مروّسة، وإن تكن تخفي رومانسية مخذولة تبدو شفافة الى حد الامحاء، يقابلها سرد انسيابي، ولغة تقول الأمور كما هي بلا تعقيد أو مواربة. وهذا يمنح الرواية صدقاً بعيداً عن كل تزلّف لغوي أو أسلوبي، لتمسي شخصياته مشرّعة على القارئ بقدر انغلاقها على ذاتها.
على لسان حازم وهو يفكر في حياته الجنسية مع زوجته مروى، يقول سامر أبو هواش في مكان ما من الرواية: "الناقص هو اللغة. ما قبل الجنس وخلاله وبعده. اللغة التي تعني عرياً كاملاً، عرياً حقيقياً"، وهذا ما لا يتوانى الكاتب عن فعله: تعرية تامة للشخصيات، لغوية وأسلوبية، في ما يشبه التشريح لنفوس تغلي فيها التساؤلات ويخضّها الأرق.

النهار
الاثنين 17 تشرين الأول 2005


إقرأ أيضاً: