الياس خوري
(لبنان/أمريكا)

ضجة في البحرين، وضجة في دمشق، هناك يحاكمون شاعراً لأنه أحب، وهنا يدمرون مدينة وذاكرة. وفي الحالين تدور الحرب على ما تبقى من قيم إنسانية وثقافية.
في البحرين يحاكمون عرض "مجنون ليلى" الغنائي – الراقص، لقاسم حداد مارسيل خليفة، وفي دمشق يقررون هدم أسواق قديمة تمهيداً لبناء ناطحات سحاب ومجمعات تجارية. وفي المكانين تدور حرب على الذاكرة و الحاضر.
غريب أمر العالم العربي اليوم. كأنه فقد توازنه الداخلي، وذهب الى تدمير نفسه وتحطيم قيمه الأخلاقية و الإنسانية.
تقول النظرة الأولى أن لا علاقة بين الحدثين. ففي البحرين قامت الدنيا ولم تقعد لأن مارسيل خليفة لحن قصيدة "مجنون ليلى" للشاعر البحريني قاسم حداد، والتي افتتحت مهرجان الربيع الثقافي في المملكة. وفي سوريا يجري الإعداد لمشروع هدم سوق  المناخلية و سوق العمارة، بحيث يتم القضاء على المنطقة الموازية لشارع الملك فيصل، وتهديم أجزاء من دمشق الأيوبية و المملوكية. صبحي حديدي أطلق على أصحاب المشروع اسم "ضباع الشام"، واعتبره جريمة ضد تاريخ الشام.


ماذا نسمي أصحاب الحملة على "مجنون ليلى في البحرين؟
حيث تشكلت لجنة تحقيق برلمانية يقودها النواب الأصوليون من التيارين الشيعي و السني، لمحاكمة الحب؟
لماذا يستفزهم الجمال  ولا يجرأون على سماع صرخة "قل هو الحب"، كأن تحرر الإنسان يهدد فقهاء العتمة الذين يتحكمون بهذه الساعة العربية المنقلبة.
يسكتون، بل يتواطأون، مع وجود القواعد العسكرية الأمريكية في كل أنحاء الخليج، من البحرين إلى قطر، ثم يتمترسون خلف دعوات أخلاقية ودينية للانتقام من الفرح ووأد الالتماعة في العيون.


حدثان لا رابط بينهما سوى رياح الانحطاط التي تهب على القارة العربية.
في دمشق هناك من لا يعرف المدينة و يكرهها ويكره تاريخها.
وفي البحرين هناتك من لا يعرف الثقافة العربية ويكره الشعر و النثر.
هنا وهناك نشهد انقلاباً ثقافياً لا سابق له في تاريخ العرب.
شعراء الحب من قيس إلى جميل إلى عمر بن أبي ربيعة ملأوا العصر الأموي بأريج الفتنة. ولم يُـقتل منهم أحد، ولم نسمع عن لجان تحقيق شكلت لمحاكمة إباحية عمر أو غزليات جميل، ولم يجرؤ أحد على التعدي على خمريات الأخطل أو على جنون قيس بن الملوح.
أما اليوم، وفي زمن العولمة، حين يتراكض أسياد النفط على افتتاح المتاحف في الصحراء، من "اللوفر" ف ابوظبي، إلى متحف "غوغنهايم"، وتدفع المليارات لتأسيس ثقافة الصحراء، فيأتي من يعطي الشعراء والموسيقيين العرب دروساً في الأخلاق، ويدافع عن الأصالة من دون أي معرفة بثقافة العرب، يوم كان العرب.
نسألهم هل يريدون مع امرئ القيس؟
هل يجرؤون على إنشاد معلقته الحافلة بالمشاهد الجنسية الإباحية؟
هل يفعلون بالأعشى وعمرو بن كلثوم وعمر بن أبي ربيعة و المتنبي وبشار بن برد وأبي نواس؟
وإذا منع هؤلاء كلهم، وشكلت لجان التحقيق معهم، فماذا يبقى من أدب العرب.
لماذا لا قولون أنهم يكرهون الأدب و الشعر و النثر و الموسيقى و الغناء؟\
أخرجوا أيها السادة من هذه اللعبة، فالنقاش ليس حول التسامح.
نحن لا نريد تسامحاً أو عفواً، بل نحن من يتهم.
وربما كان خطأ المثقفين العرب أنهم لا يزالون، لسذاجتهم وحسن طويتهم، يتعاملون مع هذه السلطات  التي لا حدود لخنوعها أما سيده الأمريكي، ولا نهاية لتعاميها عن احتلال فلسطين ومآسي العرب في العراق، فإذا بها تعطي حرب بوش "الصليبية" كل التسهيلات، ثم تهجم على الثقافة باسم الدين.

المصالحة مع هذا النظام العربي صارت مستحيلة، لأنه نظام الانحطاط و الجهل. لم يسبق للجهلة أن تجرأوا على الأدب و الفن مثلما يتجرأون اليوم. أخذوا فتاوى من فقهاء لا يعرفون، وحاولوا قتل نجيب محفوظ ثم طردوا نصر ابوزيد من وطنه، قبل أن يصلوا إلى شعر محمود درويش، في طريقهم إلى اغتيال قيس بن الملوح.

هذا الجهل يصل اليوم إلى ذروته في اعرق مدن العرب وأجملها.
روى جاد تابت في كتابه " الاعمار و المصلحة العامة- في التراث و الحداثة: مدينة الحرب وذاكرة المستقبل" (دار الجديد- بيروت) حكاية محاولة تدمير سوق الحميدية عام 1963، بناء لاقتراح من المهندس الفرنسي ميشال ايكوشار، الذي أراد إظهار جمال قلعة صلاح الدين الواقعة شمال غرب السور، عبر تدمير سوق الحميدية الذي نبي في العهد العثماني.
واجهت هذه المبادرة حملة استنكار واسعة تخللتها تظاهرات واضطرابات أقنعت المهندس الفرنسي باستحالة تدمير سوق يحمل الكثير من المشاعر الوجدانية بالنسبة الى الدمشقيين.
أما اليوم فإن عواء الضباع يمتزج بخرافة الرأسمالية النفطية المتوحشة الآتية من الخليج، و التي لا هدف لها سوى الربح السريع، ولا يلوي شركاؤها من أولياء النظام السوري على شيء، لأن علاقتهم بالثقافة والعمارة و التاريخ لا تختلف في شيء عن علاقة لجنة التحقيق البحرينية بالشعر العربي.

إننا أمام حلقة مفرغة، ولعل الحملة السفيهة على كبير المسرحيين العرب سعدالله ونوس، تجسد احتقار النظام الدكتاتوري للوجدان الثقافي.

في بيروت، حاول المثقفون و المعماريون اللبنانيون منع تدمير المدينة القديمة. ورغم أن المدينة كانت شبه مدمرة بعد أعوام الحرب الطويلة، ورغم أن التراث المعماري في بيروت القديمة لا يقارن بتراث دمشق الأيوبي و المملوكي و العثماني، فإن الثقافة اللبنانية خاضت معركة كبرى أثبتت فيها أنها ترفض أن تموت.

السؤال الموجه اليوم الى الثقافة السورية التي تعاني القمع و السجن و المنع و التخويف، بل هو موجه إلى وجدان " قلب العروبة" الذي اختنق فيه النبض في ليل القمع، وهو سؤال عن مستقبل الثقافة العربية، الذي هو كناية عن مستقبل العرب.
الذين يحاكمون قيس بن الملوح، عبر قاسم حداد ومارسيل خليفة، في البحرين، لا يشبهون إلا الذين يهدمون الشام العتيقة في سوريا.
لكنهم لا يعرفون أن ثقافة استطاعت أن تعبر كل هذه القرون، وانتصرت على المغول و الفرنجة وسطوة المماليك والانكشارية، لن تموت، وستقاوم مبرهنة أن ثقافة العرب أقوى من هذا الانحطاط الزاحف.

النهار الثقافي
31 آذار 2007

***

ربيع الثقافة أم خريفها؟

وديع سعادة
(لبنان/ استراليا)

يحاول مثقفون عرب أن يجعلوا من الثقافة العربية ربيعاً،
فينبري لهم ظلاميون ويعيدونها إلى خريفها، إلى وضعها في القبو المظلم، بعيدا عن الشمس و العواء الطلق، كي تذوي وتيبس تحت عباءاتهم.

هذا ليس كلاماً شعرياً، هذا واقع حدث مراراً في الدول العربية، ويتكرر حدوثهـ آخره، وليس أخيره، ما حدث في "ربيع الثقافة" البحرين، وكدنا نعتقد، لردود الفعل عليه، أن ما حدث هو هول حقيقي على الأمة كلها وعلى الدين كله، كدنا نعتقد أن قاسم حداد هو أسامة بن لادن متلبسا ثوب شاعر، وأن مارسيل خليفة هو أيمن الظواهري متلبساً ثوب موسيقي، كدنا نعتقد أن "مجنون ليلى" فقد كل الرقة وكل الحب وكل الجمال، وجاء على البحرين لكي يقوضها.

لا نعرف ماذا نقول لمن يعتقد الحب إلحادا، والجمال كفراً، لا نعرف بأية لغة من الضوء نكلم الجالسين في الظلام، الكلام أساساً، هو نوع من الضوء بين متكلمين، وإن قطع أحد هذا السلك فما نفع الكلام؟ وأي ضوء يبقى بينك وبينه لكي يراك أو تراه؟
وحين تنعدم الرؤية بينكما وينعدم الصوت، فما نفع أن تقول له : رأيتُ جريمتك؟
وماذا ينفع أن تصرخ به: لا تقتل؟

الجالسون في الظلام يعتقدون أن هناك عيناً واحدة في السماء تنظر فقط إليهم لا إلى سواهم، وصوتاً واحدا موجها إليهم وحدهم يخولهم فعل ما يشاؤون، الجالسون في الظلام يعتقدون أنهم الصوت الوحيد و العين الوحيدة، اللتان تشكلان الكون كله، و الناس كلهم، على ما تشاءان، وما عداهما يجب أن يكون بلا صوت ولا رؤية.

ربيع الثقافة العربية، الذي بأزهار كثيرة وأشجار كثيرة وعيون كثيرة وأصوات كثيرة، يحاول ظلاميو العين الواحدة و الصوت الواحد أن يجعلوه خريفاً.
 وهل تبقى من هذا الربيع ورقة واحدة خضراء، إذا زُجَّ في مقبرة تحت الأرض؟
ما لا يفقهه الظلاميون أن النبت يطلع حتى من تحت الحجر، وأن الزهر أيضا يطلع من فوق المقابر.
فيا قاسم حداد، ويا مارسيل خليفة، و يا أيها الربيعيون جميعكم، سلاحكم أن الظلاميين لا يعرفون قانون الطبيعة، وبهذا السلاح الجميل المسالم الطبيعي الرقيق العنيد، سيشق الربيع طريقه ويزهر .. حتى وفق القبور.

اليمامة
السبت 28 ابريل 2007

أقرأ أيضاً: