(كتاب العصا" نصوص جديدة للشاعر التونسي منصف الوهايبي)

جهاد الترك
(لبنان)

منصف الوهايبيقد لا يبدو الشعر، كما هو متعارف عليه، إعادة اكتشاف للعالم، على الأقل في ما ينحسر من مشاهده تحت قشرة الواقع المألوف. ليس الأمر كذلك على الدوام، ليس من شأن الشعر أن يكتشف الخير في العالم فقط. كما ليس من عادته أن يتبرع، مجاناً بسد النقص في الأشياء، وهي التي وجدت، منذ الأزل، عارية من الكمال. كما ليس من تقاليد الشعر أن يتحلى بصفة القداسة. ولا ينبغي له أن يكون قديساً من الدرجة الممتازة. قد يتطلع أحياناً الى أن يكون من شياطين الجن ليتحرر من قانون الجاذبية، أو ليتولى القيام بمهمات من النوع الذي تخجل منه الملائكة. ومع ذلك، لا يبدو الشعر حريصاً على العالم كما هو. على النقيض من ذلك، لا يظهر لهفة عليه. لا يكترث به. لا يتعاطف معه، قد يستخف به قليلاً أو كثيراً. غير أنه من دون شك يستبد به، ويحرص على أن يُلحق به الأذى. وأن يفقده إحساسه الرتيب بنفسه، أن يثير جنونه، أن يدخل اليه احساس عميق بالنقص والدونية. قد تبدو هذه التصورات قريبة أو بعيدة من المنحى الشعري الذي يسلكه التونسي منصف الوهايبي، في نصوصه الجديدة "كتاب العصا وقصائد من فهرست الحيوان" الصادرة عن "دار النهضة العربية" في بيروت 2007.

الارتحال

نلحظ في هذه النصوص شغفاً كبيراً بالشعر أكثر منه بالتعبير عن منظومة من الأفكار أو الهواجس أو التأملات باستخدام الأسلوب الشعري وأجوائه المعقدة. الأرجح أن الوهايبي لا يبدي اهتماماً يذكر بترجمة الفكرة أو الموقف أو حتى التساؤل الى مادة شعرية.. يرتحل مع خبط الريح العشواء في بحار الذاكرة. لا يستهدف اتجاهاً بعينه أو مكاناً يقصده. فقد تعمد، على الأغلب، أن يلقي بوصلته وراءه ليفقد إحساسه بالمكان والزمان وضرورات الجغرافيا. لا يهمه من هذا الارتحال سوى الارتحال نفسه. يضرب بعصاه أينما يصل ايذاناً بأنه لم يصل بعد، يختبر مشاهداته تحت مجهر اللغة. لا يرى إلا اياها وهي تتحدى الأشياء جميعاً رغم الواقعية الصلبة التي تقف عليها هذه الأخيرة. وقد افتتح كتابه بنص ذي دلالة حقيقية على ما يذهب اليه في تجربته الشعرية. يكتب في نص بعنوان "كتاب العصا": (في ضباب من الضوء حيث الهواء يتلابس والظل، قال الكتابة تلزمها كلمات مفاتيح، لكنها لم تدر قط في قفل قافية من قوافي امرئ القيس والمتنبي، الكتابة لا تفتح الباب إلا لتغلقه، ولذا كان لا بد أن يتبقى لنا في الأصابع، من عضة الباب، أبيض جرح، وفي الكلمات دم الكلمات...). ليس مصادفة، والحال هذه، أن ينطلق الوهايبي في ارتحاله من اللغة نفسها بما تنطوي عليه من قدرة خارقة على انتهاك العالم بأعز ما يملك من ثبات واستمرارية وقوة مذهلة في أن الإقناع يشكل وحده الحقيقة التي لا يرقى الشك الى قداستها. الكتابة، في هذا السياق، ليس من شأنها أن تفتح أبواب المعرفة، بل أن تغلقها لتفتح أبواباً أخرى ثم تغلقها من جديد. وهكذا دواليك، ليس من مهمة الشعر، وفقاً للنص، أن يقدم شرحا وافياً عن الكيفية التي يدور بها العالم. الأرجح أنه بدلاً من ذلك، يتصدى لهذه الكيفية الرتيبة، المألوفة، ليقول قولاً آخر. ليثير الشك وعدم الطمأنينة والارتياب في ما يعتبر نسيجاً مثالياً للعالم يتعذر الطعن في صدقيته. يحدث هذا في منطقة يتداخل فيها الضباب بالهواء بالظل دلالة على انعدام الوضوح وانحسار الواقع من المشهد الشعري واستبداله بالظلال. هناك تصبح الرؤية أكثر صفاء بالكلمات. تتجرد الأشياء من أشكالها الزائلة لترتدي بعضاً من حقائقها التي يحجبها الواقع في العادة.

الحجارة العمياء

يرتحل الشاعر، منذ البدء، وفي ظنه أن للعالم عقلاً آخر وذاكرة أخرى وحلماً غير الذي اعتدناه. يكتب في مقطع آخر من النص الآنف عينه: (الكتابة تحتاج منا الى كلمات أصابع، تحتفر الأرض، توقظ أعمى الحجارة، حتى إذا نهض البيت فوق رؤوس الأصابع، قلنا: إذن كان لا بد للبيت بيت القصيد من يد حرة، كان لا بد كي نتوحد نحن وهذا النشيد...). ليس في هذا العالم ما يدعو الى الطمأنينة والاستكانة. فحجارته عمياء منذ الأزل وستبقى كذلك الى الأبد. عالم أعمى، ذو بصيرة كفيفة لا يدب النور فيها إلا بكلمات تحفر عميقاً في الأرض لتوقظها من سباتها المزمن. العالم، في هذا السياق مستسلم لنوم ثقيل لا تداهمه الأحلام. ذاكرته مقفلة بحجارة عمياء، يسير بقوة الغريزة العمياء كذلك. عالم تسوده الأشكال الميتة تماماً كالحجارة الصماء العمياء. لا يعتد به، ولا يوحي بأن ما فيه كفيل ببث حياة من النوع الذي لا يموت. وحدها الكلمات، وحده الشعر قادر على معالجة حالة الموات فيه. عندئذٍ يصبح ممكناً التوحد مع النشيد عندما تندلع الروح في الجسد الميت. ليس في هذه الصورة، على الأرجح، ما يوحي بأن الشاعر يندب العالم، أو أنه يطلق نداء استغاثة لانقاذه من أثقاله الأبدية، ليس في النص شيء من هذا القبيل، لا يستهدف منصف الوهايبي، على نحو من غنائية حزينة، إطلاق صرخة رثاء للعالم وهو يقبع تحت ارث مديد من سكينة جوفاء. على النقيض من ذلك، يبدو أكثر انهماكاً بإثارة الشكوك فيه وإنزال اللعنات عليه وجعله مرذولاً، غير أنه، وهو يفعل ذلك، يكتشف منفذاً ذاتياً له يتمثل في ايجاد مرادف له من خلال غسل كامل للذاكرة، والأرجح تطهير لمكوناتها مما علق بها من أدران تكدست فيها على نحو قسري، إنه الشعر الذي لا يسعى الى ترميم العالم بالكلمات بل إعادة تشكيله من جديد بما يتلاءم مع الطبيعة الحية للذاكرة. تصبح هذه الأخيرة هي العالم الجديد الذي يرتحل اليه الشاعر لا هرباً من القديم بل اكتشافاً حقيقياً لما فات الإنسان أن يفعله، فسقط في مستنقع الرتابة.

ذاكرة الملح

يكتب الوهايبي في نص بعنوان: "سفينة ترشيش": (في أول فجر بعد الطوفان وطأت قدماي الماء. لم يبق من الطوفان سوى ذاكرة الملح الأعمى طعم طفولتنا. لم يبق سوى ذكرى العشبة اخت النسيان البيضاء...) الأغلب أن الشاعر، في هذا النص، لا يحكم على العالم بالطوفان، لا يزعم ذلك ولا ينسب الى نفسه هذه القداسة المدمرة. يصف العالم كما يراه بعينه التي لم تعد قادرة على التآلف مع الأشكال القابعة تحت مسام الرماد المغلقة على نفسها. ومع ذلك، يبدو العالم، في هذا السياق، طوفاناً دائماً لا تنحسر مياهه على الاطلاق. وما المياه التي وطأتها قدماه سوى تلك التي ارتحل اليها في الذاكرة. كلما ذاق طعمها شعر بملوحتها العمياء التي تذكره بطفولته مصحوبة بذكرى العشبة التي يلفها النسيان أيضاً. الطفولة، في هذا المعنى، قد لا تعدو كونها ما تبقى من ذاكرة الشاعر عندما كان تائهاً في غمرة الطوفان. والدليل أن طعم الملح الأعمى لا يزال يطفو على سطح الذاكرة، الطوفان، في هذا الإطار، هو اللعنة التي ينزلها العالم على نفسه وهو في حالة العمى الدائم. الطوفان شكل آخر أكثر قسوة للعمى، والعكس صحيح أيضاً. أما الفجر المرتقب فيبزع في الذاكرة. هناك تنحسر المياه القاتلة، تظهر الضفاف واضحة للعيان. يتلألأ العالم الآخر بأشكاله الجديدة، لا فكرة خلاصية في هذا النص، على الأرجح، بل انتقال إرادي، في الذاكرة، الى حيث لا ينتقم الطوفان من العالم الأعمى. هناك لا عمى ولا طوفان ولا طغيان للموت الدائم وهو يحفر بصماته عميقاً على كل الأشياء.

بعد الطوفان

ولكن ماذا بعد الطوفان، على الأقل في شكله الافتراضي؟ يكتب في نص بعنوان "روما ذات صيف": (الآن هنا أدرك أن الأعوام تضاعفنا.. إنّا ما عدنا نسمع غير صدى جسدينا وعلينا أن نبدأ ثانية، أن نتعلم مثل العميان...). الانتقال الى ذاكرة بلا طوفان هو الذروة التي يبلغها الوهايبي في كتابه. هو البداية من الصفر التي تفترض بالضرورة ضرباً من التعلّم لم يكن متوافراً من قبل. قطيعة مع العالم القديم بحجارته العمياء، ووثوب الى العالم الجديد الذي يحفر في الذاكرة بإزميل من الدهشة. ومع ذلك، ثمة عمى هو من نسيج بزوغ الفجر القادم من المجهول. ليس مردّ هذا العمى الى حالة الموات التي كانت سائدة في زمن الطوفان، بل الى الحاجة القصوى للانسجام مع أجواء الدهشة. فلهذه الأخيرة ثقافتها أيضاً. من تداعيات الدهشة أنها تسبب العمى لهول المفاجأة التي تنطوي عليها. كما أن عدم الاستجابة للدهشة نابع أيضاً من ثقافة زمن الطوفان حيث تنكفئ المفاجأة فتصبح هي الأخرى شكلاً مرادفاً للحجارة الصماء. التعلّم الذي يشير إليه الشاعر في هذا النص هو الاستعداد للولوج الى زمن الحلم المتجدد على إيقاع الدهشة. ولأن الحلم كالنهر الجارف لا بد من التعلم الدائم لاكتساب مهارات تتلاءم مع الزمن الجديد. لا حدود للحلم، إذاً فلا حدود للتعلم. الذاكرة، في هذا السياق، مستنفرة للتخلي عن مخزونها كلما دعت الحاجة الى ذلك. تواجه عملية لا نهاية لها من التطهر الدائم من مكوّنات تبدو أبطأ كثيراً في حركتها من مستجدات الدهشة التي ترافق الحلم في تدفقه القوي. إنه زمن القطيعة، على الأغلب، مع عالم قديم يشير إليه الشاعر بالموت دلالة على انغلاق الأشياء على نفسها وهي تسقط تدريجاً في دوامة الجمود المطلق. يكتب في نص بعنوان "ذات شتاء": (هذا الأجوف سميناه الموت ولا اسم له. زمن ينصل في الأحجار، وصوت ما ينهض من حيث صنوبر تابوت كان يتدلى في البئر، يتنقل بين ضفاف وظلال.. ثمة أصوات ما هائمة لم تعثر بعد على كلمات: الميت نام. تعرّى حتى العظم. رجاء لا تزعج راحته...).
لا اسم حقيقياً للموت. نحن أطلقنا عليه هذه التسمية. إنه أجوف لأنه يتنمي الى زمن من طينة الأحجار الميتة. والأرجح، وفقاً للنص، إنه لا ينتمي الى أي زمن على الإطلاق، بدليل أن الأصوات المنبعثة من القبر تفتقر الى كلمات تعبّر عنها. الموت، في هذا السياق، هو الوجه الآخر لزمن الطوفان. الأصوات الهائمة لا تشير بالضرورة الى الميت الذي تعرى عظمه، بل ترمز الى زمن بكامله قبل بزوغ الفجر الذي تحدث عنه في نص ورد آنفاً. الموت هو الحد الفاصل بين ذاكرة تتلاشى بين الضفاف والظلال، وذاكرة أخرى تنهض من تحت مياه الطوفان. الانتقال من هذه الى تلك لا يكون إلا بالحلم، باللغة القادرة على اختراع عالم جديد. ونقيض ذلك هو اللغة القابعة تحت ذاكرة الملح الأعمى. مغامرة مثيرة للجدل والدهشة والشك واللعنة، هي تلك التي يرتحل فيها منصف الوهايبي من عالم الى آخر.. من الحجارة الميتة الى الحلم المتدفق في الذاكرة المشتعلة.

المستقبل
21 /آب/ 2007