("كأنني امرأة مطلقة" نصوص شعرية ليحيى جابر)

جهاد الترك
(لبنان)

يحيى جابرقد يبدو الشعر، أحياناً، أقرب إِلى صاحبه من حبل الوريد. ومع ذلك، كلما دنوت منه ابتعد عنك، حتى ليخيّل إلينا أن ثمة مطاردة غير مجدية لفصيلة من أشباح متفوقة الذكاء. ليس الأمر على هذا النحو من التبسيط وإن بدا كذلك. الأرجح أن ثمة سوء تفاهم يتضخم يومياً. ينمو كالطحالب. يتلبس اشكالاً، من بينها وجه الوحش الذي يصادر اللغة في ارتعاشتها الأولى. يلتهمها في مهدها قبل أن تتفتح حلماً جميلاً في الذاكرة. للأسف، لا يعترف الشعر بسوء تفاهم كهذا مع اللغة واشيائها ومكوناتها. يشترط قتل الوحش قبل أي شيء آخر ليصطحبنا في رحلة إلى المجهول، غالباً ما نسقط فيها الى الهاوية.

قاموس الأشياء لأغلب أن يحيى جابر في نصوصه الشعرية الصادرة مؤخراً عن "دار النهضة العربية" في بيروت 2007، بعنوان "كأنني امرأة مطلقة" يسعى إلى الاقتراب من الشعر ومداهمته والقاء القبض عليه متلبساً بتهمة ارتكابه لأكثر التفاصيل انتشاراً في الحياة اليومية. يخوض معارك قاسية لانقاذ مفرداته من بين أنياب الوحش الذي أدمن أكل اللغة نيئة. تقنية محسوبة جيداً يستخدمها جابر بذكاء مدروس لتنقية الكلمات من تكلس أصابها نتيجة لاحتجابها عن مدار الرؤيا. يندر، في النصوص، الا يستخدم هذه "المعادلة" الواعية في استدراج معظم المفردات التي تحاصره في مشاهداته اليومية ليدرجها في قاموسه الشعري. يعيد تشكيلها بعد أن يطلق سراحها من شرنقة الرتابة. ثم يقحمها في ايقاعه الشعري على نحو لا تعود هي اياها، إلى حد كبير. يخترع عالمه استناداً الى هذه الادوات التعبيرية بعد أن يصوغها من جديد، وهو يبث فيها حركة داخلية كانت تفتقر اليها من قبل. لا شيء محرّماً، في هذا السياق، على الأرجح. قد يبدو جابر محقاً في ذلك، وهو يرفد الحلم بمقتنيات من شأنها ان تجعل من دائرة الرؤيا أكثر اتساعاً في كل الاتجاهات.

يبدو هذا التوجه، بالتحديد، هو البوصلة التي تقود هذه النصوص نحو الغاية التي يبتغيها جابر. يظهر ولعاً قلّ نظيره باعادة انتاج أشيائه الأكثر قرباً اليه، وما قد يتفرع منها من تفاصيل ملقاة على هامشها أو منثورة على حوافيها القريبة والبعيدة. يتلمسها، على الأرجح، بحميمية هي أقرب الى الولاء منها إلى أي شيء آخر. انها سبيله الأكثر انفتاحاً على الحلم وهو يتدفق عليه من أسفل. ولا يأتيه من فوق، على الاطلاق. دائرة الرؤية، في النصوص، لا تبعث على ايحاء عميق يذكر بصورتها الكلية. بل بجزئياتها الصغيرة، وأحياناً التافهة او المبتذلة. ومع ذلك لا شييء تافهاً او مبتذلاً أو وضيعاً في سياق الرؤيا المتكونة. يخطو جابر، في هذه المتاهة المعقدة، شوطاً بعيداً، إلى الحد الذي لو أقدمنا على اسقاط أي من هذه الجزئيات او التفاصيل لاهتزت الرؤية. اللقطات الفوتوغرافية هي أشبة بأحد مربعات الكلمات المتقاطعة، يختل نظامها بالكامل اذا ما فقدت أياً من مربعاتها.

ستنفاد المفردات

ومع ذلك، لا يبدو ان جابر يحيد عن هذه المعادلة. والأغلب ان أشياءه جميعاً لم تعد لتعطيه مجالاً ليتملص منها، أو يهملها او يتناساها.اصبحت جزءاً لا يتجزأ من ذاكرته الشعرية. باتت، على الأرجح، الجسر الوحيد الذي يصله بمنطقة الحلم. هناك حيث تختلط الأوراق، وتنقلب اللغة على نفسها، وتموت الرؤيا أو تبعث من تحت الرماد. يجتهد جابر كثيراً، كما يبدو في النصوص، ويتكبد مرارة المفردات وحلوها، وهو ينقب عن اشيائه، واحداً تلو الآخر ليدخلها الى مصنع الحلم. مهمة صعبة، على الأرجح ومحفوفة بالمخاطر كذلك.

فحتى تستقيم المفردة في البناء الشعري، ينبغي أن تتعرى من ردائها التقليدي. ان تتنكر لذاتها. ان تتمرد على ماضيها، والا بقيت خارج اللعبة، أو سقطت في منتصف الطريق قبل أن تصبح من نيسج الرؤيا. على هذا الاساس، لم يعد مفرّ، والحال هذه، من أن يتعامل جابر مع كل من هذه المفردات وكأنها حالة خاصة، في حد ذاتها. يستحضرها الى النص، أولاً. ثم ينفض عنها غباراً كثيفاً، ثانياً. وبعد ذلك، يعيد تشكيلها بما ينسجم مع طبيعة الفكرة. واخيراً يشحنها بطاقة تعبيرية بحيث لا تبدو متنافرة مع الايقاع الداخلي للحظة تكون الصورة الشعرية. النصوص ملأى بهذه التقنية المعقدة، على الأغلب. غير انها تستجيب لمزاج الشاعر، وتشبثه بالبحث الصعب عن اعادة ترتيب أوراقه الشعرية.

للحظة المجتزأة

ينطوي هذا التوجه الذي يختزنه جابر بكثافة في نصوص الكتاب، على ما يشرّع العملية الشعرية لتساؤلات عدة، يبدو معظمها ملحاً. من بينها: هل ثمة احتمال في أن يستنفد الشاعر قاموس أشيائه وقد أتى عليها من كل حدب وصوب، على نحو يصل بهذه النصوص إلى حد الاشباع المتخم بمئات المفردات المستقاة، مباشرة، من مسرحه اليومي؟ واذا كان الأمر كذلك، هل يصطدم الحلم لديه بما يعيقه عن التدفق بعد أن استحوذ على كل الأشياء والتفاصيل والمفردات؟ الأرجح، في هذا الاطار، اننا نقع، في الكتاب. على شيء كثير من هذه الاشكالية التي لا تبدو مريحة جداً للشاعر وهو يطلق غريزة البحث والمصادرة على مدار الساعة. ومع ذلك، لا يبدو ان في الفضاء العام لهذه النصوص، ما يشير الى تعب مبكر لدى جابر من الاستمرار في تعقب هذه التقنية المرهقة وتدارك تداعياتها لانقاذ النص من التكرار الممل. الأرجح أن سبيله، الى ذلك، هو استرشاده باللحظة التي تشكل قاسماً مشتركاً بين أشيائه الكثيرة واستدراج هذه اللحظة الى كنف اللعبة الشعرية في ايحاءاتها البعيدة. كل من هذه النصوص، على وجه التقريب، مرتبط، بشكل أو بآخر، بلحظة محددة يقتلعها الشاعر من مجراها الزمني الأوسع، ليضفي عليها زمنه الذاتي. اشياؤه المتناثرة المتشظية في ارجاء النصوص لا تدل، في الأغلب، على احساس غريزي بانسياب موحد للزمن بأشيائه وتفاصيله. اللحظة هي الزمن المطلق لديه بعد أن يجري استئصالها، او بترها، من السياق الزمني الأشمل. ولأن الأمر كذلك، يصبح بمقدور جابر أن يوظف اشياءه وتفاصيله ومفرداته وفقاً للحركة الداخلية لأي لحظة بعينها حتى وان اضطر الى استخدام هذه المفردات نفسها في نص آخر. يتجاوز الشاعر اشكاليته، على هذا النحو من التنويع في اللحظة الواحدة، بايحاءاتها المتنوعة. المفردة عينها لا تعود مدعاة لهذا القلق من بلوغ حد التخمة في استنفاد كل الاشياء بمسمياتها.
ومع ذلك، نتساءل عن جدوى الرؤيا الشعرية وقدرتهاعلى البقاء والاستمرار، على مستوى التدفق الايحائي، اذا بقيت محصورة في اللحظة الواحدة، ومشدودة، بالمطلق، الى ايقاعها الزائل. قد يعزى هذا الاسلوب التعبيري المحدد الى مزاج الشاعر، وطبيعته، والكيفية التي يرى العالم من خلالها. في نصوص الكتاب، يبدو جابر معنياً باعادة انتاج وتشكيل مشاهداته، على نحو من لحظات مجزأة، لا يجمع بينها سوى ميل الشاعر الي الانتقال السريع من لحظة الى أخرى. لا يطيق، على الأرجح، الاقامة الطويلة في اللحظة الواحدة. يلقي بها وراءه ليلتقط غيرها. وهكذا دواليك. طريقة ذكية للسخرية من الزمن الغامض!

من الكتاب، نقتبس نصاً بعنوان: "فاعل خير"...
وألبسك وأتلبسك... يا حمامتي السمراء
أنت ثيابي وكسوة العيد
وأنت مفرداتي الزاهية
وما تبقى من القمصان العتيقة لقصائدي
ما تبقى من كنزات لغتي
أوزعها كفاعل خير
حسنة على الأيتام من الشعراء
ونصاً آخر بعنوان: "من هواياتي"..
أجمع الامثال اجمع القبلات كالطوابع
أجمع وجهك من المنشفة من قطرات دوش
أشمشم بقايا صابون
وألم المكالمات الهاتفية في سلة غسيل.

المستقبل
الاثنين 18 حزيران 2007