"معمار البراءة" نصوص شعرية جديدة لكاظم جهاد

جهاد الترك
(سوريا)

الدخول الى العالم المتعثر للحقيقة من بوابة الوهم العالية. يحمل الشاعر حقائبه الثقيلة. يضع فيها ما تبقّى من عمر خُيّل إليه أنه عاشه منذ زمن طويل. يعلم علم اليقين أنه ما أن يخطو خطوته الأولى حتى تصبح العودة ضرباً من المستحيل. غير أنه يفعل ذلك بجرأة. يشدّه الحنين القاتل الى موت الأشياء قبل أن تولد. الى حيث بمقدوره أن يرى بأم العين البدايات الأولى لانكسار الزمان والمكان قبل أن يتكوّنا في رحم الصيرورة. يدرك بالغريزة أنه يذهب، على قدميه، الى حيث الخديعة الكبرى تلوح في الأفق، ثم تنطفئ فجأة. ثم تلوح، من جديد، ثم تخمد الى الأبد. في تلك الأمكنة الصقيعية، حيث اللالون واللاشكل واللامكان واللازمان، تتجمّد الدماء في العروق. ينشف الدمع في العيون. يهبط على الجسد، دفعة واحدة، موجة من العطش العنيف. ويسأل الشاعر: كيف يجتمع العطش والصقيع معاً تحت سقف جليدي واحد؟ ولكن رحلة اللاعودة لا تزال في بداياتها. والمشاهد المرعبة لم ينكشف منها بعد إلا أشباحها اليسيرة. يشدّ رحاله في أرض لم تطأها قدماه من قبل. يتعرّق وهو يجول ببصره بين أهوال الرؤيا. الطريق الصعبة، وعرة، ملأى بالأفخاخ، تنبثق من بين شقوقها ريح باردة تخلّف على الجبين عرقاً ساخناً. يتعجّب الشاعر كيف يتآلف الضد مع الضد. ومع ذلك، فقد اتخذ قراره النهائي: لا عودة الى الوراء. ثم يتذكّر، إنها مغامرة الاتجاه الواحد الى حيث اللعنة الكبرى: درب الوهم الطويل الذي يفضي الى دروب من الأوهام. هناك على تلك الجبال الشاهقة تولد الحقائق الأولى من رحم نفسها. الدهشة تلو الدهشة. الموت تلو الموت. الخيبة تلو الخيبة. كل شيء يموت ولا يدفن ليحيا ثانية ويموت ثانية. رؤى تبدو منفرة، للوهلة الأولى. غير أنها سرعان ما تبدو جميلة وحزينة، قد تسبب قشعريرة. غير أنها لا تنطوي على غثيان يذكر. في ذلك اللامكان، يستجمع الشاعر ما ينكشف له من شجاعة ليشهد على عالم كامل من الوهم العاري. ليشهد على الموت والحياة، وانعدام الحدود بين كل الأشياء.

أدوات لغويّة

هذه، على الأرجح، بعض من معالم الوهم الزائل التي يجعلها كاظم جهاد إطاراً ضبابياً لمجموعته الشعرية الجديدة "معمار البراءة" الصادرة عن "منشورات الجمل ـ 2006". أرادها كشفاً عن منظومة من الحقائق الأخرى التي نشعر بها ونخشى الاقتراب منها. حقائق هي من نسيج الرؤيا الصعبة التي لا تتراءى لصاحبها إلا بضربة مفاجئة يوجهها الى اللغة الرتيبة الساذجة والبلهاء التي غالباً ما تجترّ المعنى لتبقي التوثب الإنساني في مجال الإبداع ملقياً على قارعة الطريق. على هذا الأساس، يختار كاظم جهاد أن يستخدم أدواته اللغوية في ملاعب خطرة للغاية. فإما أن تصمد وتستقوي بالرؤى المستجدة، وإما أن تتقهقر في بداية الطريق فترسب في الامتحان. والأغلب، في هذا السياق، أنه يستعدّ جيداً لخوض هذه المغامرة الغامضة، في طبيعتها اللغوية ـ التعبيرية. وقد آل على نفسه أن لا يبدو متحفظاً في ما تقوده إليه مخيّلته الشعرية من ضروب المشاهد الداخلية التي تصعب ترجمتها بفنون لغوية لا ترقى الى شفافيّتها في القبض على الصورة. في نص عنوانه "عن الموتى"، يقدم إلينا الشاعر نموذجاً مدهشاً عن الكيفية التي يوظف بها اللغة لقراءة تلك الأجواء البعيدة في الكشف عن
الصورة الشعرية وتطويعها:

موتاي الكثيرون أرفض أنا أن أدفنهم
في المعازل الهادئة للأموات
بل احتفظ بمحيّا كل منهم
في حرارته الأولى ودفقه الأصيل
رافضاً الزوال مترفّعاً على الصمت
إن كان الموتى لا ينطقون
فأنا غالباً ما أشغل مكان الميت
وبكامل الطواعيّة أكون له لسانه، شفتيه.

يُلاحظ، في هذا النص الذي ينطوي على شرنقة واسعة من المعاني التي لا تفصح عن نفسها إلا في السياق الداخلي العميق للصورة الشعرية المتناثرة، أن الكاتب ينتقل مباشرة من عالم الى آخر، من دون سابق إنذار. من عالم الحقائق المترهلة، الساقطة في متاهتها الملتبسة، المتأرجحة في موتها الفوري، الى عالم الحقائق الأخرى المنكشفة على الرؤى المتلألئة في حركتها الداخلية العنيفة، انتقال من عالم اللغة التقليدية الخرساء، الى فضاء لامتناه من الصور التي تستولد ذاتها على ايقاع ما لا يمكن العثور عليه الا في البؤر النائية للذاكرة الانسانية. الموتى، في هذا النص، ليسوا من نسيج الاموات الذين غالباً ما يذكروننا بنهاية العالم. هؤلاء ليسوا من طينة الزمان والمكان والزوال في أبشع صوره الدنيوية.. انهم من طينة تلك الهالة النورانية التي تسطع في عتمة الذاكرة حيث الامتداد الآخر للمتاهة. للغة الجوفاء متاهتها الجوفاء حيث يتحول الصمت الى انتحار عبثي للاشياء. وللغة المتدفقة من جوف الذاكرة الأولى متاهتها المفتوحة على الوهم في حالاته البدائية الأولى. المتاهة الأولى ضرب من الحقائق سرعان ما تنقلب وهماً لمحدودية ايحاءاتها التعبيرية.

المتاهة الثانية ضرب من الحقائق الأخرى التي تزيل العوائق من أمام الروح وهي تستكشف صعداً قدراتها الابداعية الفائقة، لا فرق، كما تلحظ في النص، بين الميت والشاعر. كلاهما ميت. كلاهما على قيد الحياة. العبور الى الموت باللغة، هو عبور الى الحياة بالصورة الشعرية الفذة. التشبث بالحياة العادية، هو الاقامة الدائمة في الموت حيث اللغة العاجزة عن فك اسرها.

ثقافة الموت و.. الحياة

ومع ذلك، انه الانتقال الأصعب، على الأرجح من ثقافة الموت الى ثقافة الحياة، من خلال التجرؤ على إلقاء الذات طواعية في خضم المتاهة حيث التجربة الانسانية الأقسى والأشد ضراوة. تتحول اللغة، في هذه الحال، كشفاً انسانياً صعباً، لكن جميلاً، في المتاهات الشاسعة التي لم يعد الانسان يدنو منها لجبن في العزيمة، وعقم متحجر في الحلم والمخيلة. اللافت في النص أعلاه، ان الشاعر لا يعرج على فكرة الموت فلا يلتقط منها الا بعض فتات يحتاج اليه ليزين به قوله الشعري. انه يعلن اقامة دائمة في ذلك العالم المخيف، الغامض المكلل على الدوام بالأوراق المتساقطة الصفراء. هنا الفرق في النقلة النوعية اللغوية التي يحققها كاظم جهاد. الاستسلام الكامل لرياح الموت على متن اللغة المتمردة على الموت القائم في الحياة العادية. تطاول على اللغة بما يجعل منها وسيلة حقيقية لاضاءة الاماكن الداكنة في الذاكرة البشرية. يقول في نص آخر بعنوان:

"هكذا اعيد ابتكارك يا أريافي".

جاءنا الميت رفيقي في ألعاب الطفولة
ما برح يشغل مكانه في ذاكرة الحقول
خاطر الفضاء يتحدث عنه
وحصباؤه الملونة به تذكر
في اللعب نترك له مكاناً
ولدى اقتسام قطع الحلوى المسروقة
من حانوت القرية المشرعة ابوابه
نحسب له حساباً
الأغنية التي لا تقلد هي أغنيته
وفي هذا أيضاً عرف ان يبقي لنفسه
مساحة شاغرة الى الأبد
استدراج للحياة

إذا كان الموت في النص السابق، هو استدراج للحياة لتكتشف ابعاده الحقيقية، عبر اللغة، فإن الموت، في النص اعلاه، هو ازالة ما تبقى من فروق وحدود بين الحياة والموت. فالجار الميت اصبح، بعد موته، يشغل مكانه في ذاكرة الحقول. اي انه انتقل من الحياة الى الحياة. اللغة، في هذا السياق المتدفق، هي التي تضفي على الموت حالة من الموت. والأرجح ان الشاعر يوحي، بشكل او بآخر، ان الموت لا يكون كذلك الا بموت اللغة. والحياة لا تكون كذلك الا باللغة التي تقتل نفسها أولاً لتعيش ثانياً. جدلية الموت والحياة، هي التي تجعل من اللغة كائناً لا يموت. لعبة فائقة الذكاء في موت الثقافة وحياتها. والأغلب في موت الانسان وحياته. ومع ذلك فان دون ذلك عثرات في المفاهيم أولاً، وفي اللغة ثانياً. في المفاهيم، على مستوى الانجراف التام في نهر المتاهة الذي ينبع من عمق الذاكرة ليصب في الاماكن النائية من الذاكرة. الموت في هذا الاطار هو تصحّر الذاكرة بالملح الملوث. والحياة هي اعادة احياء الذاكرة. في حركتها السريعة نحو عالم المتاهة فيها. الشعر، في هذا المجال، لا يعود ينطوي على اقتلاع الصور الجميلة من طبقات الذاكرة السفلية، فحسب، بل يتحول كشفاً حقيقياً في الرؤية الثقافية للانسان الذي تبلدت احاسيسه بالخوف الدائم من الموت المفاجئ. نقرأ في النص اعلاه، ان الجار الميت لا يزال يحصل على حصته من الحلوى المسروقة، ولا يزال يردد اغنيته في تلك المساحة المخصصة له الى الأبد.

الاقامة الدائمة في الموت والحياة، على حد سواء، باعتبار أن كليهما وجهان لعملة واحدة، تقود الشاعر، بالضرورة، الى استكمال رحلته اللغوية الصعبة في ازالة الفروق بين الأشياء جميعاً. لا معنى لأي من الأشياء والكائنات الكونية من دون أن تجد تعبيراً حقيقياً لها في أشياء أخرى. كل الأشياء والأشكال والألوان والكائنات من نسيج واحد في متاهة الذاكرة. كما الموت والحياة مظهر واحد للذاكرة في تقلباتها العنيفة.

يقول الشاعر في أحد نصوص الكتاب:

في المساء تعقد الذئاب حلقتها المعهودة
حول نقطة بذاتها تحتشد
وتطلق عواءها الجنائزي
ثم تتفرق وتبدأ بالعدو
لتعود من بعد الى ذات النقطة
وتستأنف عواءها الطويل
تجتمع الذئاب فتشعر مثلنا بخطورة الشبيه
وما ان تنفرد حتى يهمزها الى الشراكة
جوعنا القديم نفسه.

الحقيقة في المتاهة

الذئب، في هذا النص، لا يعود كذلك، يتحول في السياق العام للمجموعة الشعرية، أحد تجليات الانسان وهو يبحث عن مكوناته الأخرى في ذاكرته الكونية الجامعة. الذئب هو الإنسان بعد أن تخطى هذا الأخير الحدود القصوى التي تفصله عن الانتساب الى متاهة الذئب. فإذا كان للانسان متاهته الداخلية، فللذئب كذلك. في المتاهة، كل يبحث عن ذاته الحقيقية الأخرى التي يتعذر العثور عليها في خرافة الحياة العادية. بما في ذلك الذئب الذي يبحث عن متاهته أيضاً ولكن في الذاكرة الانسانية. يصبح الذئب، في هذه الحال، جزءاً لا ينفصم أبداً عن ذاكرة الانسان ومتاهته، وإلا تبقى الصورة ناقصة أو مشوشة أو مشوهة. اللغة تحيل الذئب من مقتنيات المتاهة. نرى في النص أن جوع الذئب هو جوع الشاعر نفسه، وكذلك عواؤه الجنائزي، والأغلب أن الذئب هو الذي يستدرج الشاعر للذهاب بعيداً في متاهته. الشاعر يستجيب لهذا الاستدراج بعد أن أزالت اللغة بقوتها على تدمير الحواجز المصطنعة، ما يوحي بأن ثمة ما يحول دون ذلك. يكتشف الشاعر أن الذئب هو إحدى الأدوات الضرورية للانقلاب على اللغة.
اللافت، في هذه المجموعة الشعرية، ذلك الأسلوب الهادئ في التعبير المرهف عن هذه النقلة النوعية في التوظيف المبدع لهذه المفاهيم اللغوية المتقدمة. غالباً ما نقع على كتابات شعرية، وهي كثيرة ومختلفة بطبيعة الحال، ينساق فيها أصحابها، بدرجات متفاوتة، الى ما يعتبر حفراً بنيوياً في تربة اللغة وصخورها. لا ملامة على هؤلاء، خصوصاً إذا كانوا من ذوي الميول التي ترغب في الانقلاب على اللغة، بتكسير جدرانها الداخلية، والخارجية فقط. هذه إحدى الطرق الصعبة، من دون شك، في قتل اللغة لإحيائها من جديد. وسيلة مبررة من العنف القاسي لإزالة القشور الخارجية الصلبة للغة تمهيداً للغوص في منعرجاتها الداخلية. ومع ذلك، لا نستسيغ كثيراً عملية الهدم هذه. إذ نسمع فيها قرقعة السلاح وأزيز الرصاص وارتطام الحجارة. لا تؤخذ اللغة، على الأرجح، بهذه الممارسة القمعية فقط. الأمر يحتاج الى رؤيا حقيقية، الى ذاكرة حبلى بالمفاجآت الشعرية الجميلة والانتهاكات اللغوية في إطار من البحث عن المعنى الآخر.

قتل اللغة

قتل اللغة لإحياء رمادها من جديد، يتطلب رؤيا عميقة تساعد في إنجاز عملية الهدم هذه. وإلا أسفرت هذه المحاولة عن تهشيم مجاني للغة. يبدو أن كاظم جهاد في نصوصه الشعرية التي بين أيدينا، يدرك جيداً خطورة هذه المحاولة إذا لم تكن تستند الى اندفاع حقيقي نحو تقصي الصورة البعيدة في أبعادها الجمالية. لذلك لا نصطدم بهذه النصوص بما ينبئ عن معركة غير متكافئة مع اللغة، يقصد منها إحراز نصر سريع وحاسم عليها تمهيداً لامتلاكها بالكامل. يصعب، في هذا الاطار، معاندة اللغة على هذا الغرار. حتى ولو خيل الى الكاتب أنه حقق تفوقاً على مناعة اللغة، فإنه، في نهاية المطاف، يحدث فيها فجوات واسعة وإصابات بالغة تدميها أكثر مما تحييها. والسبب في ذلك، ان اللغة، في ما تكشف به عن نفسها، تبدو من أصعب المستحيلات على التطويع القسري. لا يقوى أحد على استدراجها أو إغوائها إلا بالرؤيا العميقة أو البعيدة. عندئذ قد تنقاد له أو تمتنع عنه. ومع ذلك، ليس من شأن الرؤيا، مهما علا شأنها، أن تحقق فوزاً على اللغة، فهذه الأخيرة هي المنتصرة على الدوام. الرؤيا تقود الى أخرى، وفي مراحل الانتقال من هذه الى تلك، يدرك الشاعر أن اللغة كالأفعى تخلع جلدها. لكل رؤيا لغتها. ولأن الأمر كذلك، يصبح لكل رؤيا حاجتها الى عملية هدم جديدة لولادة جديدة. كاظم جهاد لا يقع في هذا المطب. يتعامل مع اللغة بحذر وذكاء وخبرة. لا يتحداها أبداً. يستلطفها ريثما تكشف عن نفسها بهدوء. ثمة سكينة في التعبير عن الصور الشعرية هي توأم هذا الهدوء المذكور. الشاعر ينقب عن رؤياه في متاهة الذاكرة لا في تربة اللغة التي تستجيب، على الفور مكتسية ثوب الرؤيا لا معول الهدم. مجموعة كاظم جهاد قد تبدو إحدى العلامات الهامة على طريق اللغة الأخرى والرؤيا الأخرى، والثقافة الأخرى.

المستقبل
18 كانون الثاني 2007