("هل جرحت يدك؟ هل جرحت خدّك؟" مجموعة شعرية لفادي طفيلي)

جهاد الترك
(لبنان)

فادي طفيليكم يبدو الواقع هشاً، مفككاً وغائباً عن الوعي قبل أن تُعاد ترجمته من جديد. والأرجح أنه الغائب الأكبر على الرغم من إيحاءات قوية يبثها باستمرار عن أن الحضور الذي ينطوي عليه، يشكل وحده الحقيقة. الواقع يولد ميتاً، ليس لأنه سريع الزوال، بل لأن إيقاعه الداخلي يحمل في ثناياه هذا الانتقال المدهش من حالة الى أخرى. تولد إحداهما من الأخرى ثم تلفظ أنفاسها على الفور لتفسح في المجال أمام لحظة أخرى سرعان ما تهوي هي أيضاً. سرّ الواقع في موته المتعجّل، في إقباله على الانتحار. إنه التمرين الأقرب الى الذاكرة والأسهل على التعايش مع فكرة الزوال منذ الولادة. والأغلب أن الواقع هو الموت البطيء، رغم سرعته القصوى في استبدال لحظاته بأخرى الى ما لا نهاية. المجموعة الشعرية لفادي طفيلي "هل جرحت يدك؟ هل جرحت خدّك؟" الصادرة عن "دار النهضة العربية" في بيروت، 2007، تلامس هذا التصور، على الأرجح، لتحيله ضرباً من المشاهدات العميقة في ما يسفر عنه الواقع في تقلباته من استدراج للذاكرة والحواس والحياة والموت.

الواقع والظلال

ليس في هذه المجموعة ما يشير الى أن صاحبها يقف مذهولاً أمام مشاهداته المنتقاة من الذاكرة القريبة أو البعيدة أو تلك التي لم تتكون بعد. لا يعبّر عن حيرته أو ارتباكه إزاء الوقائع التي تفرض عليه بالقسر من الخارج. لا يكترث كثيراً بالطريقة التي تنتظم فيها الأشياء أمام ناظريه. ولا يتساءل عن الجدوى من ذلك. ولا يسعى كذلك الى الاستقصاء عمّا يشكل حقائق أولية قد تتبادر الى الذهن من جراء هذا الانسياب التلقائي للحظات التي تمنح الواقع بعده في الزمان والمكان. لا يستهدف شيئاً من هذا القبيل. يستخدم هذه المشاهدات، في جزئياتها وتفاصيلها وتقلباتها، لينفذ من خلالها الى نبضها الداخلي الذي يختبئ، في العادة، وراء الكواليس البعيدة، أو الغامضة. في الأروقة الخلفية للدلالات التعبيرية التي توحي بها الأشياء ولا تقولها في العلن. على هذا الأساس، يغيب الواقع في هذه النصوص الشعرية، وتحضر ظلاله بقوة. كلما أمعن الواقع في الانسحاب من دائرة الفعل الذي يتحرك كالغريزة العمياء، ازدادت الظلال وضوحاً حتى تحلّ هذه الأخيرة مكانه لتتقمصه على نحو كامل. يقول طفيلي في مقطع من نص بعنوان "حرف محفور بقسوة": (موقف السيارات الكبير تظلله شجرات سرو. موقف السيارات سيصبح مقبرة صغيرة في يوم ما كفكرة مستلقية أمام البيت الذي من مشاعر غير مؤكدة ومن غرفتين ومطبخ وحمام. في شرائط الموسيقى القديمة ثمة بيوت أصغر منه. من شرائط الموسيقى القديمة يخرج بيت خاو تتدلى من نوافذه رزم بصل مجفف). موقف السيارات الذي يسترعي انتباه طفيلي لا يثير في حد ذاته أهمية تذكر، بل في ما ينطوي عليه من احتمالات لا حصر لها توحي بها ظلال هذا المشهد الميت في الأساس.
لا قيمة فعلية لموقف السيارات هذا إلاّ في تشظّي هذا المشهد في أبعاده الاحتمالية خارج الزمان والمكان. يصبح ملكاً للذاكرة فقط التي بمقدورها أن تؤوله من جديد بعيداً عن الموت الكامن في أعماقه. المشهد، في هذه الحال، يقدم نفسه بأشكاله الأولية. مادة خام إذا صح التعبير تصلح لإعادة الصياغة على نحو من التشكل الدائم الذي من شأنه أن ينسجم مع نسيج الذاكرة التي لا تتقبل، في العادة، الواقع في حالته الجامدة أو الآيلة الى الزوال. يكتب طفيلي في نصّ بعنوان "يوم سقوط شيء ما من على السطح": (كان يوم سقوط شيء ما من على السطح. جسم يلمع ويتراخى في الشمس ويسقط، وكأن البنايات تلمع وتتراخى في الشمس وتمشي خلف بعضها بحركة طوعية. كانت البنايات تمشي خلف بعضها على الطريق كصف الموتى بحركة طوعية. الموتى الذين ماتوا هناك على الطريق بأوقات مختلفة وانتظروا بعضهم حتى يموتوا جميعاً ليمشوا خلف بعضهم كما فعلت البنايات عندما ماتت ومشت خلف بعضها..).

بين الموت والموت

ينتقل الشاعر في هذا النص خطوة أبعد من مصادرة المشهد وإعادة تشكيله. يذهب مباشرة الى حيث الظلال المنتشرة بكثافة على حافة الموت. نستدل من المعنى على أن المشهد ليس ميتاً فقط في لحظاته ووقائعه بل في ما يتكشّف عنه من احتمالات هي من طبيعته الداخلية. ومع ذلك فإن الفرق كبير بين المشهد في لحظاته المتدفقة على نحو اعتباطي من جهة، وصورته البعيدة الخافتة من جهة أخرى. قد يوحي الشاعر في هذا المقطع بأن الموت الحقيقي للأشياء يجري خلف الستارة، وراء الرؤية، في تلك الأمكنة التي لا يصل إليها ضوء العين. الواقع الميت، في الأساس، لا يبلغ منتهاه إلا بعد أن يتحول ظلالاً. غير أنه موت مشهدي يتخذ شكلاً شعرياً يتلاءم مع انتقال اللحظة من حالة الموت البطيء الى حالة الموت الاحتمالي. في الحالتين موت محتم. ومع ذلك ثمة اختلاف في الكيفية التي يحدث فيها الموت. الذاكرة تشاهد موتها على نحو من شريط سينمائي تتحرك فيه الظلال ثم تندثر. بينما يعبّر الواقع المرئي عن موته بتعاقب اللحظات وهي تولد وتموت في الآن عينه. لا يبدو، في هذه النصوص، أن ظلال الأشياء التي يقتبسها الشاعر من مشاهداته الواقعية تتجه، على الأرجح، الى غير حافة الهاوية.. الى الموت الهادئ حيث السكينة المطلقة في هدوئها العدمي. يكتب في نص بعنوان "مهمة مضحكة في ضوء القمر": (سأمضي يوماً كاملاً في السيارة على الطريق السريع وأرى أين أصل في النهاية. سأختار بقعة مناسبة لأحفر في التراب مكاناً مناسباً لجسم عصبي لا يعرف أين هو وأبدأ في المهمة المضحكة في ضوء القمر على خلفية المعزوفة الطويلة "أريد التحدث معك". سأبدو كأي حفار عادي في ضوء القمر بلا رغبات واضحة في الحفر سوى أنه يريد أن ينجز الحفرة ويهيء مكاناً مناسباً لشخص خائف ونابض بإيقاع مريض...).
يستكشف طفيلي في هذا النص ظلاله هو، هذه المرة، يجري اختباراً احتمالياً على نفسه. ينتقل من العام الى الخاص بعد أن استنفد، على الأغلب، مشاهداته الخارجية. في هذا المنحى جرأة على استقراء الحالة الشعرية في ما تنطوي عليه الذاكرة من مشاهدات داخلية هي الأقرب إليها بطبيعة الحال. لا يعثر في هذه الرؤية الى الذات سوى على الظلال نفسها التي تنتهي إليها المشاهدات: الموت المشهدي الذي يتربّص بكل الأشياء عند المفترقات التي تؤدي الى الزوال بأشكاله كافة.

ومع ذلك، لا يبدو أن الصورة الشعرية مغلقة في هذه النصوص، أو أنها غالبا ما تصطدم بالأفق المسدود. صحيح أن المزاج العام الذي يخيّم على محتويات الكتاب قد يوحي، بشكل أو بآخر، بأن المعنى البعيد الذي يتوخاه طفيلي ذاهب، لا محالة، الى حتفه الأخير في الحفرة التي يزمع على إنجازها مكاناً مناسباً نهائياً لشخص خائف ونابض بإيقاع مريض. غير أن ظلال الصورة الشعرية لا تتوقف عند هذا الحد. ثمة هامش واسع في النصوص للاستمتاع الذاتي الذي تخلّفه في النفس عملية تشكيل الواقع ومن ثم إعادة تشكيله. يكتب في مقطع آخر من النص المذكور عينه: (... وأريد أن أنتهي بلا رغبات واضحة في أن أكون معك سوى أنني أريد أن أذهب في رحلة طويلة في السيارة معك على الطريق السريع الذي ليس في هذه البلاد، في ضوء القمر الذي ليس لهذه البلاد... ويكون ليل غير هذا الذي نحن فيه الآن.. ليل آخر كالذي شممناه عندما دخلنا بستاناً عالياً حيث وجدت هناك شيئاً أضعته منذ زمن وتوقفت أنا في تلك اللحظة عن كره نفسي...). هل هي الحفرة التي يستهدفها طفيلي في نهاية المطاف هي التي تحمله على التوقف عن كره نفسه؟ أم أن إحساسه العميق بدنو ليل آخر غير مألوف لديه هو الذي يبعث شيئاً من الطمأنينة في نفسه؟ لا يبدو أن ثمة جواباً قاطعاً عن هذا التساؤل. حسناً فعل طفيلي في حجب إجابة محددة عن هذا اللغز ليبقي على احتمالية تشظي الصورة الشعرية ودلالاتها المفتوحة في النصوص.

الصورة والمشهد

وفي أي حال، تبدو الصورة الشعرية، في محتويات الكتاب، أكثر انسجاماً مع المشهد برمّته. والمقصود بذلك، أن النصّ نادراً ما ينطوي على ذروة معينة ينفلت فيها التعبير في اتجاه استشراف الحلم في معاقله البعيدة. يستبدل طفيلي هذه التقنية بأخرى لا تقل أهمية عنها. يجعل من المشهد بتفاصيله كافة، شيئاً يقترب قليلاً أو بعيداً من هذه الذروة التعبيرية. الصورة الشعرية، في هذا السياق، هي تلك التي تنبعث من الإطار العام للمشهد أكثر منه من التحليق في الالتماعات القصوى في متاهة الحلم الذي لا هوية ثابتة لاحتمالاته التعبيرية. المشهد العام لكل من مشاهدات طفيلي ولحظاته الشعرية المنتقاة بدقة، هو الوعاء الحقيقي، على الأرجح، للصورة في إيحاءاتها المختلفة. ومع ذلك، لا تنسحب الصورة للمشهد، ولا يتخلّى المشهد عن ثقله الشعري للصورة المتفرّدة. يكاد الإثنان يتكاملان بحيث لا يأكل أحدهما من رصيد الآخر.

على خلفية هذه المعادلة التي توازن، على الأغلب، بين الصورة والمشهد، يصوغ طفيلي نصوصه بإيقاع من الغموض المدروس. مردّه، على الأرجح، الى حالة الرهبة من الظلال التي تحيط به في كل الاتجاهات. يبدو مأخوذاً بمشاهد الظلال وغموضها وسحرها الداخلي. غير أنه لا يقترب منها إلا برغبته في إنجاز الحفرة ليضع نهاية دراماتيكية لهذه اللعبة المرهقة. ثم نراه بعد ذلك يتوقف عن كره نفسه لدى انسيابه الى ليل آخر غير مألوف. ليس في هذا التأرجح بين الحفرة والمصالحة مع الذات ما يحيل هذه النصوص ضرباً من التناقض الغريزي بين الحياة والموت. إنهما وجهان لعملة واحدة تتمثل، على الأرجح، في استكشاف المجال الشعري الذي قد يرتاده طفيلي في كتاب آخر.

المستقبل
23 /آب/2007