جهاد الترك
(سوريا)

مجدي الحجارأيّهما مرآة الآخر: القصيدة أم ظلالها؟ تساؤل يبدو مجحفاً بحق الإثنتين معاً لأنه قد يضعهما، على نحو قسري، في خانة التحديدات الكلاسيكية. وهذا ما لا يطيقه كلتاهما. فلا القصيدة من النوع الذي يستسلم بسهولة للتبويب الساذج، ولا ظلالها كذلك باعتبار أنها من نسيج متفلّت من القيود، منسجم بالمطلق مع تداعيات الصورة الشعرية وهي تعيد إنتاج نفسها في سيناريوات لا تبدأ من مكان معيّن ولا تنتهي في زمان مماثل. القصيدة وظلالها، في هذا السياق، عصيّتان على هذا التساؤل "الخبيث"، إذا جاز التعبير. مردّ ذلك الى ما يختزنه هذا الأخير من توجه "أرعن" لإلحاقهما بدائرة المفاهيم المدجّنة. وهذا ما يتنافى، بطبيعة الحال، مع طبيعة الشعر الذي ينحو الى إعادة تشكيل العالم، بأشيائه كافة، حتى إذا أزعجه الضجر أعاد تشكيل نفسه، على نحو غير مسبوق. ومع ذلك هل ثمة فرق يذكر بين العالم والشعر. الأرجح لا. فالإثنان في حالة توالد منذ الأزل وإلى الأبد.

قراءة احتمالية

تحيلنا هذه التصورات على النصوص الجديدة للشاعر مجدي الحجار بعنوان "حطام القصيدة"، الصادرة حديثاً عن "دار النهضة العربية" في بيروت ـ 2007. والأغلب أن هذه التصورات تبعث على قراءة عنوان الكتاب في احتمالاته المتعددة، من بينها ما إذا كان الشاعر يشير باستخدامه كلمة "حطام"، الى ظلال القصيدة باعتبار أن كلتيهما يولدان في اللحظة عينها، ويموتان إذا ما قيّض لهما أن يتلاشيا لسبب أو لآخر. الأرجح، في هذا الإطار، أن مجدي الحجار يطرح هذه الإشكالية، منذ البدء، على نحو متعمّد ليقترب من الظلال بعد أن تتحوّل حطاماً. وليقترب في اللحظة نفسها أيضاً من الحطام بعد أن تتحوّل ظلالاً مفتوحة على المجهول. إشكالية معقّدة غير أنها مستساغة بعد أن يجعل الشاعر منها وسيلة محبّبة للدخول الى عالم الحطام وعالم الظلال من أبوابه الواسعة. الحطام، كما توحي النصوص، هي عينها الظلال بعد أن تنقلب هذه الأخيرة على نفسها فتتشظى على مستوى المفردات، من جهة، وأيضاً على مستوى المعاني المستولدة بتلقائية لا تقف عند حدود ثابتة، من جهة أخرى. والظلال هي تلك العائدة الى هذه الأجزاء المجزأة. كلّما تشظّى المعنى وانفتحت الصورة على مصراعيها، أوجدت، في اللحظة عينها، ظلالها. وكلّما توسع مدار الظلال، أوجدت هذه الأخيرة لنفسها حطامها. معادلة سهلة جداً، غير أنها تبدو في غاية الصعوبة إذا ما اختلّ توازنها. سرّها في أن تبقى الصورة الشعرية متحركة في نبضها الداخلي، قادرة على استيلاد نفسها في مداها الأبعد والأكثر بعداً؛ في صمودها على استبقاء قوة اندفاعها الذاتي على نحو يتخطى شروط الزمان والمكان وثقل الجاذبية الذي يشدّها الى هذين الأخيرين.

المأزق وتذليله

هل تصنع نصوص مجدي الحجار، في هذا السياق، حطام القصيدة؟ هل تصنع ظلالها كما يشير الى ذلك عنوان الكتاب؟ الأغلب نعم. يطرح الشاعر مأزقه في "العنوان"، ثم يسعى الى تذليله حيناً، أو الإجابة عنه، حيناً آخر، أو أن يضفي عليه غموضاً هو من طينة الشعر حيناً ثالثاً. ولعلّه، في هذه الأحوال الثلاث، يلزم نفسه، بشكل أو بآخر، بأن يبقى منسجماً مع عنوان كتابه من دون أن يفرض على نفسه معايير متزمتة لا تستجيب لشفافية الشعر ونزعته الانقلابية على كل الأشياء. يكتب في نص بعنوان "المتجردة":

وتجرّدت كالسيف فانفتحت
في الليل نافذة على البحر
وتكسّرت هدب النجوم على
إيماء حسن ضاق بالسر

الصورة المنبعثة من النص مركبة، على الأرجح، على إيقاع مدروس من المعنى الذي سرعان ما يتجاوز نفسه في اتجاه رؤية بانورامية شديدة الاتساع. فالمرأة المتجرّدة، موضوع النص، تنسكب في مجرى الظلال ما أن تطلّ من القصيدة. ظلّها الأول هو السيف الذي يسرع، هو الآخر، الى ارتداء ظله المتمثل في انفتاح نافذة لليل على البحر. ثم لا يلبث الليل أن يقتمّص ظله، فيتحوّل، في اللحظة عينها، الى هدب للنجوم المتكسّرة على إيماء حسن. وبعد ذلك يلتقط هذا الإيماء ظله المتمثل بالسر. ظلال كثيرة لمعنى واحد، سرعان ما يصبح كل منها معنى قائماً بحد ذاته، ومتحولاً في آن. واضح أن الظلال، كما يشير النص، تتعرّض، على الفور، لما يجعلها حطاماً مهشّمة. والأرجح، على هذا الصعيد، أن الشاعر لم يكن ليستخدمها إلاّ لأنها ذات قابلية قصوى لتنقلب حطاماً ثم ترتدّ ظلالاً.. وهكذا دواليك. النص، كما نلاحظ، يتسلّل من نفسه، منذ البدء، باحثاً عن ظلاله الغريبة والبعيدة. لا يبتغي ذاته، بل يعانقها في ذوات أخرى، لا ذات محددة له ولا هوية. بدلاً من ذلك، يتطلع الى الحطام باعتبارها ذوات محتملة غير نهائية. المعنى، في هذا السياق، يتخلى عن ذاته بطواعية. والأرجح أنه يتنكر لها مرة وثانية وثالثة. يلتهم ذاته ثم يلتهم ذوات أخرى، ويظل في حالة جوع الى المزيد، ليصل في نهاية المطاف الى حالة "اللاذات". في هذه اللحظة، بالتحديد، تصبح الذات مرآة للعالم. يصبح العالم مرآة للذات. الاثنان بلا ذات، بلا هوية، لينطلقا، بعد ذلك، الى المجهول بحثاً عن ذات أخرى أو استنباطاً لها. المجهول هو الذات التي لم تولد بعد. المجهول هو الذات المستحيلة التي لن تقيّض لها الولادة.
في نص آخر بعنوان "الغريق"، يقارب مجدي الحجار التجربة عينها على نحو يؤكد فيه، على الأغلب، العلاقة الجدلية، في إطارها الشعري، بين الظلال والحطام والذات التي تنساب بينهما ثم تغادرهما الى ظلال وحطام أخرى. يكتب قائلاً:

يُدنيني المدّ ويُقصيني وتدوخ برأسي الأشياء
أتناثر في البحر مياهاً ويُجمّع صورتك الماء
المعنى بظلاله.. بحطامه

المدّ والجزر، كما يلاحظ، في النص، يعبّران عن نفسيهما بارتباك عميق يحدثانه في رأس الشاعر. هذا التشتت في الفكر يعبّر عن نفسه في التناثر في البحر. الارتباك يحيل الشاعر مياهاً. الماء، في هذه الحال، هو حطام الدوخة في الرأس. هذه العناصر جميعاً تجد تعبيراً لها في ظل آخر هو: صورة المرأة المتكونة في عمق المياه أو على صفحتها. ومع ذلك لا يقف المعنى عند هذا الحد. ثمة إيحاء بظلال وحطام أخرى لا يشير إليها النص، في الظاهر، بل يستولدها في حركته الداخلية التي تنطوي بطبيعتها على سيناريوات شتى لها ظلالها وحطامها الاحتمالية.
الكتاب، على هذا الأساس، يخوض تجربة الظلال من باب المعنى المتشظي القابل لأن ينكسر ليتحول بعد ذلك حطاماً تبحث عن ظلالها.
النصوص بمجملها تنحو هذا المنحى التصاعدي. تبلغ ذروتها عندما تقترب من الهاوية، أو تلقي بنفسها في أتونها. غير أنها، وهي تفعل ذلك، تصعد الى خلاصها. تتهشم، تتحطم، تتجزأ ظلالاً، وظلالاً للظلال، ومن ثم حطاماً للظلال، لتنجو بنفسها من الهلاك. تستنجد بالهاوية لتقوم من جديد. تتعرّض للتهلكة لتعيش ثانية. ديمومتها في أن تتحطم لتنبعث ظلالاً، لكل منها حياة أخرى. ثم تتجزأ مرة أخرى طلباً لحياة أخرى، لظلال أخرى. وحده الشعر، في هذا المجال، يموت ليحيا، ويحيا ليموت، أو يموت ويحيا في اللحظة عينها. يرغب في الحياة سعياً الى الموت. ثم يقبل، بحب، على الموت طلباً للحياة. دائرة مغلقة ومنفتحة تبدأ بالحياة والموت، وتنتهي بانتفاء الاثنين، بنزع هوية كل منهما، بتجردهما من هويتهما، أو بصنعها من جديد على نحو غير مسبوق.

المستقبل
السبت 27 تشرين الأول 2007