(النشيد" و"بعيداً عن الكائنات"
رؤية استباقية متوترة تُعنى بالتفاصيل ثم تختزلها)

جهاد الترك
(لبنان)

عبدالمنعم رمضان لعل في هذه النصوص ما يدعو الى الاعتقاد بأن ثمة حالة من الكرّ والفرّ بين الشاعر وشعره. يقدم عبدالمنعم رمضان على هذه اللعبة العنيفة وفي ظنه أن الشعر كائن يمكن إنهاكه، واضطهاده، وإلحاق الأذى به لحمله على الاستسلام. أو أنه قد يخيّل إليه أنه يمكن الانتقام من الشعر، بشكل أو بآخر، من خلال دفعه بالقوة الى حيث لا يطيق ولا يشتهي. كأن، على سبيل المثال، ينتقل به من فكرة الى أخرى، أو من مكان الى آخر، أو من زمن الى نقيض له، على نحو يفقد الشعر وعيه وقدرته على الإحساس بهويته، ليصبح بذلك أكثر انقياداً لصاحبه وأكثر طاعة له. ليس الأمر كذلك، على الأرجح، في النصوص الصادرة حديثاً للشاعر المصري عبدالمنعم رمضان: عن "دار النهضة العربية" في بيروت، 2007 بعنوان "النشيد" و"بعيداً عن الكائنات". وقد جُمعا معاً في كتاب واحد وهما منفصلان في الأساس. ولربما ساهم هذا الإصدار الموحد لمجموعتين مختلفتين في أن يضفي عليهما هذه الشحنة الإضافية من التوتر التلقائي واللهاث الدائم وراء المعنى الشعري البعيد. ومع ذلك، قد ينطوي هذا الأمر على سياق حيوي يضع إحدى هاتين المجموعتين في مواجهة مع الأخرى، ليس على سبيل أن يظهر كل منهما سمات خاصة به، بل على نحو يجعل من المشهد الشعري أكثر تنوعاً وتعقيداً وتوغلاً في ماهية الآخر.

معركة مع الشعر

قد توحي هذه النصوص، على كثرتها، وتعدد الصور الشعرية فيها، وتميّزها بإيقاع سريع للغاية، بأن عبدالمنعم رمضان يخوض معركته الأخيرة مع الشعر. يريد أن يستولي على الحالة الشعرية دفعة واحدة. ويرغب أيضاً في أن يستولي على ما لا يمكن الاستيلاء عليه من جسد الشعر وروحه. هذا انطباع، على الأرجح، أكثر منه حقيقة. وقد يغلب الانطباع على الحقيقة، خصوصاً في أجواء من التدفق الكثيف للأفكار والهواجس والانفلات المتوتر لتداعيات الذاكرة وهي تعيد ترتيب أوراقها وملفاتها إزاء الواقع المثقل بالهزائم والمتناقضات وانسداد الأفق بالمجهول. قد يبدو الشاعر معذوراً، على الأغلب، وهو يقارب نصوصه بشيء كثير من القسوة وقليل من اللين والهدوء. وقد يبدو كذلك مقنعاً ونحن نراه، في معظم النصوص، منهمك في أن يسبق الصورة الى حيث تولد، في العادة، في مناطق الظلال. يوحي إلينا رمضان بأنه يستعجل الوصول الى هذه المناطق بسرعة فائقة. وكأنه يمارس القفز الطويل ليختصر المسافة الى حيث يتحول بصيص الحلم الى انكشاف مروّع وأخّاذ للمشهد الشعري وقد أخذ يتعرى من ثيابه البالية. يكتب في مقطع من نصّ بعنوان: "أشجار أو أحجار في الطرقات": (قريباً سيسقط عرشي، وسوف أفارق عرشي. وبعد قليل سأعلم أني سأدخل في وحدتي، سوف أدخل نعشي...). قد لا يستهدف الشاعر، في هذا المقطع، نهاية لحياته بقدر ما يتأهب لبلوغ حالة من السكينة المطلقة المتمثلة بالنعش. في ذلك المكان المظلم المفعم بالظلال تموت الحركة، يلفظ التوتر أنفاسه الأخيرة، تقع الرؤية ضحية سهلة للحلم الذي يهرع الشاعر، في نصوصه، للارتماء النهائي في متاهته. قد نستدل بهذا المقطع، على أن الحركة السريعة المتوترة التي تستأثر بالنصوص جميعاً، إنما تنشد، في نهاية المطاف، ضرباً من الراحة العميقة التي لا يوحي بها الاستنفار العصبي للنبض الشعري في الكتاب. نتساءل، في هذا الإطار، هل كان الأجدر برمضان أن يختتم نصوصه بهذا المقطع دلالة على نجاحه في تخطي العقبات والعراقيل للالتحاق بركب الحلم الذي يتطلع إليه؟ لا يفعل الشاعر شيئاً من هذا القبيل. يحجم عن وضع هذه النهاية الهادئة لنصوصه الصاخبة التي تهمّ الى أن تفوز على الشعر في السباق نحو الحلم. حسناً فعل بامتناعه عن ذلك، وإلا لكان حكم على نصوصه بالإعدام. فبلوغ المرتجى في الشعر، نفي للشعر على الأرجح وإحالته على التقاعد المبكر، وإعلان في الوقت عينه بضم الشعر الى ممتلكات الذاكرة. ليس الشعر من هذا النسيج الذي يجعل منه قطعاً أثرية في متحف الشمع. بدلاً من ذلك يختتم رمضان كتابه بنص بعنوان "أمسية في يناير"، جاء فيه: (أحياناً أعتدل وأصل ولا يصل الأعداء ورائي.. أحياناً أتقدم أعلم أن حضوري واستحيائي.. أسحب من رف النافذة بصيصاً أغسله بالماء وأصنع منه قوارب ومناديل وأنزلها في جوف إنائي.. فإذا صعدت منها الآهة أتركها تتعلم.. كيف ستسرق من أبنائي قائمة ببيوت الريح... فإذا اندفق خصومي وابتلعوا قدمي ورأسي وابتلعوا الكتفين وخشب الصدر وأنسجة الرئتين وابتلعوا أحشائي تركوا قرب الباب نوافذ قلبي خالية بيضاء...).

التوتر والاستكانة

لعل في هذا النص ما يرجّح كفة التوتر والاستمتاع بالبحث الصعب عن الحلم على ما عداها. ويشير في الوقت عينه الى أن النعش الوارد في النص الآنف لا ينطوي على الاستكانة والخلود الى الراحة بأي ثمن. إنما يرمز، على الأرجح، الى الطمأنينة التي يبثها الحلم في ذاكرة الروح. غير أن هذه الأخيرة ليست من النوع الذي يدوم طويلاً. فالحلم في اللعبة الشعرية سرعان ما ينقلب على نفسه. والأغلب أنه يكره نفسه. لذا يبدو متلهفاً الى استبدال شكله وثيابه ومحتوياته بأخرى. إنه الأكثر سرعة في رفض نفسه. ليس له هوية ثابتة ولا كينونة محددة. هويته متغيّرة من نسيج ما يتطلع الى تحقيقه. وهذه مهمة من طبيعة المستحيل. يقول في النص أنه يسحب من رف النافذة بصيصاً يغسله بالماء ليصنع منه قوارب ومناديل وبيوتاً للريح. الصورة الشعرية في هذه الأسطر القليلة مركبة ومعقدة في آن، ومتوترة متشابكة على نحو أخص. الشاعر يغسل النور بالماء، وقد يكون العكس صحيحاً أيضاً. فالإثنان من شفافية مماثلة ينسكب أحدهما في الآخر على نحو تلقائي لينبثق منهما أشياء أخرى قد تبدو مغايرة في الشكل إنما متطابقة في المضمون. من ذوبان النور بالماء تولد القوارب وبيوت الريح. صورة مشحونة بإيقاع متغير سريع. الحلم ينقلب على نفسه مراراً وتكراراً. يبدأ بالنور ثم يتحول ماء فقوارب ومناديل وبيوتاً للريح. نلحظ في هذا السياق أن معظم عناصر هذا الحلم، من النمط المتحرك الذي لا يستقر على حال. رؤية متوترة مكوّنة من أشكال متوترة. تستبدل شكلاً بآخر بأقل من ثانية. المشهد بمكوناته استباقي إذا صحّ التعبير. نلحظ بوضوح جنوح الشاعر الى أن يستبق المفردة بالمفردة، الرؤية بالرؤية، المعنى بالمعنى. سباق حقيقي بين الشاعر وشعره، بين الشاعر ونفسه. وقبل هذا وذاك سباق بين الشعر والشعر على قاعدة أن ليس ما يتمكن من الشعر إلا الشعر نفسه.
هذه، على الأرجح، هي الوتيرة التي ترافق نصوص عبدالمنعم رمضان. غير أنها تتجاوز هذا الاصطحاب الى ما يشكل بعداً أعمق وأكثر دلالة على مستوى النصوص. وتيرة من هذا النوع لا تسير جنباً الى جنب مع النصوص فقط، بل تتلبّس الرؤية كذلك. تتسلّل الى المسام حتى الجذور. تتحكم بها. تقود حركتها. تأخذها من مكان الى آخر. من متاهة الى أخرى. من حلم الى آخر. فإذا بالرؤية تتوحد مع هذه الوتيرة في انتقالها الى كل الاتجاهات. يتملكنا إحساس بأن الشاعر يستخدم هذا الاندماج بين الإثنتين ليدفع بهما الى حدودهما القصوى. يذهب بهما أبعد فأبعد الى الحد الذي يخيّل إليه أنه أصبح بمقدوره أن يسبقهما معاً. أن يمتصّ طاقتهما بالكامل ليضخّها في قلب الحلم. من هنا، انتقاله العصبي من موضوع الى آخر، من صورة الى أخرى، من نص الى آخر قبل أن يستكمله أحياناً. لا داعي، والحال هذه، أن يتكلل النص بالاكتمال. قد تنضج صورته في نص ثان وثالث ورابع. وقد لا تنضج. لا عيب في ذلك طالما أن ماكينة التوتر تعمل بانتظام من دون أن تطلب الراحة لنفسها. يكتب في نص بعنوان "بهو آخر": (عندما سأموت، ستبلى الخرائط في جسدي، وأعث، وتنحل آلات جسمي، وتأكلني الحشرات التي ستموت وتنحل آلات أجسامها. سنصير نسيجاً جديداً بأعماق أرضك. لكنني في مكان بعيد عن الظن أحلم أن تتنزه روحي هنالك قرب أماكن لهوك. ما سوف أخشاه ألا تكون لروحي مواعيد دائمة للعطل...). يبدو واضحاً، على الأغلب، في هذه الأسطر، أن شحنة التوتر تنتقل مع الشاعر من الحياة الى الموت الى الحشرات التي ستأكل جثته، الى عودته من جديد الى من يحب. يترقب من تحت التراب المواعيد التي ستجمعه بها. الرؤية المتحركة في هذا النص أكثر توتراً وعصبية من تلك الواردة في مثيله السابق. يتجول الحلم في جغرافيا الموت بالوتيرة نفسها. وكأن لا فرق بين الحياة والغياب. قد تبدو الرؤية، في هذا المجال، أكثر حرية على ممارسة التوتر في الظلال حيث يتحول الموت ضرباً حيوياً من الحياة. والأرجح أكثر أهمية من الحياة نفسها. ومع ذلك لا يحيل الظمأ العميق الى رؤية الحلم وهو يتجسّد في الذاكرة، دون أن يظهر الشاعر اهتماماً ملحوظاً بالتفاصيل. يظهر ذلك في ولعه بمراقبة الحشرات وهي تنقض على جثته، ثم يتابعها بالعين المجردة وهي تتحلل مع الجسد ليصير الإثنان من طينة واحدة.

عكس التوقعات

يبدو أن الاعتناء بالتفاصيل هو من طبيعة التوتر الشعري في نصوص الكتاب. غالباً ما لا يتطرّق النص المتوتر الى الأشياء الصغيرة أو التافهة بذريعة الرغبة الجامحة في الوصول الى مناطق الظلال حيث يلوح الحلم في تكويناته الأولى. رمضان يسلك اتجاهاً مغايراً عكس التوقعات. يقول في نص بعنوان: "علّقيه قرب مدخل الغرفة" (عند آخر حيّز سوف تبلغه الروح الضالة، تحس دائماً أن شخصيتك قبل أن يكسوها اليأس، تلزمها أصابع نحات، وإزميل، وبعض احتيالات أخرى، وإن مكانتك ستغيم إذا لم تتعرف تواً على خط استوائك وعلى المدارات التي تخصك. فدائماً أنت في السرداب الذي يفصل الأرض عن سقفها، دائماً أنت أمام خشب الطاحونة، أمام المحاصيل، وخلفك عمال خائفون يحرضونك أن تختار بين هلاكين: أن تتأرجح إما فوق الأرض وإما تحت الأرض...). من الروح الضالة الى النحات والإزميل والسرداب والعمال الخائفين. صورة متداخلة، متشابكة، متناثرة على الأرجح. المشهد الواحد يصبح مشاهد متعددة متنوعة. كل منها يفترض بالضرورة إيحاءاته العائدة إليه. التفاصيل الكثيرة قد لا تبدو، للوهلة الأولى، شديدة التماسك تبعث على الاطمئنان لهذه الصورة المعقّدة. ومع ذلك، فهي متراصة، ينبعث أحدها من الآخر بسلاسة. نتساءل: هل تحتاج هذه الصورة المجزأة الى كل هذه العناصر وهي تنتقل بالشاعر من حالة الى أخرى؟ هل يحتاج الشاعر نفسه الى كل هذه المعطيات ليتمكن من إعطاء هذا المشهد حقه الشعري؟ الإجابة رهن بالشاعر نفسه، بمزاجه المتوتر، برؤيته المتشظية الى الكائنات والأشكال. والأغلب رهن باللحظة الشعرية ومكوّناتها في الذاكرة، وقدرتها على جعل الظلال صوراً شعرية مقنعة.

نصوص ذات رؤية داخلية وفوتوغرافية لا تصادر أشياءها وتفاصيلها ومحيطها بسهولة. يتكبّد صاحبها مشقة ليجعل هذه المكوّنات قابلة للتحوّل وإعادة التشكّل. نلحظ أحياناً أنه يتذمر منها لكثرتها، فينتقل من أحدها الى الآخر وفي ظنه أنه يفعل ذلك ليتجاوزها الى سواها في خضم السباق المتوتر بينه وبين الصورة الشعرية. ونلحظ في أحيان أخرى استيعاباً هادئاً لمضامين هذه الأشياء، فنراه وهو يقترب منها بهدوء، ثم لا يلبث أن تثور ثائرته من جديد فيعود الى عهده الأول بها. ومع ذلك تكاد صوره الشعرية أن تلتمع كلما انتقل من نص الى آخر. وقد تخفت قليلاً لتتوهّج ثانية.

المستقبل
الاثنين 27 آب 2007