(اللغات المهاجرة تصنع أبجدية مالمو)

فاروق يوسف
(العراق/السويد)

بابل الجديدة
من الاسفل كل شيء في طريقه الى الوقوع تمثال ليس للزينة. ساحة مالمو القديمة. شيء من تاريخ المدينة وجه في المياه.

بابل الجديدة
لقناة وهي تخترع جزيرة مترفة. حياة وردية. حلم النحات الاسباني الذي شقّ الفضاء

لا شيء في مالمو، عاصمة الجنوب الأسوجي وكبرى المدن في مقاطعة سكونا، ما يذكّر بأسوج. في الطريق إليها يتحقق المرء من ذلك الانفصال الذي تفصح عنه الطبيعة قبل الإنسان. بدلا من الغابات تمتد مساحات شاسعة من الحقول الخضراء. بدلا من البحيرات تملأ أنهار صغيرة وسواق وقنوات مائية الفضاء بدرجات متنوعة من السلّم الموسيقي. طرازها المعماري لا يذكّر بأسلوب البناء الأسوجي. حتى اللغة تكاد تكون مختلفة، من حيث انفتاحها على عوالم لغوية وافدة. إيقاع يبدأ باللسان لينتهي بطريقة العيش. مالمو هي بابل أخرى. مزيج من المهاجرين والسكان الأصليين الذين صاروا أقلية. هذا المزيج هو مادة الحياة في مدينة صار هاجسها منذ سنوات أن تندمج بأوروبا، مثلما كانت دائما. لكنها اختارت أن تنظر إلى الجنوب من علو شاهق يتناسب مع مكانها على الخريطة. تورننك تورسو، أعلى برج في بلدان الاتحاد الأوروبي وثاني برج في أوروبا بعد برج روسي، هو معجزتها منذ سنة 2005 وهو نقطة بيضاء في الأفق، لا تخطئها عين المسافر القادم بتلفته الموحش من الصمت الأسوجي.

1

جاهزة هي المعلومات: بعلو 190 متراً هناك 54 طبقة يعدّها المرء طبقة طبقة ولا يصل، ذلك لأن رأسه لا يقوى على الالتواء أكثر. لست في نيويورك، أنا في القارة التي لا تزال تمشي على أطراف اصابعها في الليل، خشية ايقاظ الأحلام النائمة، قلت لصاحبي المعجب بالبرج. الاسباني سانتياغو كالاترافا مفكر مدهش قبل أن يكون نحاتا ومعماريا خارقا. سانتياغو هذا صنع ذات يوم تمثالا تجريديا لجذع إنساني من غير أطراف ولا رأس، وهو ما يفعله كل النحاتين. غير أن تمثال سانتياغو صار في ما بعد مصدر إلهام لواحد من أجمل الأبنية وأكثرها أدهاشا في أوروبا، الامر الذي ساعد في وضع اسمه إلى جانب كبار معماريي عصرنا. تنظر إلى ذلك البرج من بعيد فترى ذلك الإنسان في حركة تعبّر عن عنفوان الجسد البشري ونضارته وقوته. وحين تقف تحت البرج تتسلل إلى جسدك موسيقى تلك الحركة. يكاد كل شيء يسقط على رأسك. لا يمكنك سوى أن تتحرر من أفكارك القديمة. ينتزعك البرج من يقظتك التي تفاخر بها ليحلّق بك بين حافات طبقاته التي تشعرك بأنها تطير في الفضاء. لا شيء ممكناً. تبدو الحواس في حالة عمى. تمحق الموسيقى كل محاولة لتفسير المادة بفكر مادي. هناك شعر كثير يهبط من النوافذ الزجاجية الواسعة. بياض المبنى يمزج الهيبة بالنسيان. يعذّبك الشعور بوجودك في لحظة يذهب كل شيء فيها إلى خفائه. أدور حول البرج رافعاً رأسي وأنا أنصت إلى موسيقى المياه التي تحوطه، وهي موسيقى يسمعها المرء أينما ولّى وجهه في أسوج. ولأن البحر قريب جدا أتساءل: لماذا أحاط سانتياغو مبناه بالماء النقي؟ مسافة أرادها من أجل النظر المنبهر. مسافة تخيلها كافية ولكنني لا أرى من خلالها شيئا، بل كل شيء من خلالها يغيب. مع ذلك فإني لا أشعر باليتم. ليس ذلك المبنى برجا عاجيا متخيلا ولا هو "امباير ستايت" في نيويورك ولا هو هرم مصري. ربما هو أشبه بالجنائن المعلقة. لا يشعر المرء وهو يقف أمامه بأنه يسلبه قدرته على التفكير بحرية في إنسانيته. كائنات مثلي تسكن هنا، ربما أكون يوما ما واحدا منها، ربما، من يدري. تورننك تورسو ليست الفكرة المعمارية ولا المنحوتة التي ألهمتها بل هي فكرة العيش في الحركة. لقد قدِّر لهذا البرج أن يقيم في سعته التي تفرضها حركة طبقاته. كل طبقة منها تكاد تقع على الأرض. كيف يمكننا أن نتخيل العالم من الداخل؟ مغامرة النوم في سفينة انكسرت دفة القيادة فيها. نحن في البحر. ريفيتي لا تفارق أفكاري بل ترعى خطواتي الحائرة باطمئنان في كل أرض وطئتها قدماي في أسوج إلا هنا، فهي تخونني. غير أن وفاءها يستيقظ حين أذهب قدما في اتجاه المنطقة السكنية المحيطة بالبرج (أكاد أقول قصر الخلافة). هناك عبقرية شعرية يكتشفها المرء منذ النظرة الأولى. عبقرية البناء العشوائي، لكن بترف من يتخلى عن السماء لأنه قبض بيديه على العرش.

2

البلاد كلها لن تكون موجودة هناك. أقصد أسوج الذي ينكرها الطراز التقليدي لمدينة مالمو. غير أن الإنكار هذه المرة (في الساحل الغربي منها) يصدر عن الرغبة في بناء حي عشوائي يلتصق بالبرج. لا شيء أكثر وضوحا من تلقائيته، ولا شيء أكثر غموضا من تلك التلقائية المتوحشة في الوقت نفسه. كنت أقفز بين تلك الجمل الموسيقية المتقاطعة وأنا أتذكر بلادي، من غير أن ألجأ إلى المقارنة. ربما رأيت هذا البيت في ميسان، ربما في بيروت أو في أثينا، غير أني أصمت في خشوع. هناك من يجلس في الشرفة من غير أن ينظر إليَّ. لقد اعتاد أن يكون موضوعا للنظر السياحي. حياة معروضة في واجهة زجاجية. إنهم هناك موضوع للنظر وأنا هنا موضوع للنظر أيضا. لا فرق بيننا إذاً. كل بيت من بيوتهم هو صورة عن جمال محتمل. جزيرة في إمكانها أن تكون مصدرا للضوء. يعيشون بالطريقة نفسها التي كنا نعيشها في قرانا وفي مدننا. خيال أوروبي مضاد لا يعرف شيئا عن المدن الهامشية التي بدأت على شكل محيط حول المدن الكبرى لتكون في ما بعد جوهر المشكلة التي تعاني منها بلدان كثيرة في العالم الثالث النائي. نسيان البرج هو ضالة هنا. يلتفت المرء إلى جاره فيجده في أناقة معمارية مختلفة، أناقة تريحه باختلافها. المهم أن لا يكون أنا، ضد لوكوربوزييه الذي شيّد حيّا للعمال يشبه روتين حيواتهم في العمل. هناك ايحاء بالطبقة الوسطى التي نعرفها في عالمنا المتخلف من غير أن تكون تلك الطبقة موجودة هنا حقا. ذلك لأن من يسكن في الميناء الغربي من مالمو لا يمكن سوى أن يكون ثريا. ومع ذلك فإن الثراء لا يبدو جليا ولا صادما باستعراضيته. لم أر إلا بيوتا متواضعة. أين يكمن السر إذاً؟ في هذا الحي لا يرى المرء شيئا من أوروبا. هناك استعارات جمالية من أماكن مختلفة من العالم ليس من بينها البلاد التي تنتمي إلى القارة الأوروبية. كل هذا التواضع إنما هو نوع من القناع التبشيري يخفي وراءه رغبة في الرحيل إلى مكان آخر. أزقة ضيّقة تذكّرني بأزقّة أصيلة في المغرب أو محلة الفضل في بغداد غير أنها لا تنكفئ على نفسها مثلما تفعل تلك الأزقة البعيدة بل ترى في الفضاء رفيقا منسجما مع خلواتها. أزقة للعيش لشعب لم يعرف من قبل معنى للعيش المشترك في الشارع. هنا تبدأ المفارقة. الشرفات مثل غرف النوم ممكنة للناظر. البيوت كيانات معرفية لا تتشابه. من أعتاد النظر إلى الأحياء السكنية التي تتشبه بالعلب الجاهزة لا بد أن يصاب بالدوار وهو ينقّل عينيه بين بيوت، تتنافس في ما بينها وكل واحد منها يكاد يقول: أنا الأكثر إختلافا. هل يشكل وجود هذا الحي في الميناء الغربي من مالمو نبوءة لنوع من العمارة، يغلب عليه الجمال المستقل؟ هي نبوءة حياة صادمة بالنسبة الى الكثيرين. لا يمكن الأسوجيين الذين اعتادت أعينهم النظر إلى النسق المعماري المنمط سوى أن يحتجوا على هذا القبح (وفق تصوراتهم) الذي غزا مدينتهم. من وجهة نظر بعض المتشددين فإن قيام البرج والحي السكني المحيط به هو إشارة الى تعاظم وجود الكتلة البشرية المهاجرة. وهو وجود صار يعبّر علنا عن قوة مشاركته في صنع شكل الحياة وربما جوهرها في هذا البلد الذي كان إلى وقت قريب بعيدا عن صدمات الهجرة. واجهات المحال التجارية غالبا ما تكون مزينة بالكتابات التي ليست الأسوجية من بينها. الباعة في الأسواق المفتوحة يروّجون بضاعتهم بلغات مختلفة: العربية والألبانية والإسبانية والفارسية وحتى الروسية. بابل أخرى هي مالمو. سمعت أحدهم يقول لصاحبه بلهجة فلسطينية: لماذا تعذب نفسك بتعلم اللغة الأسوجية في مدينتك الصامتة تلك بين بشر يلقون عليك التحية المقتضبة بإهمال، حين تنتقل إلى هنا ستنسى كل حرف تعلمته. الرجل محق في نصيحته. حتى في الدوائر الرسمية لا بد أن يعثر المرء على واحد من أبناء جلدته يجيبه بلغته وييسر له مشكلاته. ولكن امتعاض المتشددين يأتي الآن متأخرا. فمثلما صارت مالمو تتطلع جنوبا إلى أوروبا من علو برجها الشاهق، فإن تنوعها اللغوي والاجتماعي والديني صار المفردة الأهم في معجم فكرتها عن العيش. مالمو في وقت قريب لن تكون أسوجية خالصة، بل ستكون رمزا للعيش المشترك

النهار
21 يوليو 2008

أقرأ أيضاً: