فاروق يوسف

فاروق يوسف لا حاجة للسؤال عن أحوال الرسم في "ماي فير"، المربّع اللندني الآهل بالكائنات الهائمة من غير أن ترنو بنظراتها إلى نقطة بعينها في ركام المنسيات. لقد سبقتني إلى أزقة ذلك المربّع الملهم الكثير من الخطوات المتعثرة بظلالها وبظلال مَن كانوا يتبعونها خفية. هناك رسّامون انزلقوا إليها من مختلف انحاء العالم، في محاولة منهم لعرض تجاربهم في الرسم ومن أجل أن يكون الرسم فناً ممكناً في هذا المكان الذي لا يفارقه التاريخ الذي يمكر بذائقته، كلما ضاقت، ليكتشفوا بعد حين من الخسارة أنهم يحاربون في الأرض الحرام.
لقد سقط الفنانون في فخ التأويل والغواية الصعبة، فهناك من القاعات من صار مديروها يتلفتون بعيداً عن الرسم، كما لو أنه مرض مُعدٍ. وهو كذلك حقاً. الرسم مرض مُعدٍ. فالشغف به ومن خلاله بالعالم المتخيل الذي ينطوي عليه، هو حدث مربك لا يمرّ بالجميع في الدرجة المتخيلة نفسها وبقوة الكشف البصري ذاتها. تحدث الإثارة المريبة حين يصرخ اثنان في وقت واحد من شدة الانبهار: إنه الجمال! يا له من اكتشاف باذخ حين يضع اثنان أيديهما على النشيج نفسه. وهو حدث نادر، غير أنه كان يقع يوم كان الكثيرون يفكرون في أن رامبرانت لم يكن إلا إنساناً استثنائياً بعبقريته، غير أنه يمكن أن يُستعاد بيسر في زمن يُذكّر به. زمن يشبهه وهو الواقف بلباس حارسه الليلي بين عالمين.

في الشارع اللندني

الآن لم يعد الرسم وحده كفيلاً ترميم الصلة بين عالم نعيشه برخاء استعراضي تتقدمه ابتسامات قيّمة أفريقية ومساعدتها الشقراء القادمة من إيسلندا، وعالم آخر لا نفقه ألغازه التي لا يزال جزء منها مخبأ في مرسم فيلاسكيز. كان الرسامون الكبار يعرضون لوحاتهم في "ماي فير" بلندن من غير أن يكون مسموحاً لمَن يرى، في أن يبدي رأيه. فمَن كان يعرض في ذلك الشارع اللندني لا بد أن يكون في منأى من النقد المشاكس. غير أن تلك القداسة ستكون بمثابة كذبة ما إن يغادر الرسّام قاعة العرض. يبدو هواء لندن في ذلك الحيز المترفع بخبث متفائلاً. ولكن ما من أثر لتيرنر. لقد جلستُ لساعات أمام رسوم وليم الجالس على شاطئ بحر القرن الثامن عشر في "ناشيونال غاليري". كانت هناك مقاعد أمام لوحاته. لا بد أن تكون هناك مقاعد أمام تيرنر، وإلا تكون ادارة متحفه العريق قد أجهزت على ما بقي من ذكاء موظفيها. تيرنر هو الوحش الذي سيلتهم رسّامين كباراً قدموا من بعده: كلود مونيه بقرن، سي تومبلي بقرنين. متر من تيرنر ينطوي على عقود من التجريد الغنائي.
لن يتمكن المرء من رؤية لوحة من تيرنر كاملة، إلا بعد أن يتفحصها سنتيمتراً بعد آخر. لذلك كنت أتلصص عليه وهو يرسم، من خلال تركيزي على أجزاء بعينها، تكون مادة لمتعتي الجمالية خلال دقائق، ومن بعدها انتقل إلى أجزاء أخرى. تيرنر وحده كان ذروة الرسم. ولتحلّ من بعده القيامة. قيامة الرسم التي لن تستهلكه حجارتها المتساقطة. هذا رسّام يهب الغرفة التي تعرض أعماله صفة الكون الذي يغذي نفسه بنفسه. ينسى المرء كل ما عداه حين يرى تيرنر، بعواصفه البحرية. "ماي فير" كلها، برسّاميها ومديري قاعاتها وفاتناتها بعيونهن المكحولة من خلف النظارات الطبية واناقة العرض التي تلخص حضارة في الحواس، تساوي مربّعاً لا يبلغ ضلعه عشرة سنتيمترات من واحدة من لوحاته. هل كان الرسم في زمانه عزيزاً وكريماً إلى هذه الدرجة؟
يعترف مؤرخو الفن أن تيرنر كان رساماً استثنائياً في عصره. ولكن ماذا عن الرسم في ذلك العصر؟ ربما يقودنا ذلك السؤال إلى المقارنة حين نرى الرسّامين يبتذلون الرسم، يبسطونه، يزخرفون مفرداته، يجمّلونه بما ليس منه ويقايضون به خفة عقلية، صارت أبصارها تسعد لمرأى ما تعرفه. حينها نرتكب خطأ فاحشاً، يكون الإنسان ضحيته. هل أغمض تيرنر عينيه على يقين من أنه أفضل رسّامي عصره؟ أشك في ذلك. كل جزء من لوحاته كان بمثابة اختبار لقوة الرسم. شعور قلق لا يروق اليوم لأصحاب القاعات في "ماي فير" بعدما حطمتهم الأزمة الاقتصادية. وهي الأزمة التي وقع الفن ضحية لها من غير أدنى حق.

شيء ما يستحق النظر

كان يوسف الناصر، وهو رسام عراقي يقيم في لندن منذ ربع قرن، قد أخبرني أن هناك سوقاً للرسّامين يقام كل أحد على سياج حديقة "هايد بارك" الذي لا يبعد عن الفندق الذي أقيم فيه سوى عشرين متراً. حذّرني الناصر بقوله: "عليك أن لا تفكر بتيرنر، غير أنني على يقين من أنك سترى رسوماً تستحق النظر". لم أقل له إني بعد "ماي فير" صرت مستعداً للقبول بحقائق عن الرسم مختلفة. لم يكن ضرورياً أن أكون جزءاً مما يقع، غير أن الضروري يكمن في التعرف إلى ما يجري من حولنا. "ليكن"، قلت لنفسي، "كان الرسم دائماً مصدراً للألم والمتعة مجتمعين".
لديّ فكرة سيئة عن رسّامي الأحد. لا يتعلق سوء الفهم بهم شخصياً، فهم أحرار في ما انتهوا إليه من اقتناعات تتعلق بصلتهم بالرسم، بل يتعلق بما ينتج من تلك الاقتناعات من إصرار مجنون على أن تتخطى تلك الممارسة حدود الهواية إلى الاحتراف. وقد لا أبالغ في القول حين أقول إن عدداً كبيراً من رسّامينا العرب كانوا نوعاً من رسّامي ذلك الأحد، الذي يتمنى المرء لو أنه يمر من غير موتى. لن يكون هذا الخبر سارّاً بالنسبة إلى مؤرخي الفن العربي. لقد ضاع جهد الكثيرين في متابعة ما هو ممكن، حيث لا يقع الرسم الحقيقي. ولأني كنت مدركاً لما يمكن أن ألاقيه من عذاب في سياحة اقترحها عليَّ صديقي الناصر، فقد عزمت أن أكون بارداً مثل سائح نموذجي وأنا أجتاز العشرين متراً التي تفصل فندقي عن المكان كنت كمن يختبر قدرته على ضبط ضغط الدم في جسده.
كان هناك رسّامون حقيقيون، غير أنهم أضاعوا البوصلة.
لم تعد أعمارهم تسمح لهم بالذهاب مرة أخرى إلى "ماي فير". إنهم في سن اليأس الفني وهم يعرفون أن مضادات الشيخوخة لم تعد في متناول أيديهم. هناك شيء من الخيانة شعرتُ به وأنا أتأمل رسوم القلة التي نجت بالرسم من غير أن تنجو من لعنة الحياة. المكان نفسه كان موبوءاً بحس تجاري رخيص في مقاصده. لقد كان الرسّام أدنى درجة من المشتري، الذاهب على عجل إلى بيته بلوحة من فنان فقير يقيم في لندن. أليست هي ضريبة عالية؟
"منذ ثلاثين سنة أقيم في لندن ولم تتح لي فرصة واحدة للعرض في احدى الصالات المرموقة. كانوا يعتذرون مني بمجرد سماع اسمي"، يقول لي رسّام بوسني كنت قد أعجبت برسومه. كان الرجل يجلس على كرسي وحيداً كما لو أنه غريب عن رسومه المعلقة على السياج. كم كان العالم سيئاً إذاً. لم أقل له إن العالم الذي كان يتطلع إليه لم يعد متاحاً حتى لتيرنر لو عاد حياً. قال لي: "هل قلت إنك عراقي؟". أومأت بالإيجاب’، فقال "إنكم مجانين مثلنا" وصار يضحك.
بعد ساعتين من المشي صرت أشعر بالعته البصري. لم يعد الرسم يهمّني بقدر ما كان يهمني أن أعود إلى سيرتي إنساناً في هذا العصر. كانت الرسوم الرديئة قد سلّمتني إلى الاحباط في أحد كنت أتمناه خالياً من الموتى.

النهار- مايو 2014

أقرأ أيضاً: