في مسألة ارشيف الفن في العراق الجديد

فاروق يوسف

فاروق يوسف بداية تسعينات القرن الماضي، ولم يكن الحصار الدولي الذي فُرض على العراق قد التهم الجزء الحيوي من كرامة العراقيين اكتشف زيد محمد صالح ان لوحة أبيه محمد صالح زكي (1888 - 1973) المعروضة في متحف الرواد قد استبدلت بأخرى مزورة.
صرخ الرجل الذي كان هو الآخر رساما، غير أن صرخته لم تصل. حينها لن يكن تزوير الأعمال الفنية مهنة رائجة أو حتى معروفة في العراق. وكما ارى فإن من صنع نسخة مزيفة من لوحة الفنان العراقي الرائد كان هو الآخر رائدا في مجال عمله. بعد تلك الحادثة المؤلمة صرنا نسمع عن انشاء ورش فنية لتزييف الاعمال الفنية. كان العاملون في تلك الورش يفاخرون علنا وباطمئنان بانهم يصنعون نسخا طبق الاصل عن الاعمال الفنية الاصلية، من غير أن يرف لهم جفن خوفا من القانون. ألم تكن هناك فقرة في القانون العراقي تنص على معاقبة جريمة من هذا النوع؟ هذا ما لا أعرفه. غير أني أعرف أن هناك عشرات اللوحات قد تم تزويرها وتسللت إلى السوق، بل أن بعض المزورين كانوا يرسمون أحيانا نيابة عن الرسام بعد موته (حدث ذلك مع الرسام الرائد فائق حسن حصرا). مزيج من التحدي والفكاهة دفع بسوق الاعمال الفنية العراقية الى مستنقع الريبة والشك والمساءلة.

ولكي تستكمل المأساة صورتها البشعة فقد تم نهب مقتنيات متحف الفنون ومتحف الرواد في الايام الاولى من الاحتلال الامريكي عام 2003. كانت سلطة الاحتلال يومها قد عطلت العمل بالقوانين العراقية في محاولة مفضوحة لشرعنة القتل واللصوصية والاستيلاء على الممتلكات العامة. لم تسرق المقتنيات الفنية بطريقة عشوائية من قبل لصوص حضروا بالصدفة إلى المكان، بل تم نقل تلك المقتنيات بطريقة منظمة وبعربات حمل كبيرة إلى جهة مجهولة. انجزت الجريمة بدقة تكشف عن معرفة مسبقة بطبيعة المادة المسروقة والقيمة التي تنطوي عليها. كان هناك تصنيف فني لم تربكه اللحظات الحرجة التي يعيشها اللص. كان اللص متأكدا مما يريد الوصول إليه وهو على معرفة مسبقة بمكان صيده الثمين. هل كان اللصوص من أبناء البيت؟ لا أحد من المتألمين لما حدث يعرف. غير أن هناك جهات صارت في ما بعد تعلن عن استردادها لبعض تلك الاعمال الفنية المسروقة. في طبيعة الحال فإن تلك الجهات كانت قد تعرفت بطريقة أو بأخرى على اللصوص. ولكن السؤال هو: "هل كانت تلك الأعمال المستعادة على قلتها هي ذاتها الاعمال الأصلية؟"

حدث يحتمل الكثير من التأويل المؤلم. فما جرة للوحة محمد صالح زكي لا يغيب عن الذاكرة.
ولأن اللصوص قد تمتعوا بالحصانة التي تكفلها حالة تعطيل القوانين، في بلد هدمت دولته وكان شعبه يتعرض للإبادة والاذلال والقهر، فقد كان السؤال عن أصالة عمل فني نوعا من الترف، بل نوعا من السخرية السوداء. وهذا ما استفاد منه البعض حين طرح فكرة البديل الافتراضي عن متحف صارت مقتنياته موضع شك، تحت غطاء الحفاظ على التراث الفني وتأصيله والتعريف به. وليس صدفة أن يتزامن ذلك الطرح مع انتشار ظاهرة منظمات المجتمع المدني التي أنشأتها ورعتها سلطة الاحتلال وأمدتها بالأموال الطائلة. كانت سلطة الاحتلال (ومعها منح من حكومات وجامعات امريكية واوربية كثيرة) كريمة في توزيع الأموال على عراقيين قدموا إلى العراق من الخارج حاملين مشاريع وهمية، يتناغم الاعلان عنها مع رغبة تلك السلطة في تشتيت النظر بعيدا عنها من خلال صنع سراب من أمنيات يعرف الطرفإن (سلطة الاحتلال والقائمون على تلك المشاريع الوهمية) أن الوصول إليها هو نوع من الخيال في ظل اختلال ميزان القوى والذي نتج عن الاحتلال والقوى التي تواطأت معه. كان (ارشيف العراق للفن التشكيلي) وهو موقع الكتروني ليس إلا، واحدة من تلك المنظمات التي لم ولن يتابع عملها أحد. هناك اتفاق ضمني، ترعاه اخلاق المحتلين لن يسمح بمساءلة أي متعاون ساهم في صنع ذلك الظرف التاريخي المرعب الذي كانت الفوضى واحدة من أهم سماته والذي أنتج في ما بعد أطفالا عراقيين مشوهين في الاجنة.

وكما هو معروف فإن (منظمات المجتمع المدني) وكان عددها بالالاف قد تبخرت من غير أن تترك أثرا يشير إليها. بالنسبة لارشيف الفن العراقي فإنه لا يزال مقيما على الانترنيت في صيغته الأولى، باعتباره جثة.
ولكن هل كنا في حاجة حقيقية، فيما البلد يتعرض مرة أخرى للاحتلال، إلى أرشفة الفن العراقي الحديث؟ سيكون هذا السؤال سخيفا إذا ما عرفنا أن المادة الملهمة لذلك الارشيف (اقصد الاعمال الفنية الاصلية) كانت قد سرقت تحت أنظار المحتل، بل وبرعايته. وفي الاطار نفسه فقد أدهشتني حماسة بعض العراقيين للاتفاق الذي ابرمته (الحكومة العراقية) مع شركتي ياهو وغوغل لإنشاء متحف عراقي افتراضي. أبهذا اليسر يمكننا أن نرضى أن يكون تاريخنا المنهوب مادة افتراضية؟ اعتقد ان الذين وقعوا الاتفاق لم يفكروا بالخبز الذي سيورد يوما ما إلى شعبنا افتراضيا. بالنسبة لهم فإن الآثار المنهوبة ليست سوى حجارة. هي مجرد أوثان لإقوام لم تتعرف على الإسلام بعد. ولكن المثقفين تعاملوا من جهتهم مع ذلك الأمر بقدر عظيم من السذاجة والبلاهة العمياء.
حين تصفحت أرشيف العراق للفن التشكيلي كان لدي الشعور نفسه.

لتذهب الأصول إلى الجحيم، لدينا ما يمكن أن نتصفحه، وإن كان مادة هوائية، لا يعرف أحد أين تقيم. ولكن القائمين على ارشيف الفن العراقي الحديث يحرصون في تقديمهم لمشروعهم على الحديث عن أن ذلك المشروع يهدف إلى استعادة الاعمال الفنية المنهوبة. كيف؟ لا أحد يدري. وكما أرى فإنهم يتصرفون بكل تلك الثقة انطلاقا من أن تلك الاعمال لم توثق. مَن قال ذلك؟
لقد ذهبوا إلى البلد ولم يروه. كانت حواسهم تعمل بطريقة مختلفة.
كان شاكر حسن آل سعيد قد ألف كتابه الضخم (فصول من تاريخ الحركة التشكيلية العراقية) مستندا إلى ذلك الارشيف الذي كان عامرا بوثائقه المصورة. وإذا ما كان اللصوص قد أحرقوا نسخة من ذلك الارشيف يوم نهبوا مركز الفنون، فإن هناك نسخا كثيرة منه منتشرة بين بيوت النقاد والفنانين العراقيين يمكن الحصول عليها بيسر. ولكن هل ينهي ذلك الانجاز المشكلة؟ الفن العراقي الحديث ليس أرشيفه. لو كان الأمر كذلك لكان من حقنا أن نطلب من شركة غوغل أن تنتج لنا بلدا يصلح للعيش.
لا فائدة.
صرخة زيد محمد صالح لم تصل بعد.
أنا على يقين من أنها ستصل يوما ما. لن أكون متفائلا فأقول انها ستصل اليوم أو غدا. ولكن غدها ممكن في كل الأحوال. كان زيد يبحث عن والده ولم يجده، وجد أبا بديلا فصرخ هلعا. الفن العراقي ليس له أب. هذا مؤكد. أبناؤه موزعون بين القارات ولكنه لن يرهن ماضيه لمجموعة من السماسرة ومحترفي انتهاز الفرص، بالرغم من أن حاضره قد ذهب بين الأقدام. أقدام المتاجرين به والمتبرعين لأطفاله كذبا والحريصين على فطرته والساهرين على غيابه. ولكن ماذا عن مستقبله؟ لا أحد يفكر في مستقبل الفن العراقي.

أعتقد أن واحدة من أعظم مهمات ارشيف العراق للفن التشكيلي (لو لم يكن مشروعا وهميا) تكمن في التفكير بمستقبل الفن في بلد تنتظره حروب مستقبلية كثيرة، طائفية وعرقية، نص عليها دستوره الذي كُتب في اللحظة نفسها التي كان فيها المؤرشفون يتحدون التاريخ من أجل أن يصنعوا للماضي ابهة تتسم بالرخاء. ولكن ما يجري للفن في العراق الجديد انما يؤكد أن البلد كله ذاهب إلى نقطة اللاعودة. وصلني مؤخرا اعلان عن معرض بعنوان (الحسين) شارك فيه عدد ممن كان البعض يحسبهم رسامين طليعيين. ليست المشكلة في الامام الحسين ولكنها في من اتبعه بعد مقتله من المنافقين. كان ذلك المعرض واحدة من لحظات النفاق. تلك اللحظة لا تحتاج إلى الارشفة. ذلك لانها تفصح عن خيار مستقبلها. فإذا ما كان اللصوص المجهولون (هم ليسوا كذلك بالنسبة للبعض) قد سرقوا ماضي الفن العراقي فإن مستقبله صار بين أيدي متعهدي حفلات، حسب الطلب.
وكما أرى فإن الفن في العراق لا يحتاج اليوم إلى أرشفة وهمية.
إنه يحتاج إلى من يعيده إلى صوابه ولا يزيف أمنياته.

2012-05-25

أقرأ أيضاً: