فاروق يوسف

في المسافة ما بين معنى أن نرسم ومعنى ما نرسم يعترض الرسم طريقنا باعتباره هدفا لا يمكننا الاستغناء عنه من أجل فهم ما يجري لنا. حسن حداد (رسام عراقي يقيم في لايبزك ـ المانيا) لا يستغني عن الواقعة البصرية وهو يحاول القبض على نبوءة ما.
شيء ما يقع بين ثنيات الواقعة البصرية. شعوره بأن هناك ما يحدث في الخفاء يدفعه إلى مزج حدسه التصويري بمفردات مستلهمة من خزانته المعرفية. يعرف أن في إمكان عينه التي ترى أن تهيىء له مادة للتأمل، غير أن تلك المادة تظل صامتة مثل أصباغه. ما يهمه حقا أن يقع الرسم، فاصلة بين زمنين: زمن الواقعة وزمن الحقيقة. في رسومه يقتفي الرسم أثر عزلته: واقعة متخيلة تستسلم لمزاج يد تجرب اللعب بالأصباغ كما لو أنها تتعرف عليها للتو، جاهزة لتتخطى ما تراه. هذا الرسام ينشط خيال عينيه مرتين: مرة حين ينظر إلى موضوعه مباشرة ومرة ثانية حين يسعى إلى محاكاة صورة خيالية لا تسعى الى الشبه. محاكاة تتقصى السر ولا تحرص على المظهر كثيرا. علينا أن نصدق الصورة لكن في المقابل علينا أيضا أن نصدق خيالها المتمرد.

يكتب حداد يومياته من خلال الرسم. يوميات الغريب الذي يكتشف عالما عاكفا على عزلاته. في هذه الحالة يحتاج المرء إلى لغة مختلفة. لغة لا تكتفي بالوصف، بل تتجاوزه إلى التماهي مع ألم يجاوره. ليست نظرة الغريب التي يلقيها الرسام مفخخة بالحنين بقدر ما تعبر عن رغبة استفهامية تنطوي على فكرة مغايرة عن واقع، صار بمثابة ماض. مع هذا الرسام لن يكون الرسم مجرد بداهة واقعية. ففي لحظة الرسم يكون الرسام حاضرا بقوة بحثه عن المصير. 'أنا هنا لكي أكون موجودا في الصورة، من خلالها، وفي بعدها التخيلي'. يومياته البصرية هي تمارينه التي يؤكد من خلالها قدرته على مقاومة المحو. وهي مقاومة يمكنها أن تختصرسبل العيش الجديد كلها. وكما فعل غويا من قبل يشير حسن حداد إلى محنته: كائنا يبحث عن معنى شخصي وسط ركام المنسيات. لا يكتفي بما يرى بل يعنيه أن يكون موجودا في طريقة النظر إلى رسومه. هو الكائن الذي لا ينجده أحد. الغريب الذي لا يثق أحد فيه. لن تكون طريقته في النظر تقنية عابرة، بقدر تؤسس تلك الطريقة لفكرته عن وجود ينشأ خارج جسده. حين ينحرف الرسام بالوقائع في اتجاه حدسه فانه لا يخون عينه بقدر ما يحاول أن يكون أمينا لأسئلة تلك العين الحائرة.

أكلُ هذا من أجل لحظة عيش غير مؤكدة؟ تتساءل الصورة ومن بعدها المتلقي. يهمنا أن نصطحب المفهوم الى خلاصاته. هناك حيث تتشظى المعاني. لذلك لا يرسم حداد مشهدا ثابتا ولا تاما. وهو ما كان جليا أكثر في رسومه عن الحرب الذي تركت بلاده حطاما. في كل جزء من تلك الرسوم هنالك قسوة تلاحق بشرا منسيين، ملقى بهم خارج التاريخ. غير أن الرسام لا يتخلى عن حدسه: هناك شيء ما يحدث في الخفاء. لا يستثني الشقاء أحدا. الطبيعة هي الأخرى تتألم. الصورة وهي تشقى خرافة كل يوم. يتوقع المرء أن يتعرف على جثته وسط ذلك الركام البشري فيتساءل: 'أتراني كنت هناك دائما؟ ما معنى العيش إذاً؟' فيما يتساءل الرسام: 'ما معنى الرسم في اللحظات العصيبة؟'

هناك صور، غير أنها تحقق تأثيرها الماحق بالرسم ومن غيره. أهذا يكفي؟ حداد وهو ابن صنعته الخيالية يرى الى الصورة كونها الخطوة الأولى التي يبدأ فيها طريق الحقيقة. تلك الصور القادمة من بلاده تيسر له أن يمزج هلاكه الشخصي بهلاك بلاد لم يعد التعرف عليها نوعا من البداهة. ينجح الرسام من خلال سلسلة من الهذيانات البصرية المتلاحقة في الوصول إلى أعماق الصورة ليرى ويُرينا بلادا تقيم على حافة القيامة تشبهه في غربته. إن مبدأ تفكيك الصورة الذي أتبعه الرسام ينطوي على رغبة في تأليف عالم صوري هو مزيج من عالمين تعبيريين: عالم الصورة لذاتها وعالم يستخرجه الرسام من أعماق فكرته عن الرسم، سلوكا ارتجاليا يهب الصورة خيال مصيرها.

يمكن أن يُدرج أسلوب حسن حداد في الرسم ضمن تيار الواقعية النقدية. وهو تيار فني ينافس التعبيرية في التلصص على عالم الادب. سيكون علينا إذاً دائما أن نبحث عن المعاني، إذا لم نتعثر بها في طريقنا إلى فهم ما يجري من حولنا. يؤلف هذا الرسام مشاهده من مزيج غير متجانس من الرؤى. رؤى بصرية لا تكتفي بما تلقيه علينا من تجليات شكلية، بل وأيضا بما ينتج عنها من أفكار ومعان. وإذ تتجاور تلك الرؤى فان أي واحد منها لا يظهر أي نوع من الانجذاب إلى ما يحيط به. عوالم منفصلة، بعضها عن البعض الآخر، يتملس حداد من خلال عكوفها على تفاصيلها الطريق إلى فكرته عن عالم معيش صار يتوزع بين أضداده: الظاهر والباطن. الواقعي والمتخيل. المسالم والعنيف. المؤقت والأبدي. عجينة أصباغه تظل مشدودة إلى خلاصة لا تعرف طريقها دائما إلى السطح التصويري. تعلم هذا الرسام أن لا يثق بما يراه. لنقل انه يختبر ما يراه بعين نقدية يغلب عليها الشك. تظل الواقعة رهينة لما لا يظهر منها. لذلك تبدو رسوم حداد كما لو أنها تقتفي أثر خيال تلك الواقعة. وما ذلك المسعى إلا تعبيرا عن الحيرة التي تظلل الواقعة، اية واقعة من جهة صلتها بالحقيقة. فهل صار الواقع يحلم أم أن الحقيقة هي التي صارت تخرج رأسها من بين الأوهام؟
لا يخفي حسن حداد قلق يده في مواجهة ما لم يرسم بعد. شيء ناقص يظل عاكفا على خوائه التعبيري. وهو ما يفسر اصرار الرسام على أن يترك مساحات من لوحاته كما لو أنها لم تكتمل بعد. تذكرنا تلك المساحات بعجزنا المزدوج في التعبير وفي التلقي. وهو عجز لا ينفصل عن غموض المادة التي نستخرج منها حكاياتنا.

بالنسبة لهذا الرسام، وإن كان شديد التعلق بالمعنى، فان الرسم لن يكون الطريقة المثلى لقول كل شيء. ربما لان نعيم الجمال من شأنه أن يخفف من جحيم المعاني. ربما لأن الحواس وهي خلوتها تكون في مزاج رائق، بحيث يحق لها أن تتفادى المرور بالمعدن لصلب الذي تتكون منه التجربة. حسن حداد يمس ذلك المعدن برقة فلا يخدشه. تنزلق عليه نظرته لتطوق حساسيته بحنانها من غير أن تغوص في وديان شقائه.
هذا رسام يسعى إلى انقاذ الرسم من بؤس المعاني الواقعية.

2011-07-19

أقرأ أيضاً: