فاروق يوسف
(العراق/ استوكهولم)

(قصائد ترانستروم باللغتين السويدية والعربية وبريشة مظهر أحمد)أكبر شعراء السويد الاحياء توماس ترانستروم (من مواليد العام 1931) صار معروفاً عربياً. فبعد ترجمتين لاعماله، الاولى قام بها علي ناصر كنانة والثانية قاسم حمادي وأشرف عليها أدونيس، يظن المرء أن هذا الشاعر الذي لا يكف عن السفر والحضور والقاء الشعر والمشاركة في اللقاءات الثقافية على رغم اعاقته الجسدية (لا يتحرك ولا يتكلم إلا قليلاً أو من طريق زوجته) صار ميسراً بالنسبة الى العرب، ولكنه كما أرى ظن في غير مكانه. فترانستروم هو شاعر صعب، تأخذ المعاني في شعره منحى غامضاً مع أن لغته لا توحي بقدر كبير من ذلك الغموض. شاعر تحضر تأملاته ببطء، وهو في ذلك انما يخلص الى تقنية الروح السويدية التي تميل الى استخلاص النتائج قبل الشروع في أي فعل. معان باردة ومتمنعة حتى في أقصى تجليات الحب، وهو ما تكشف عنه الاشارة ويبلغه الايحاء. منذ أول كتبه الشعرية «17 قصيدة» الذي صدر عام 1954 كانت القصيدة في نظره حقلاً لاكتشاف الصور التي تتلاحق وتتصادم وتتراكم لا لتصف المشاهد التي تعالجها بل لتنفذ عميقاً الى المشاعر الشقية التي تلهمها وجودها. ويمكننا القول إن شعر ترانستروم هو شعر صورة لكنها صورة مخادعة، لا تقول تفاصيلها إلا القليل من الحقيقة. هناك دائماً شيء ما لم تلتقطه العين التي تشكل تلك الصورة، شيء هو أشبه بالخيط الذي يتسلل خفياً ما بين سطور القصيدة ليشكل عصبها التعبيري. ذلك الشيء السري والملتبس هو ما يمنع الصور من أن تكون مصدراً لحقيقة ما. يقول: «ينهض واقفاً بقامته كلها أمام الجبل/ إنه صدفة حلزون أكثر مما هو جبل/ بيت اكثر مما هو صدفة حلزون/ ليس بيتاً لكن، ثمة غرف كثيرة».
شعر ترانستروم لا يحتمل أية اضافات تأويلية، بالقراءة أو الترجمة على السواء. لغته المتوترة تشد مفاصل الجمل بعضها بالبعض الآخر كما لو أنها تعجن الصور لتنتج مادة نضرة وطرية تغري العين بتخيل تحولاتها. وهو ما أغرى الرسام العراقي مظهر احمد المقيم في السويد منذ عشرين سنة الذي يدير في مدينة فالون واحداً من أكبر محترفات الكرافيك، في التماهي مع تلك المادة واعادة استعمالها لانتاج صور تقود الى عالم ترانستروم الشعري.

الغاليري أو «قاعة العرض» قصيدة ترانستروم اتخذها الرسام مظهر أحمد مادة لدفتره أو كتابه بتقنية الحفر الطباعي، الذي سيتم تدشينه في مدينة «ماريا فريد» جزء من ترينالي الكرافيك الذي يقام للمرة الاولى في السويد. وهي قصيدة اشباح، كل وقائعها غير مؤكدة غير أنه ليس هناك ما ينفي وقوع تلك الاحداث إلا ذلك الشك الذي يتسلل من كلمات الشاعر نفسه. قصيدة تعبر عن وقائع محتملة، يمتزج من خلالها الوهم بالذكرى لاحياء يأس متجذر أو الاحتفاء به. يصف ترانستروم كعادته وبطريقة مخادعة، تفاصيل مقتطعة من اجزاء مختلفة من حياته كما لو أنه ينشئ متحفاً صغيراً للحضارات في غرفة من فندق على طريق دولي استلقى فيها صدفة. العين التي تصف استعملها مظهر أحمد مباشرة في صفتها ممراً يقود الى الروح، حيث الأشياء التي تمتزج بعضها ببعض ليكون ذلك الامتزاج فرصة لها من أجل أن تفلت من أشكالها المحددة. ما لم يقله الشاعر هو بالضبط ما تحاشى الرسام تصويره على رغم أنه ظل مشدوداً اليه كما فعل الشاعر قبله.

«يحدث لكن نادراً/ أن أحدنا يرى الآخر»: حرص الرسام على أن يرى الشاعر واقعته المتغيرة بالتحديد من وراء تلك الأسيجة التي امتلأت بها القصيدة. وهي اسيجة تخترق الزمن، لتشكل مناخاً نفسياً غامضاً، عناصره البشر الشبحيون مثلما الطبيعة المتغيرة. لذلك فانه ملأ رسومه بالخطوط من غير أن يهبنا إلا أشكالاً مائعة ومنسابة وغير محددة لتكون ملهاة لأعيننا المتلصصة. تحاشى الرسام الوصف خشية أن لا يقع في المصيدة التي نصبها الشاعر: صوره التي هي تجسيد لفكرة سراب زمني. فترانستروم في قصيدته لا يصف طريقاً بل يشيد متاهة، وهو ما يجعل من اللجوء الى التوضيح رجاء ساذجاً. لا يضع الشاعر في متناول ايدينا خرائط نهتدي من خلالها الى الطرق التي تصل بنا الى هدف بعينه، بل كان همه منصباً على أن نجرب الضياع الذي عاشه في لحظة ما من لحظات عمره. وهي اللحظة التي صارت بالنسبة اليه أبداً. وحين اختار مظهر أحمد هذه القصيدة دون سواها من قصائد ترانستروم ليرسمها فانه اراد أن يقدم قراءة صورية لحياة شاعر هي أشبه بالمتاهة.

من خلال مشروعه هذا ينضم مظهر احمد إلى قلة من الرسامين العرب غامرت في قراءة الشعر العالمي المعاصر صورياً (العراقي هيمت والسوري الراحل صخر فرزات حصراً). وكما أرى فإن ما فعلته هذه القلة انما يعبر عن حراك مفهومي ينقل تجربة التفكير بالرسم الى آفاق أكثر سعة من محاولة الاندماج الساذجة (بحسب التصنيف السياسي). فها نحن أمام رسامين عرب يقترحون موقف التماس المباشر بالمنتج الابداعي الغربي، بل ويدخلون الى عمق التجربة في صفتهم رواداً لمحاولة في التنقيب. وهي محاولة قد يفشل فيها الكثير من اندادهم الغربيون. ولهذا يمكنني القول إن هذا النوع من الرسامين انما يشق درباً للثقافة العربية يخرجها من حدود استهلاكها المحلي ليبعث فيها شيئاً من الأمل. وهو في هذه الحال أمل يعد الآخر مثلما يعدنا بوجود مختلف. مظهر أحمد في صلته بتوماس ترانستروم هو محاولة أخرى لارتجال ذلك الامل.

الحياة
26/07/2007

أقرأ أيضاً: